عميد "آثار القاهرة" الأسبق يرد على تصريحات إبراهيم عيسى بشأن "الجبرتي"

أخبار مصر

الصحفي إبراهيم عيسى
الصحفي إبراهيم عيسى والدكتور حمزة الحداد

علق الدكتور محمد حمزة الحداد، عميد كلية الآثار جامعة القاهرة الأسبق، وأستاذ الآثار والعمارة الإسلامية، ومستشار رئيس جامعة القاهرة السابق، على تصريحات الإعلامي إبراهيم عيسى، حول من أسماه بشيخ المؤرخين عبد الرحمن الجبرتي، وهو أحد أشهر المؤرخين المصريين في القرن 18 ميلادي، وأوائل القرن الـ19 وهو عبد الرحمن الجبرتي، صاحب الكتاب  الأشهر المعروف بعجائب الآثار في التراجم والأخبار، على حد قول الحداد.  

وكانت تصريحات عيسى، قد صدرت أثناء حفل توقيع روايته الجديدة بمركز جسور الثقافي التابع للكنيسة الأسقفية، يوم السبت 12 فبراير 2022، حيث قال “إن غالبية المؤرخين مطعونين في عواطفهم ومن أمثلتهم الجبرتي وهو أحد أشهر المؤرخين؛ فقد كان سلفيا وهابيا ومن ثم علينا أن نعرف أن كل آرائه هي رؤية وهابية للأحداث”.

وقال الحداد ردًا على تصريحات عيسى، “قلنا مرارًا وتكرارًا إننا لا يجب أن نقيس الماضي  بمقياس الحاضر فلكل عصر ثقافته وظروفه المختلفة، والجبرتي ولد وعاش ما بين 1754 و1824_1825م ودفن في قرافة المجاورين في صحراء المماليك، وقبره ما يزال باقيًا، والجبرتي من عائلة علمية ولم يقنع بالتعليم التقليدي في الأزهر الشريف، وأضاف إليه علوما أخرى كالهيئة والفلك والطب والحساب وهي ما كانت تعرف بالعلوم الوضعية وحاليًا العلوم الطبيعية أو التطبيقية، وكان الجبرتي مسلمًا سنيًا معتدلًا”. 

وتابع الحداد، أن الجبرتي مال في صدر شبابه إلى التصوف مثل غيره من أكابر علماء عصره، ولكنه لم يتعمق فيه؛ وانتقد في كتابه الشهير، التصوف والمتصوفة الذين انحرفوا عن الطريق المستقيم ومالوا إلى البدع والكرامات؛ ذلك لأن العقلانية التي اكتسبها من دراسة العلوم الوضعية ابتعدت به عن الاعتقاد بهذه الأشياء. 

وأشار الحداد إلى أن الجبرتي كان يعتبر مؤرخًا على مفرق الطرق، فهو عاصر الفترة الأخيرة من تواجد المماليك في دوائر الحكم بمصر، وعاصر الغزو الفرنسي لمصر 1798_1801م، وأيضًا عاصر العشرون عامًا الأولى من حكم محمد علي باشا الكبير والي مصر وبداية عصر الحداثة 1805_1824_1825م. 

ورصد الجبرتي - حسب قول الحداد - ملامح وأحداث هذه الفترة مبرزًا معالم الصراع الفكري وأبعاد كل مرحلة فبينما كان جيل ماقبل الحملة الفرنسية متعصبًا لرواسب العصور الوسطى وسحرها؛ اندفع جيل الحملة الفرنسية ومحمد علي في الدعوة إلى التجديد والخروج من طلاسم السحر إلى نور العلم والحداثة. 

ونقل الحداد بعض أقوال الجبرتي عن كتابه الشهير “فلم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير؛ أو طاعة وزير وأمير؛ ولم أداهم فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق لميل نفساني أو غرض جسماني” وبالتالي فإن تصويره لأحداث ذلك الصراع إنما ينم عن أمانته كمؤرخ وشاهدعيان عليم ببواطن الأمور". 

وتابع الحداد، أما عن مرحلة ماقبل الحملة الفرنسية صور الجبرتي الانحراف الفكري في حركة التصوف ورسم بصدق قابلية العامة للإصلاح؛ كما عرض في هذه المرحلة لقضية التخلف بين قادة الفكر وعلى ذلك فإن ما رسمه الجبرتي قد أثبت أن المتمسكين بالعصور الوسطي قد اهتزت أوتادهم والمطالبين بالتجديد وإن كان صوتهم خافتًا إلا أن الزمن معهم وفق سنن التطور التي لاتتبدل وهو ماتحقق في مرحلة الحملة الفرنسية ومحمدعلي. 

أما عن المرحلة الثانية، فهي مرحلة الحملة الفرنسية وبداية حكم محمد علي باشا، حيث رصد الجبرتي أحداث وتراجم قضيتين أساسيتين الأولى مدى الارتباط بين العقيدة والعمل والثانية كيفية التجاوب مع الحضارة الأوربية والتأثربالحداثة؛ فبينما وقفت العقيدة الحارس الأمين لتطور الفكر فإنها أوضحت أن ارتباطها بالعمل لا يحول دون الأخذ بمظاهر الحضارة الأوروبية وبالتالي صار التجاوب الحضاري سريعًا بين أجيال هذه المرحلة ومنهم الشيخ حسن العطار والذي صار من دعاة التجديد. 

وتابع الحداد، مع بداية حكم محمد علي، صور الجبرتي أحداث الحركة الوهابية في الجزيرة العربية وكيف تم القضاء عليها فيما بين 1811 حتى 1818، وكانت كتاباته عنها كتابة المؤرخ المنصف صاحب الفكر الحر، كما صرح في مقدمة كتابة وليس من قبل أنه وهابي كما وصفه إبراهيم عيسى، وليس بسبب كرهه وسخطه على نظام محمد علي؛ فالجبرتي كان سنيًا ملتزمًا ومعتدلًا لا يؤمن بالبدع والخرافات، وقد رصد في كتابه الانحرافات الفكرية للمتصوفة، كما حدث في أعوام 1733 و1743 والتي لا تتسق مع مبادئ الإسلام في القرآن والسنة وتلك المبادئ أسبق من نشأة الدولة السعودية الأولى وارتباطها بالحركة الوهابية 1745 1818م لا سيما وأن هذه الدعوة  لم تلفت الأنظار إليها خارج الجزيرة العربية الا بعد أن امتد نفوز آل سعود إلى الحجاز والطرق المؤدية إليها والدليل على ذلك أن أول إشارة عنها في الجبرتي كانت عام 1217هـ / 1802م، وبالتالي فإن رصده لأحداث هذه الحركة حتى القضاء عليها ليس لأنه اعتنق الفكر الوهابي وإنما لإنه مؤرخ  له رأي حر مستقل؛ وفكر مناقض لانحرافات عصره ولعل هذا كان السبب الرئيس وراء تعاطفة. 

وأشار الحداد إلى أن ما يؤكد أن الجبرتي لم يكن وهابيًا أو معتنقًا هذا الفكر كما وصفه إبراهيم عيسى أنه عند رصده للأحداث لم يكلف نفسه عناء معرفة اسم الحاكم الوهابي (من أل سعود) واكتفى باستخدام الوصف الذي شاع بين خصومهم وهو كلمة وهابي وأحيانا كان يذكر سعود الوهابي؛ بل إن أول إشارة عنهم عام 1217هـ / 1802م جاءت بصيغة “وفيه ترادفت الأخبار بأمر عبد الوهاب وظهور شأنه) وفي أحداث أخرى ”وفيه حضرت جماعة من إشراف مكة وعلمائها هروبا من الوهابيين"؛ وكذلك نلمح من كتابات الجبرتي مدى استعداده لنقد أسلوب الدولة السعودية في الحرب مما يدل على أنه لم يكن معهم على طول الخط وإنما هو رغم تعاطفه معهم يعبر عن نفسه كمؤرخ منصف معتز بنفسه لايجامل أحدًا ولا يحيد عن الحق. 

والدليل على ذلك من جهة أخرى أنه رغم موقفه من محمد علي إلا أنه أشاد بما قام به الباشا من حداثة وتطوير وتجديد وإصلاح فقال “وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان؛ فلو وفقه الله بشئ من العدالة على مافيه من العزم والرياضة والشهامة والتدبير والطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه”.