د. رشا سمير تكتب: "العاصفة" الجاني والمجني عليه في حرب " أديب نوبل"

مقالات الرأي


                 

تعودنا أن تمر علينا ذكرى ميلاد الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ يوم ١١ سبتمبر من كل عام بالذكريات التي يستدعيها حرافيشه من بين أروقة أحداث مرت عليهم، والأقوال المحفوظية التي تناقلها الأصدقاء عن لسانه، وشهادات قرائه الذين انتهلوا طويلا من فيضه الإبداعي الذي لم ولن ينضب أبدا..

فما بالكم لو كانت الذكرى هذا العام هي الذكرى العاشرة بعد المائة لميلاد محفوظ.

هذا العام تحديدا، مرت ذكرى نجيب محفوظ بحدث عاصف، وخبر جعل الوسط الثقافي بأسره يقف ويتسائل ويحاول تحليل الأحداث إحتراما لقامة وقيمة هذا المبدع الكبير..

الخبر على مواقع التواصل الإجتماعي كان كالآتي:

((حصلت مكتبات «ديوان» على حقوق نشر أعمال نجيب محفوظ، بعد أن وقعت عقدا مع إبنته أم كلثوم للحصول على نشر أعمال أديب نوبل ورقيا وصوتيا بشكل حصري، وإلكترونيا بشكل غير حصري، حيث تتشارك مع دار نشر هنداوي في الحقوق الإلكترونية..حصلت "ديوان" على حقوق طبع أعمال أديب نوبل لمدة 15 عامًا، على أن يبدأ سريان التعاقد ابتداء من مايو2022 وحسبما صرحت أحدى عضوات مجلس إدارة ديوان أن الأعمال ستصدر بعد مراجعة دقيقة على كافة طبعات الروايات السابقة للوصول على الصيغة النهائية الخالية من أيه محذوفات لأسباب رقابية أو لأسباب أخري أو أخطاء مطبعية، ولسوف تقوم ديوان بتشكيل لجنة من كبار النقاد المصريين لإنجاز هذه المهمة، لتصدر لأول مرة طبعة محققة ومراجعة دقيقة)).

من هنا قامت الدنيا ولم تقعد، وتسائل كل من قرأ الخبر:  

" ماذا حدث؟ وما المقصود بالخبر؟ هل كانت هناك محذوفات رقابية بالفعل على مؤلفات أديب نوبل؟ وما هي الأسباب الأخرى التي تسببت في تلك المحذوفات؟..

الآن بات السؤال مشروعا: لماذا سكت ورثة نجيب محفوظ كل هذا الوقت عن هذه الأخطاء؟ ولماذا تذكروا الآن؟ ولماذا جاء البيع قبل موعد إنقضاء عقد الورثة مع الشروق بشهور؟ كيف حدث هذا على الرغم من صدور هذه الطبعات في حياة الأديب الكبير وبموافقته؟ وهل المقصود بناشر نجيب محفوظ هو دار الشروق للنشر أم مكتبة مصر؟.

الحقيقة أن هذا الخبر أدى إلى لغط كبير وصراع صامت إحتدم من تحت السطح بين كل الأطراف التي ذُكر إسمها بالتصريحات..والحقيقة أيضا أن كل من جاء إسمه في كل التصريحات هم قامات كبيرة ومؤسسات محترمة يكن لها الجميع كل تقدير وعلى رأسهم أنا شخصيا كروائية وكإنسانة..

لذا وجب علينا البحث والتعمق والسؤال حتى نستطيع بدورنا أن نفند الأحداث ونترك للقارئ الحكم الأخير..

ويبقى السبب الوحيد والأهم الذي دعاني لأكتب اليوم وهو، خالص إحترامي وتقديري لقلم عظيم نحن جميعا مجرد تلاميذ صغار في مدرسته الأدبية المتفردة، والأهم من هذا وذاك هو وجوب تضافر جهودنا جميعا لإنقاذ تراث هذا الأديب العظيم، وحفظ إسمه وإحترام ميراثه الأدبي والروائي الكبير الذي تركه لمصر.

تاريخ محفوظ في النشر:

بدأت علاقة محفوظ بمكتبة مصر عام 1943 عن طريق عبد الحميد جودة السحار، والأكيد أن علاقة محفوظ بالناشرين لم تكن تتضمن يوما أسبابا مادية، فمنذ أن نشر كتابه الأول، وحتى عقب فوزه بجائزة نوبل لم يفكر في تغيير ناشره «مكتبة مصر»، ولم تفلح إغراءات كبرى دور النشر معه، فهو لم يضع شروطًا مادية مجحفة لنشر كتبه، كما يفعل آخرون، فعندما نشر له «سلامة موسى» أول كتاب ترجمه عن مصر القديمة، وبعدها رواية «عبث الأقدار» لم يحصل منه على مقابل مادي.

لكن ما حز في نفسه حقا أنه في أحد الأيام قرأ حوار لأمير السحار وارث مكتبة مصر، يقول فيه «إن الكتب والإبداعات الروائية في مصر لا تلقى رواجًا، وإن كتب نجيب محفوظ نفسه لا تباع إلا بأعداد قليلة»، وهنا بدأت الأزمة الأولى والأخيرة بين محفوظ وناشره التاريخي، فعندما قرأ الكاتب الكبير الحوار، شعر بغصة وإهانة، فأرسل إليه خطابا يقول فيه إنه يشعر بأنه صار عبئًا على مكتبة مصر، وأنه يريد أن يخفف عنهم هذا العبء، وطالبهم بأن تتوقف المكتبة عن طبع أعماله، وأن تتخلص مما لديها في مدى ستة أشهر من تاريخ إرسال الخطاب.

من ثم قرر المهندس إبراهيم المعلم صاحب دار الشروق للنشر في عام 2000 شراء حقوق نشر المؤلفات بمبلغ قيمته مليون جنيه، كان ذلك مبلغا ضخما جدا في وقتها، والحقيقة هو بالمقارنة اليوم يعتبر أكبر من الستة ملايين جنيه التي تم دفعها لإبنته في عام 2021..

بل واستعاد المعلم بالتعاون مع الراحل جمال الغيطاني جميع الحقوق الإلكترونية التي قام محفوظ ببيعها للمجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب فى الإمارات إلى الأبد وبجميع اللغات، بقيمة 65 ألف جنيه مصرى. 

تعددت الأقوال والنشر واحد!:

نشر الناقد مصطفى عبد الله مقال بعنوان (نجيب محفوظ في المزاد) قال فيه:

(( من الطبيعي بالنسبة لي أن تكون الدار التي أخذت حقوق النشر الإلكتروني لأعمال نجيب محفوظ هي "دار كلمات هنداوي"، لأنني قبل نحو خمس سنوات دعيت إلى غذاء عمل مع "هدى" ومحاميها بفندق "فور سيزون" جاردن سيتي، وكانت مُضيفتنا هي الدكتورة نجوى عبدالمطلب، رئيس مجلس أمناء مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، بمناسبة تدشين موقع إلكتروني يتيح للقارئ في أي مكان مقالات نجيب محفوظ رقميًا على شبكة الإنترنت، كان من الطبيعي أن توقع ابنة محفوظ الآن هذا العقد مع "مؤسسة هنداوي" التي كانت قد وقعت معها أول عقد للنشر الإلكتروني بعد رحيل والدها، وكان طبيعيًا أيضًا ألا تتحمس واحدة من دور النشر العملاقة في مصر لشراء حقوق النشر الورقي؛ لأن "هنداوي" ستطرح كتب محفوظ مجانًا للقراءة والتحميل من خلال موقعها، فحسابات الناشرين الذين سيغامرون بدفع الملايين الأخرى تجعلهم يبتعدون عن هذا المزاد، وفي تقديري أن المسألة ربما تكون من نصيب " آل ديوان" الذين يسعون إلى توسيع دائرة نشاطهم بتأسيس دار نشر فضلًا عن بيع كتب الغير، ومن هنا يكون مناسبًا أن يدفعوا الملايين السبعة المطلوبة للحصول على حقوق نشر كتب محفوظ حصريًا والتفرغ لترويجها باعتبارها باكورة عناوينهم وأهمها بالتأكيد)). 

بالرجوع إلى الكثير من التصريحات على لسان باحثين ونقاد إهتموا بميراث نجيب محفوظ بل ونصبوا أنفسهم حُماة لأدبه، وأصدروا كتبا كثيرة لدراسة عمق رواياته، أن هناك رصد واضح لبعض الأخطاء وعمليات الحذف التي طالت أعمال أديب نوبل، وأن هذه الأخطاء ليست مجرد بضعة أخطاء مطبعية أو نحوية، وإنما هي أخطاء مقصودة، حيث تدخل ناشره، وأجرى تعديلات، ليتمكن من إدخال أعمال محفوظ للبلاد العربية التي كانت تحظر أعماله، ولكن لم يتم التصريح بشكل واضح عن إسم الناشر المتهم بهذا التدخل!.

ظهر في الصورة أيضا الروائي أحمد القرملاوي، الذي فوجئنا به وقد تولى منصب مدير عام النشر بمكتبات ديوان في خطوة ثقافية بعيدة عن كونه أحد كتاب الدار المصرية اللبنانية، قال القرملاوي متحدثا عن تلك الأزمة: (( أنني وزملائي من اللجنة الكبيرة التي نعمل على تشكيلها الآن لمراجعة نصوص محفوظ، نأمل في تقديم روايات خالية من الأخطاء، من خلال مراجعتها، في ضوء الأصول التي قدمها محفوظ لناشريه، أو للصحف والمجلات التي تولت نشرها، وفي حال تعذر ذلك، سنعتمد الطبعات الأولى التي راجعها بنفسه، وهذا هو واجبنا جميعا للحفاظ على هذا الإرث الثقافي، لم نصرح ضد أحد ولم نتطاول على أحد، أصدرنا بيان فقط لتوضيح موقفنا بعد أن توالت علينا الإتهامات)).

من ناحيته، يقول الروائي نعيم صبري، الذي كان مقربًا من محفوظ: ((إن الكاتب الراحل لم يظهر في حواراته، ومع مريديه، أي تذمر من الناشرين الذين كان يتعامل معهم، كما لم أسمع منه رأيًا سلبيًا فيهم)).

أما بعض المقربين من الأديب الراحل مثل الكاتب محمد سلماوي والروائي يوسف القعيد فلازالوا يلتزمون الصمت واكتفوا بمراقبة الموقف من بعيد.

لازال الموضوع مفتوحا، ولازلنا في إنتظار اللجنة التي سوف تشكلها ديوان من كبار النقاد والأدباء لمضاهاة طبعات الكتب بالنسخ الأصلية التي يجزم الكثيرون أنها لم تعد موجودة بالفعل.

لم يعد هناك جاني ولا مجني عليه، ما حدث يؤكد على أن معايير النشر تغيرت وأن الوحيد الذي أُضير في هذه الحرب الصامتة هو الأديب الراحل المتسامح نجيب محفوظ الذي ربما لو كان على قيد الحياة لكان له رأي آخر!.

                                            [email protected]