بطرس دانيال يكتب: أنت سيد قرارك

مقالات الرأي




نقرأ فى سفر يشوع بن سيراخ: «فى جَميعِ أُمورِك كُنْ سَيِّداً، ولا تُلحِقْ عَيباً بِسُمعَتِكَ» (33: 23). يحكى الروائى الشهير Barrow عن موقف حدث معه عندما مرَّ بمخيّم قبيلة من الهنود الحمر، الذين تجمهروا حوله ظانّين أنه رجل دين، وطلبوا منه قائلين: «أسمعنا شيئاً من كلام الله، أعطنا الله». فأجابهم: «لستُ قسيساً ولا كاهناً لأسمعكم كلام الله! ولكنى أسأله أن يرحمكم». فانصرف وهو فى غاية الخجل من نفسه، وفى ذات الوقت كان مُندهشاً من عزّة نفس وكرامة هؤلاء الهنود وتعطشهم إلى كلام الله. وبعد قليلٍ لمح أطفالاً يلحقونه، فقدّم لهم بعض النقود، من باب الحسنة والشفقة نظراً لفقرهم، وإذا بعجوزٍ تهتف به: «احتفظ بنقودك! لسنا بحاجةٍ إلى المال، نحن نطلب كلام الله». يا لنبل الأخلاق! يعيشون تحت الخيام، ويحيون حياة فقر وتقشف وحرمان، وهم مع ذلك عفيفى النفس شرفاء، لا يمدّون أيديهم لطلب الصدقة، وإذا قُدّمت لهم يرفضونها. لأن القليل مع عزّة النفس، أفضل من مهنة الشحاذة فى نظرهم. لذلك نستطيع القول بأن اللقمة الهنيئة التى تُشبع، هى اللقمة الشريفة التى نحصل عليها بعرق الجبين وبأمانة، دون أن نفقد فى سبيلها شرفنا أو كرامتنا أو ماء الوجه. إنها أمثولة رائعة فى الشرف والقناعة، لا الفقر يذلّهم، ولا المال يغويهم، لكن عزّة النفس تسمو بهم فوق هذا وذاك. فالإنسان الشريف لا يرضى بأن يُمَسّ شرفه، أو يُداس ضميره ولو كان مقابل كنوز الدنيا. فما قيمة الإنسان بدون شرف؟ بل ما هى حياته ؟! لأن الذى فقد الشرف، لا يبقى له ما يفقده، فكل ما تبقّى بعد فقدانه، لا قيمة له ولا وزن عند الله والناس. ولا يوجد شيء فى الدُنيا يُعوّض عنه، كما أن الشرف لا يعنى فقط عفاف وطهارة الجسد، ولكن الأمانة والإخلاص والقناعة والصدق فى المعاملة. والإنسان الأمين والشريف يستطيع أن يستطعم الراحة والسعادة، لأن ضميره يحيا فى سلام. وكما يقول أحد الأشخاص الشرفاء: «شرفى هو حياتى، فانزع منى الشرف تفارقنى الحياة». والشرف أيضاً هو الامتناع عن أى عمل يتنافى مع الأخلاق النبيلة والأمانة وكل شيء لا يرضى به ضمير الإنسان. وهنا نستطيع أن نقول بأنه لا يوجد فرق بين أن تكون تصرفاتنا وأعمالنا فى السر أو العلانية، لأن ضميرنا يصطحبنا أينما كنّا، ومَنْ خان ضميره، فقد خان الله والناس. لأن خيانة الله تمهّد الطريق لخيانة الغير، والقضاء على الفضائل الإنسانية فينا وفى الآخرين. كما أن الشرف هو مجموعة الفضائل: كالإخلاص فى السر والعلانية، والعدل فى حالتى الرضا والغضب، والرقى فى معاملة الناس، والوفاء بالوعد، وحماية الضعيف، والتحلّى بفضيلة التواضع والامتناع عن أى عمل مشين. فمن الأفضل أن يظلمنا الناس ويعادوننا بسبب تمسّكنا بالخير والفضيلة، أفضل بكثير من أن نشكو الظلم والعداوة نتيجة شرّنا وعدم سلوكنا بأمانة وإخلاص وشرف. مما لا شك فيه أنه ليس كل مَنْ يدّعى الشرف، يكون هكذا، ولكن صاحب الأخلاق النبيلة هو وحده الشريف، كما أنه لن يتوفّر شرف الأخلاق ونبل العواطف إلا إذا كان الإنسان يخاف أن يغضب الله لعدم أمانته. ولا نغفل أن الشخص الشريف لا يقوم بإهانة الغير، ولا ينتقم منه لسببٍ ما، لأن كل هذا ليس فيه أى بطولة أو فخر. والإنسان الشريف نجده ذى أخلاق نبيلة وصفاء فى الضمير، وسعادة فى القلب، كما أن الحياة وما فيها تبدو له مشرقة باسمة. أيضاً نجد الإنسان الشريف يكنّ كل احترام وتقدير لأعمال الغير أياً كان، بشرط أن تكون حسنة، فلا يسلب حق إنسان حتى وإن كان عدوّه، كما أنه لا ينسب لذاته ما يعمله الغير أو يستحقه من مديح، فهو يعتبر خلاف ذلك عدم أمانة ولا إخلاص فى تصرفه. مما لا شك فيه أننا لا نستطيع أن ننكر بأن هناك نفوساً كثيرة تتحلّى بالمروءة والشرف، لأنها مجموعة من الفضائل التى بدونها يستحيل أن نُطلق على الإنسان المجرّد منها بشراً: ونلمس هذه الفضائل فى الصدق والإخلاص فى الأقوال والأفعال والوعود، أيضاً الاستقامة ونبل الأخلاص والأمانة وغيرها. خلاف ذلك، نجد الإنسان الشريف يؤدى عمله دون غش أو خداع، وبدون أى تهرّب أو انحراف عن المبادئ السامية، أى بإتقان ودقّة وأمانة. ونختم بكلمات نابليون بونابرت: «إن الشرف جزيرة صخرية، لا مرفأ لها، وسط بحر لا نهاية له، وهدفاً لأمواجٍ عاتية لا واقى منها».