بطرس دانيال يكتب: الإنسانية إحساس

مقالات الرأي




يكتب القديس يوحنا فى رسالته الأولى: «مَن كانت له خيراتُ الدُّنيا، ورأى بأخيه حاجَةً فأغْلَقَ أحشاءَه دونَ أخيه، فكيف تُقيمُ محبَّةُ الله فيه؟» (17:3). يحكى الفنان العظيم شارلى شابلن أشهر كوميديان فى تاريخ السينما عن خبرةٍ ودرسٍ فى طفولته كان لهما بالغ الأثر فى حياته، وهذا هو مضمونها: عندما كنتُ صغيراً ذهبتُ مع والدى لحضور أحد عروض السيرك الممتعة، ثم وقفنا فى طابورٍ طويل للحصول على تذاكر الحفل، وكان أمامنا أسرة مكوّنة من ستة أبناء مع والديهم، وكان يبدو عليهم الفقر، وبالرغم من أن ثيابهم كانت قديمة، إلا أنها كانت نظيفة جداً، وكان أطفالهم فى غاية السعادة وهم يتحدثون عن السيرك. وعندما وصلوا لشباك التذاكر، تقدّم الأب ليسأل عن سعر التذاكر، وعندما أخبره الموظف ثمن التكلفة، وقع الأب فى حيرةٍ والخجل بادياً على وجهه، ثم أخذ يهمس مع زوجته، وكانت علامات الحرج تظهر عليه. فرأيتُ أبى العزيز يضع يديه فى جيبه ليُخرج منه عشرين دولاراً، فألقى بها على الأرض، ثم انحنى والتقطها ووضع يده على كتف الرجل قائلاً له: « لقد سقطت هذه النقود منك». فنظر إليه الرجل المسكين والدموع تملأ عينيه، ثم قال له: «شكراً جزيلاً يا سيّدى!». وبعد أن دخلت هذه العائلة لحضور عروض السيرك، شدّنى والدى لنخرج من الصف، لأنه لم يكن يملك سوى العشرين دولاراً فقط التى أعطاها للرجل. كم كنتُ فخوراً جداً بأبى، لأن ذلك المشهد كان أجمل العروض التى شاهدتها فى حياتى، وأجمل من عرض السيرك الذى لم أستطع مشاهدته». ما أعظم القلب البشرى حينما تمسّ الرحمة أوتاره الحساسة، وتعزف عليها! كما أن القلب سيكون ينبوعاً فيّاضاً بالحنان والعطف والإنسانية، ولن تقف أمامه أى عوائق ليعبّر عن سخائه نحو الآخر، وخاصة المحتاج والبائس. مما لا شك فيه أن الإحسان لا يمكن حصره فى المساعدة المادية فحسب؛ لأن التضحية وهِبَة الذات هما أفضل من المال. وإذا بحث كلُّ شخصٍ منّا فى محيطه، سيجد حوله نفوساً بائسة كثيرة، تحتاج إلى ابتسامة أو دمعة أو كلمة طيبة أو تشجيع. كما أننا يجب أن ندرك جيداً أن الحسنة أو الصدقة التى نقدّمها للمحتاج، ليست سخاء نفسٍ ومنّة، بل هى واجب مقدس، ودَين فى أعناقنا، نوفيه لصاحبه مقدّمين له الشكر ومعتذرين عن تأخرنا ومماطلتنا نحوه. كما أن المحتاج الذى يقف على قارعة الطريق، ينتظر منّا كلمة طيبة تدخل قلبه لتداويه وتخفف من آلامه، أكثر من قطعة النقود التى نضعها فى يده. ويحتاج لنظرة حنان تداوى نفسه الكسيرة، ويسعد بابتسامة تجعله يشعر أنه أخٌ لنا. لأن الصدقة الحقّة هى محبة المحتاجين واحترامهم، وتضحية ذاتنا من أجلهم، وإدخال المسّرة فى قلوبهم. كم من الشباعى الذين يأكلون حتى التخمة، ويموتون من كثرة الطعام، فى حين أن هناك الملايين حول العالم يموتون جوعاً؟! وكم من المسرفين فى المآدب والحفلات، يلقون فضلات الطعام أكثر مما يأكلون منه، فى حين أن هناك الملايين الذين يتمنون حتى ولو كسرة خبز لسد جوعهم؟! وكم هؤلاء الذين ينفقون على اللهو والتفاهات، دون حاجةٍ أو فائدة، فى حين أن هناك الملايين من البؤساء الذين لا يجدون ثمن دواء يخفف آلامهم وأوجاعهم؟! نحن نجد ما ننفقه فى سبيل اللهو، وشراء ما لذّ لنا وطاب، فهل تذكّرنا يوماً الأطفال الفقراء الذين يسيرون حُفاة الأقدام، مرتدين ثياباً بالية، ومن المحتمل أن يكونوا مرضى ولا يجدون ثمن الدواء، وجياع يشتهون ما نلقيه من فضلات؟! وكما يقول المَثَل: «ليس الفقير مَنْ يملك قليلاً؛ لكن الفقير هو مَنْ يحتاج كثيراً». فالصدقة لا تُفقر مهما زادت، بل البخل على الفقير هو الذى يُفقِر. مما لا شك فيه أنه لا توجد رذيلة فى الإنسان أسوأ من البخل، ولا سيما على سعةٍ وغنى، لأن البُخل على الغير يستجلب كره الناس ونقمة السماء، والبُخل على النفس يفسد لذة الحياة وراحة الضمير. ليس هناك فضيلة تمسُّ قلب الله فيهتز فرحاً وغبطة، مثل الرحمة التى نمارسها مع البائس والمحتاج، لأن الرحمة هى من صفات الله فى معاملته لخلائقه. ومن المستحيل أن ينسى الله كل ما نفعله مع الفقير والمحتاج، وليس من عادة الله وهو الجود بالذات، أن يترك بلا مكافأة، ما نعمله فى سبيل الفقراء. ونختم بالقول المأثور: «كنتُ أبحث عن الله فما وجدته، عانقت فقيراً فوجدت الله».