عامر صالح يكتب: "طريق اللاوعي"

مقالات الرأي

بوابة الفجر


شكل الوعي دومًا حجر الأساس في سبيل مواجهة أي كوارث قد تطرأ، فالوعي الذي يمثل حلقة الوصل بين الكيان الشخصي والعقلي بمحيطه وبيئتة  كان دوماً فرس الرهان الرابح حتى ولو كان الأمر معتمدا على عدد ضئيل من الامكانيات.

1902 وباء الكوليرا يضرب من جديد، بدأ الأمر في موسم الحج فصار الوباء جائحاً وقضى على الآلاف من حجاج بيت الله الحرام، وبعد انتهاء موسم الحج قررت السلطات المصرية حينها أن تقوم بعمل حجر صحي للعائدين من الحج، وتم اختيار سيناء كمقر للحجر الصحي، وبالفعل استجاب الحجاج المصريون للحجر الصحي، حتى بدا أن الوباء قد أصبح تحت السيطرة، لكن الكارثة حلت.

فقد ظهر الوباء من جديد ليضرب واحدة من قرى الصعيد، وبالتحديد قرية "موشا" التابعة لمحافظة اسيوط، الظهور كان مفاجئ، فاجعة صارت على وشك أن تحدث، آلاف من البشر تحت التهديد، وآلوف من حيوات صارت على وشك أن تقضي نحبها، ممضية ساعاتها الأخيرة، وسؤال ظل يطرح نفسه، إن كان الحجر الصحي قد تم تطبيقه فكيف تسرب الوباء إلى قلب الصعيد،  بالبحث والتقصي تبين أن واحدا من هؤلاء الحجاج كان عمدة لتلك القرية.

وفي أثناء رجوعه كان محملاً بكميات من مياه زمزم، أخطاء ضئيلة للغاية تم ارتكابها أسفرت عن حائجة عرضت عدد ضخم من البشر للخطر فالكوليرا التي لا تحتمل أن تعيش فترات طويلة في المياه وجدت ضالتها في العلب الصفيح التي استخدمها "العمدة" ليعبأ فيها المياه وذلك بدلا من استخدام العبوات البلاستيكية.

وبتفاعل المياه مع علب الصفيح تشكلت عدد كبير من الرواسب العضوية، وهو ما أعطى للميكروب فرصة للعيش لمدة أطول بعد أن وجد في تلك الرواسب ما يلزمه من غذاء، الخطأ الثاني الذي ساهم في انتشار الكوليرا قيام العمدة بمجرد عودته بتوزيع تلك الصفائح على أحبابه وأهل بلدته ، لم يكن ذلك هو الخطأ الأكبر، الطبيعة الجغرافية للبلدة شكلت عاملاً هاما في انتشار الوباء، فانخفاض أرضها جعلها غنية بعدد كبير من الآبار كما أن  أهالي البلدة وكل من حصل على تلك المياه حاول أن يستزيدو منها خيراً فقاموا بوضعها في الآبار تبركاً بها.

في غضون أيام معدودات كانت الحكومة المصرية قد اتخذت قرارا بوضع القرية بأكملها تحت العزل مطبقة عليها حجراً صحياً شاملاً، تم اغلاق مداخل القرية ومخارجها، مُنع الناس من الخروج منها أو الولوج إليها، لكن ثغرة أخرى ظهرت حين قام واحد من الأهالي برشوة أحد العساكر المكلفين بتطبيق الحظر ليخرج خارج البلدة حاملاً المرض معه، ناشرًا إياه.

الكارثة الأخرى والأكبر تمثلت في الوعي،  يقول االفيلسوف الهندي "جدو كريشنامورتي" أن الأزمة الحقيقية التي يحياها الانسان هي أزمة وعي ليس إلا، فالأطباء الذين أوكلت لهم السلطات المصرية مهمة التطهير يتحدثون عن عدم الوعي الذي عانت منه مصر آنذاك ممثلة في أهل تلك القرية، فعندما كانوا يحاولون اخبارهم بأن لا يشربوا من مياه الآبار الملوثة كانوا يوجهون بموجة  من الاستنكار وعدم التصديق، حاول الأطباء دون جدوى وبشتى الطرق اقناع أهل القرية بأن المياه ملوثة وليس شرط التلوث أن تكون عكرة، لكن الأهالي يرفضون التصديق حتى لجأ البعض منهم ونتيجة عدم الوعي بخطورة المرض القاتل إلى اخفاء الأبيار الموجودة في منازلهم عبر وضع ألواح خشبية وفرش حصير والردم فوقها، في محاولة منهم لاخفاء الأبيار عن التفتيش الحكومي، الوعي هو القادر دوماً على صنع الفارق، أمة واعية قادرة على تجاوز أعتى الأزمات، حاول الأطباء أن يسيطروا على المرض، بذلوا جهوداً مضنية.

فعلت الحكومة المصرية حينها أقصى من تستطيع لمحاصرة هذا المرض، دون جدوى، وحين تم رصد نحو 50 بئراً صارت عمليات التطهير على قدم و ساق، كان الخبر الأسوا في الانتظار فالوباء قد انتقل إلى مدينة ديروط عاصمة محافظة اسيوط، وصار الوضع خارجاً عن السيطرة، ليسلك الوباء طريقه معتمداً في المقام الاول على قلة الوعي أحياناً وانعدامه أحياناً أخرى.

القصة مذكورة من كتاب "حياة طبيب".. للأديب الطبيب نجيب محفوظ