بطرس دانيال يكتب: الرحمة تُبَدّد الشر

مقالات الرأي



ما أجمل الكلمات التى تفوّه بها السيد المسيح: «طوبى للِرُحَماء، فإنَّهم يُرْحَمون» (متى 7:5). عشنا الأيام الماضية جدالاً يخص الناشطة السياسية التى انتحرت، وكان هناك من يدينها رافضاً الترحّم عليها، وأولئك الذين يعذرونها بسبب الظروف القاسية التى عاشتها. هذا الموقف يُذكّرنى بالأرملة المسكينة التى ذهبت للكاهن للاعتراف، وقد كان زوجها انتحر إذ قفز من جسرٍ فى النهر، فكانت تبكى بحُرقة قائلة: «الآن زوجى فى الجحيم لأنه انتحر، ونحن تعلّمنا أن الانتحار خطيئة مميتة لا تُغفر». فما كان من الكاهن إلا أن قال لها: «سيدتى، بين الجسر والنهر، هنالك رحمة الله! وحتى النهاية، هناك دائما أبداً رحمة الله». لا ننكر أن الانتحار خطيئة مميتة، ولكن لا ننسى رحمة الله التى تفوق كل خطايانا، ليس الهدف من هذا الكلام هو تأييد أو تشجيع الانتحار أو تبرير هذا الفعل، ولكن أن نترك الدينونة لله الديّان الوحيد الذى يعلم ما بداخلنا وما الدوافع لكل ما نقوم به. ولنتأمل هذا الوصف المبهر لكاتبٍ مجهول عن قصة كل واحدٍ منّا نحو الآخر: «أَنظرُ إلى ذاتى من خلال عدسة أنانيتى، فلا أرى سوى ما يحلو للقلب رؤيته؛ بينما أنظر إلى القريب بميكروسكوب سوء الظن واعتباره شريراً وسيئاً. إذا غضب القريب وثار فهو متهوَّر وأحمق؛ لكن إذا أنا غضبتُ فلأن أعصابى مرهفة. إن تمسّك الآخر بآرائه فهو عنيد متصلّب الرأى والفكر؛ بينما أنا أتمسّك بآرائى لأننى صاحب مبدأ. إذا انغلق القريب على ذاته وتجنّب أصدقاءه، فهو متكبّر ومتعال على الجميع؛ لكن إذا أنا تجنبتهم، فلأنى صريح وواضح ولا أختار إلا بعد تفكير. إن أبدى القريب لطفاُ واحتراماً للغير، فإن وراء هذا مصالح شخصية لا يعلمها إلا الله وحده؛ أما إذا كنتُ أنا لطيفا ومحترماً مع الآخرين، فلأنى رجل مهذب ومحترم. إذا تأخر القريب فى إتمام واجباته، فهو كسول ولا يقدّر المسئولية؛ ولكن إذا تأخرتُ أنا، فلكى أمعن النظر وأتقن كل ما أعمله. إن بادر القريب بعملٍ لم يُطلب منه، فإنه فضولى يتدخل فيما لا يعنيه؛ أما أنا فإذا أتممت عملاً لم يُطلب منى، فهذا بدافع روح المبادرة الخلاّق!». هذا الواقع نعيشه كل يوم بين الناس، لذلك يجب أن نضع فى الاعتبار أن كل شخص له مبررات ما يفعله ولا يعلمها إلا الله وحده. فالرحمة لغة يفهمها جميع البشر، وكما أن الشمس تبدّد الضباب عن وجه الأرض، فتدُبّ الحيوية فى الطبيعة وتنتعش المخلوقات، هكذا الرحمة لبعض النفوس تزيل عنها الخمول وتُعيد إليها النشاط والحيوية وحُب الخير، كما أنها تُبعدها عن الشر والفساد. فإذا كان الله رحيماً معنا، فلماذا لا نقوم بالمثل مع الآخرين؟ يستطيع كل شخصٍ منّا أن يكتشف الرحمة فى أعماق قلبه، ليعامل بها القريب، وهكذا يستطيع أن يساعده على تأدية رسالته بإخلاص فى هذه الحياة ويتجنب كوارث عدّة ولا ينغلق على ذاته بسبب ما يقابله من برود وجفاء فى المعاملة وسوء الظن، ويجنّبه التفكير فى عمل الشر. مما لا شك فيه أن كل شخصٍ منّا مسئول ليس عن الشر الذى يعمله فقط، ولكن أيضاً عن الخير الذى يستطيع أن يقوم به ولكنه لا يفعل ذلك، كما أنه مسئول عن الشر الذى يقع فيه الغير بسبب تقصيره نحوه. كم من المرات تسببنا فيها بأذى للغير عندما تعاملنا معه بشدّةٍ وبحكمٍ قاسٍ؟ كم من المرات تسببنا فيها بضرر الآخرين لعدم توعيتهم أو مساعدتهم؟ إذاً يجب علينا ألا نحتقر أى شخص مهما كان يتصرف بالسوء، لأن أكثر الناس شراً يحمل بين طيات نفسه شرارة إلهية من الممكن أن تلتهب فى أى لحظة، كما يجب ألا ندين أو نحتقر أعمال الغير، لأننا كثيراً ما نجهل الدوافع التى أدت إليها، ولا نعلم النتائج البعيدة التى تستخلصها العناية الإلهية الساهرة. فالإنسان الطيب يقبل الآخرين بعيوبهم ويأخذ بيدهم للنهوض بهم ومساعدتهم للوصول إلى الهدف السامى الذى نتمناه منهم. إذاً ليس هناك فضيلة تمسُّ قلب الله فيهتز منها رضا وغبطة، مثل الرحمة التى نتعامل بها مع الغير، لأن الرحمة هى أفضل وسيلة لقمع الشر وتفجير طاقات الخير فى النفوس، لكن القسوة تدفع إلى الجريمة والأعمال العدوانية، وكثيراً ما ردّت الرحمة نفوساً ضالة إلى الصواب، وجعلت من المجرمين عناصر خيّرة للمجتمع. ونختم بالقول المأثور: «ارحم مَنْ فى الأرض؛ يرحمك مَنْ فى السماء».