عواصم مصر.. الإسكندرية من قرية ساحلية إلى مدينة عالمية (الحلقة الثالثة)

أخبار مصر

بوابة الفجر


تعد الحضارة المصرية من أقدم حضارات العالم، وعرفت الحياة المنظمة اجتماعيًا وسياسيًا مبكرًا للغاية، منذ ما يقرب من 6000 عام، وقد يزيد، ولا زالت الاكتشافات تُظهر لنا المبهر فيما يتعلق بالحياة التنظيمية في مصر، وتعتبر العاصمة علامة اكتمال ونمو النظام السياسي، وعبر سلسلة من الموضوعات يحدثنا الدكتور حسين عبدالبصير، مدير عام متحف آثار مكتبة الإسكندرية، في الحلقة الثالثة عن عاصمة من عواصم مصر وهي الإسكندرية عاصمة الإسكندر الأكبر.

قال عبد البصير في تصريحات إلى الفجر، إن مدينة الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط وحاضرة الثقافة وعاصمة الفن والجمال، هي المدينة التي أراد لها الإسكندر الأكبر الخلود والشهرة والعالمية وتحقق له ذلك عبر العصور والأزمان.

الوجود الإغريقي في مصر 

وأضاف، الوجود الإغريقي المكثف لم يبدأ في مصر مع دخول الإسكندر عام 332 ق.م، وإنما بدأ منذ نهاية العصور المصرية القديمة، خلال الأسرة السادسة والعشرين المعروفة بالعصر الصاوي، والذي كان مقدمة طبيعية للوجود الإغريقي المنظم والمكثف والمتواصل في مصر.

وتابع عبد البصير، في نوفمبر 332 ق.م، وصل الإسكندر إلى مصر، ورحب به الناس كمخلص لهم من حكم الفرس، واستسلم له الحاكم الفارسي "المزربان"، وقام الإسكندر بتقديم القرابين لأبيس "العجل المصري المقدس"، في منف، وتُوج بالتاج المزدوج التقليدي لملوك مصر القديمة.

سلوك الإسكندر مع الكهنة 

استرضى الإسكندر -الكلام لعبد البصير- الكهنة المحليون وشجع دينهم، وأمضى الشتاء في تنظيم مصر، ووظف حاكمًا للمصريين، وأبقى الجيش تحت قيادة مقدونية منفصلة، وبعد ذلك سار بقواته بمحاذاة الفرع الكانوبي للنيل، متجهًا إلى ساحل البحر المتوسط.

وأضاف، أنه اعتنى بالنيل فأرسل بعثة لاستكشاف أسباب فيضانه، كما سار على طول الساحل إلى البارتون‎ "مرسى مطروح حاليًا"، واتجه لزيارة الإله آمون في سيوة، وأعطاه الكاهن التحية التقليدية للملك ابن آمون، ونصبوه ملكًا على مصر، وألبسوه تاج على شكل رأس كبش ذي قرنين؛ فلُقب "الإسكندر ذو القرنين."

وتابع، ويقال أنه تشاور مع الإله عن نجاح حملته، ولكنه لم يفش السر لأحد، ثم وقع حادثًا منحه لقب ابن زيوس، وبالتالي، تم "تأليهه" من قبل الكهنة المصريين، وبعد ذلك، رجع الإسكندر إلى منف، وأبقى عليها عاصمة لمصر.

وحرص الإسكندر على الإبقاء على النظم المصرية القديمة، وتنويع الوظائف والسلطات بين المصريين والإغريق الذين وضع أيديهم على السلطة العسكرية والمالية، وللمصريين السلطة الإدارية، ووزع السلطات بالتساوي، ولم يُعِين حاكمًا عامًا مقدونيًا، وبذلك ضمن رضى المصريين.

وقال عبد البصير، إنه قبل أن يغادر الإسكندر مصر، استعرض قواته للوداع، وأقام للشعب المصري والإغريقي مهرجانًا رياضيًا وثقافيًا كرمز للتعاون بين الحضارتين العريقتين، وأوصى موظفيه بالقيام بإصلاحات للمعابد منها تجديد معابد الكرنك، وفي ربيع 331 ق.م، عاد إلى صور، وعين حاكمًا مقدونيًا على سوريا، واستعد للتقدم إلى بلاد النهرين، بعد أن أكمل سيطرته على كامل ساحل البحر الأبيض المتوسط، بغزوه مصر.

وأضاف، في 25 من شهر طوبة عام 331 ق.م، لفت نظر الإسكندر موقعًا ممتازًا بالقرب من الذراع الغربي للنيل، والبحر وبحيرة مريوط، ومحمي بجزيرة فاروس، كان به قرية تسمي، راقوتيس "راقودة"، وهو مشتق من "رع-قدت" بمعنى "رع المشيد"، والغالبية تترجم الكلمة حرفيا بـ: حد البناء أو الحيز. ويميل جان يويوت إلى ترجمتها بمعنى الفناء أو الحوش. وربما كان المقصود بالفناء هنا مدخل مقصورة الإله الذي كان يُعبد في القرية القديمة، وموقع هذه القرية الآن منطقة العامود بكرموز.

واختار الإسكندر الأكبر ذلك الموقع لتأسيس مدينه تكون عاصمة تحمل اسمه في مصر، واستعان بالمهندس المعماري "دينوقراطيس"، لوضع تخطيطها، والذي أسسها على الطريقة الهيبودامية "رقعة الشطرنج"، وهو تخطيط يشبه المدن اليونانية في القرن الخامس ق.م.

وأضاف عبد البصير، بداية قام دينوقراطيس بربط القرية بجزيرة فاروس من خلال جسر يطلق عليه الهيبتاستاديوم أي 7 ستادات، وهي مسافة تصل لحوالي الميل بين القرية والجزيرة، وهذا الجسر مفقود تمامًا الآن، ومن خلال هذا الجسر الذي كان يربط بين جزئي المدينة القديمة، وُجد ميناءان، هما الميناء الشرقي الذي كانت تغادر منه المنتجات إلى بلاد اليونان، والميناء الغربي أو العود الحميد كما يطلق عليه.

وقسم مهندس الإسكندرية المدينة إلى خمسة أحياء رمز إليها بالأحرف الخمس الأولى في الألفبائية اليونانية، ألفا، بيتا، جاما، دلتا، إيبسيلون، وبدراسة دلالة تلك الحروف أمكن ملاحظة أن ألفا، رمز إلى الحرف الأول من اسم الإسكندر الأكبر، وبيتا رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية تعنى الملك، وجاما رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية بمعنى "سليل" أو "وليد"، ودلتا رمز إلى الحرف الأول من اسم الإله اليوناني زيوس، وإيبسيلون رمز إلى الحرف الأول من كلمة تعني "يبنى" أو "يشيد".

وأوضح عبد البصير، أنه يمكن بناءً على هذا التفسير أن نعتبر تلك الحروف هي اختصار لنص لوحة تأسيس المدينة، وهنا يكون معنى النص كما يلي، "الإسكندر، الملك، ابن، زيوس، يشيد"، وقام الملوك البطالمة باستكمال ما بدأه الإسكندر الأكبر في مصر ولكن من خلال منظور واقعي سعى إلى تكوين إمبراطورية وراثية في الشرق الأدنى القديم.

وظهر ذلك جليًا في آثار مصر بالإسكندرية، ووصلت مصر إلى مستوى ثقافي متقدم، وأصبحت الإسكندرية ومكتبتها من أهم المراكز الحضارية في البحر المتوسط، والمكتبة في عصر البطالمة أصبحت وجهة العالم الثفاقية وحاضرة الأدباء والعلماء والمثقفين من مكان من العالم آنذاك.

وختم عبد البصير كلماته قائلًا، إن الإسكندرية تميزت في العصر البطلمي بآثار ما يعرف بالعصر الهيللينستي حيث امتزجت حضارة مصر مع حضارة اليونان على أرضها، وقد أصبحت مصر إمبراطورية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين العنصر الهيلليني، الممثل في المحتل الوافد الذي كانت تربطه صلات قوية وقديمة وعديدة بمصر القديمة، والعنصر الشرقي ممثلًا في مصر القديمة وحضارتها العريقة التي أبهرت الوافد البطلمي وجعلته يتأثر بها للغاية ونتجت حضارة جديدة هي الحضارة الهيللينستية التي جمعت بين حضارة اليونان القديم وحضارة مصر القديمة، واحتفظت الإسكندرية الجميلة بمكانتها الثقافية العظمى في العالم كله إلى الآن بفضل مكتبة الإسكندرية القديمة والجديدة.