ننشر عظَةُ بطريرك الأقباط الكاثوليك بيوم الجمعة العظيمة

أقباط وكنائس

إبراهيم إسحق
إبراهيم إسحق


ألقى الأنبا إبراهيم إسحق، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، كلمة بمناسبة يوم الجمعة العظيمة.

وجاء في نص الكلمة:

إن اليوم هو يوم الجمعةِ العظيمةِ جمعةُ آلام السيِّد المسيح، الآلام الخلاصيَّة المحيية، نحتفلُ به بطريقةٍ غير اعتياديَّةٍ مما قد يُسبب لنا آلامًا، ألمُ الحرمان من ممارسة حياتنا اليوميَّة في بساطتها بما فيها من عملٍ وإنجازٍ وأنشطةٍ، ألمُ عدم إمكانية التَّواجد في الكنائس والاحتفال بهذه الطُّقوس الروحيَّة الغنيَّة المعزّية،إنَّها بالفعل وبالنسبة لنا كلّنا خبرة ألم. ولكنَّ خبرة الألم باختلاف مصدره ونوعه.

لدينا هنا أيُّها الأبناء الأحباء، في هذه الآية ما يكفي للتأمّل في الجمعةِ العظيمةِ والقيامةِ المجيدةِ، لما بينهما من صلةٍ وثيقةٍ، فلا قيامة بدون الصَّليب، ولا معنى للصَّليب بدون القيامة.

نعلمُ جيِّدًا مدى حبّ بولس الرَّسول لشخص المسيح، بعد اهتدائه، ولا يريد بولس أن يعرف يسوع إلا من خلال قيامته، أيّ يسوع المسيح القائم، وحتَّى يدرك ذلك، عليه أن يعرفه أوَّلًا متألمًا ويشاركه في ألآمه.

يا ترى من هو يسوع الَّذي نعرفه نحن؟ وأيّ نوع هي آلامنا؟ وكيف نتعامل معها؟ وهل لها معنى وقيمة؟الألم! ما أصعب الكلام عنه! مَنْ يستطيع أن يُقدِّم جوابًا عن الألم؟ أو يعطي عنه حلًّا كافيًّا؟ مغرور جدًا مَنْ يدَّعي ذلك. لأنَّ الألم قضية القضايا الَّتي تلازم الإنسان من المهد إلى اللحد.

وتشغل البشريَّة منذ أن وجدت الأديان، وهو موضوع بحث الفلاسفة والعلماء، بالتأكيد ليس هناك وصفة جاهزة لمواجهةِ الألم والتعامل معه، لأنَّها خبرة حياة شخصيَّة ومسيرة طويلة. 

كما يؤكد ذلك أيُّوب البار بعد خبرته الطويلة مع الألم: "إِنِّي قد أَخبَرتُ مِن غَيرِ أَن أُدرِك بِعَجائِبَ تَفوقني ولا أَعلَم... كُنتُ قد سَمِعتُكَ سَمعَ الأُذُن أَمَّا الآنَ فعَيني قد رَأَتكَ" (أي42: 3-0)، فهناك أنواع من الآلام، آلامٌ طبيعيَّةٌ، آلامٌ مصنوعةٌ، آلامٌ خلاصيَّةٌ، آلامٌ طبيعيَّةٌ، ألمٌ يعيشُه الإنسان كجزء أصيل من حياته الإنسانيَّة، ألم من شأنه أن ينقل من مرحلة نمو إلى أخرى.

آلامٌ مصنوعةٌ، ألمٌ يوجده الإنسانُ نتيجةَ انسياقه وراء غرائزه وشهواته في الامتلاك والسيطرة؛ ألمٌ يسببه الإنسانُ بسبب أنانيته وصراعه ليكون السيِّد الأوحد، كالحروب بكلِّ أنواعها، والسعي للكسب السَّريع على حساب الأخرين وحساب الخير العامّ، والتعامل مع البيئة وتلويثها الَّذي يؤدي بحياة النَّاس إلى المرض والموت والكوارث.

وبهذا ينفصل الإنسان عن الله ويسبب ألآمًا لنفسه وللأخرين وبالتالي يفقد إنسانيته وصورته الأصيلة المخلوقة على مثال الله تعالى، ويُفقد العالم سلامه، لأنَّ كلّ واحدٍ يبحثُ عن نفسه "أنا ومن بعدي الطوفان"، وهذا قمَّة الألم المصنوع، آلامٌ خلاصيَّةٌ مُحييةُ، هو الألمُ الَّذي يمنحُ الحياة. 

ويمكن الكلام فيه على مستويين، فالأوَّل هو ألمٌ ناتجٌ عن استخدامِ نعمةِ العقلِ، وعدم الإنسياق وراء الشهوات والطمع والتملك والشراهة والكسب السريع. هذا يسبب ألمًا، ولكنَّه يعطي للأخرين حياة، وهناك مستوى أسمى وهو الآلام.

والخلاصيَّة، الألمُ الَّذي يعيشُه الإنسانَ نتيجةَ اختيارٍ حرٍّ واعٍ للأمانةِ في الرسالة وتحمُّل مسؤولية ونتيجة استمرار الثبات في هذه الأمانة حتَّى النهاية، بالرغم من كلِّ الصُّعوبات والمعاناة والاضطهادات؛ فيقبل التألُّم والتضحية فداءً عن الأخرين ولصالح خيرهم، وارتقاء الحياة وتقدمها، فهذا النوع من الآلام هو جوهرُ احتفالِ يوم الجمعةِ العظيمة، والنموذج والمثال هو السيد المسيح.