عادل حمودة يكتب: "دولة الرئيس".. تلميذا

مقالات الرأي



لم يلتق بالميديا إلا بعد أن درس الملفات الصعبة حتى استوعبها

لعب كرة اليد فى الزمالك رغم أنه يشجع الأهلd

تعلم الألمانية فى شهرين حتى يستكمل دراسة الدكتوراه فى ألمانيا

لم يجلس على مقهى وهوايته الوحيدة مشاهدة أفلام الأبيض وأسود ويحفظ حواراتها

يعشق الآثار ويقتنى التحف ويتسوق بنفسه ويكره التدخل فى حياته الشخصية


ما أن اختيرت وزيرة حتى وجدتها تلح فى دعوة نفسها على فنجان قهوة لتسمع منى نصائح تبقيها فى منصبها مستقرة بلا خوف من إقالتها.

وعادة لا أعطى لنفسى الحق فى نصح أحد وما يغرينى أن أسمع آراء الآخرين وأتفهم دوافعهم إلا أننى هذه المرة استجبت مرغما لتجاوز إلحاح لم تنفع معه قائلا:

ـــ بحكم ما عشت ورأيت فى الحياة العامة فإن شياطين البيروقراطية العتيقة تسارع بالنفخ فى الوزير الجديد حتى يتصور فى نفسه قدرات ليست فيه وصفات لا يتمتع بها وخبرات لم يكتسبها ومع مظاهر «الأبهة» التى يلقاها وعبارات الثناء التى يسمعها يفقد نصف عقله ويبدو معلقا بين السماء والأرض دون أن يجد شرفة يتعلق بها.

وأضفت: الغرور.. كلمة الانتحار.. والتواضع.. طوق النجاة.

ولكن.. «صاحبة المعالى» مثلها مثل كثير من الوزراء الذين عرفتهم طوال عقود طويلة مضت، جنت بالمنصب وكثفت جهودها فى الحفاظ عليه ونسيت المهمة التى كلفت بها وتورطت فى مؤامرات ضاعفت من خصومها والأخطر أنها تعاملت على أنها الوحيدة التى تفهم وعلى كل من حولها السمع والطاعة وإلا طردتهم من أمامها فى حالة من الغطرسة يصعب تخيلها.

وفى الوقت الذى تصورت فيه أنها استقرت على كرسيها أقيلت من منصبها وعادت إلى البيت وقد فقدت النصف الثانى من عقلها.

فقد الطاووس ريشه وغرق فى دموعه ووجد نفسه وحيدا ينظر إلى هاتفه لعله يرن ولو برقم خطأ.

ليست «صاحبة العصمة» النموذج الوحيد للوزراء.. كثيرون منهم يستحقون التقدير والاحترام.. منهم الدكتور مصطفى مدبولى.

ولك أن تصدقنى فيما سأقول عنه فأنا لم أكن معجبا به.. وعندما دعوته منذ سنوات وهو وزير إسكان لحوار تليفزيونى لنعرفه طبقا للقاعدة الشهيرة: « تكلم حتى آراك» اعتذر عن الظهور.. وفسرت موقفه بأنه لا يملك شيئا ليفصح عنه ثم ذابت الخلافات فى لقاء اجتماعى.

منذ أيام قليلة استجبت لدعوة منه ليشرح نفسه وحكومته فى حضور عدد محدود من الكتاب ورؤساء التحرير.. واعترف أننى استمعت إليه ثلاث ساعات لم أشعر فيها بالملل.. ولفت نظرى أنه وهو المتخصص فى بناء المساكن والتخطيط العمرانى وتصميم المدن يتحدث بطلاقة عن الحدود الآمنة للقروض وتناقص عجز الموازنة وتراجع التضخم وخطة دعم الصناعة وحوافز التصدير وتعافى السياحة والثقافة الشعبية المكبلة، والاكتفاء الذاتى من الطعام وكفاءة القطاع الخاص فى الإدارة واحتياج الاستثمار إلى قرارات عليا فضمت حقيبته إليه بجانب حقيبة الإصلاح الإدارى.

بدت ذاكرته حاضرة بالأرقام وقدرته شاخصة بالإقناع وصبره بلا حدود وهو يستمع ويسجل ما طرحنا من أسئلة وملاحظات مثله مثل تلميذ يستعد لتأدية واجباته.

تكلم رئيس الحكومة فرأيناه.

ويمكن الرجوع إلى نص ما قال فى مواقع الصحف اليومية.

رحت أتأمل بحثا عن لقب يستحقه فلم أجد أفضل من لقب «التلميذ».. فهو يواجه ما لا يعرف بالمذاكرة حتى يعرف.. وعادة لا يملك هذا الطراز من المسئولين وقتا للغرور.. المعرفة عنده بحر بلا قرار.. كلما شربنا منه ازددنا عطشا.

الغريب أن من حوله سبقونى لوصفه بـ«التلميذ» وإن أضافوا كلمة «مجتهد» للوصف ولم أكن أعلم ذلك.

ولد فى برج الثور حيث يتمتع الرجال بالثقة فى قدراتهم ويجتهدون للحصول على أفضل النتائج ويعتمد عليهم فى تحمل المسئولية وإن جنوا بالطعام الدسم وصعب عليهم التعبير عن مشاعرهم ورغم ميلهم للرومانسية فإنهم يفضلون المرأة الغامضة.

ذلك حديث الفلك.. لكن.. لا نعرف ما يتمتع به رئيس الحكومة من هذه الصفات وما يفتقده.. لكننا نعرف أن والده اللواء كمال مدبولى محمد نصار القائد الأسبق لسلاح المدفعية رباه على الانضباط والاجتهاد والالتزام.. وبعيدا عن المذاكرة كانت هوايته الوحيدة لعب كرة اليد فى نادى الزمالك القريب من بيت العائلة.. ولكنه.. فى الوقت نفسه يشجع «الأهلى».

لم يكتف ببكالوريوس الهندسة المعمارية من جامعة القاهرة (عام 1988) وإنما حصل على الماجستير فى تخطيط المدن (عام 1992) قبل أن يحصل على الدكتوراه بنظام الإشراف المشترك من كلية العمارة (جامعة كارلسروه فى ألمانيا) وهندسة القاهرة.

مشرفه الألمانى على الدكتوراه حذره هو وزملاء الدفعة: «بعد شهر أو شهرين سيكون الحوار معى بالألمانية ولن أسمح بالحديث بغيرها» فلم يكن أمامه سوى إجادتها فى أسابيع قليلة وقد كان.

لكن «التلميذ» لم يكتف بتلك الشهادة العليا وحصل على دبلوم فى التخطيط العمرانى من معهد دراسات الإسكان والتنمية الحضارية فى روتردام (هولندا).. وبعد عشر سنوات وبالتحديد فى عام 2003 حصل على شهادة تأهيل القيادات التنفيذية فى كلية هارفارد لإدارة الأعمال.. وقبلها عاش شهرا فى سيول (عاصمة كوريا الجنوبية) للتدريب على وسائل تجديد المدن.. بجانب تدريب آخر على نظم المعلومات الجغرافية وتطبيقها فى التخطيط العمرانى فى روتردام.

لا أتصور أن كثيرا منا يعرف ذلك السجل العلمى للرجل.. وربما جعلنا صمته الذى يقترب من الخجل لا نعطيه ما يستحق من انتباه.. وربما جعلنا نتشكك فى قدرته على رئاسة حكومة تواجه من التحديات ما لم تواجهه غيرها.

إن أخطر عيوبنا التسرع فى الحكم دون أن نمتلك حيثيات من المعلومات فى تأكيده ولكن من أين نحصل على المعلومات والمسئولون الكبار والصغار يفضلون الصمت ويجدون فى السكوت نجاة ؟.

والحقيقة أن المسئول الذى يعتبر الناس مصدر راحة يؤمن بالمكاشفة والصراحة أما المسئول الذى يعتبر الناس مصدر إزعاج فيفضل سياسة الخرس المزمن حتى لا يفضحه الكلام.

بدأ مشواره العملى نائبا لرئيس هيئة التخطيط العمرانى عام 2000 وكان عمره لا يزيد عن 34 سنة وبعد أربع سنوات أصبح مدير المكتب الفنى للهيئة.

بعد ثورة يناير تولى فتحى البرادعى حقيبة الإسكان وتبعاتها فاختار مصطفى مدبولى ومجموعة أخرى من كبار علماء مصر لوضع المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية العمرانية وضم المخطط مشروع تنمية قناة السويس والتوسع فى المدن الجديدة لتصل إلى 50 مدينة فى عام 2052 بجانب التفكير فى زراعة 4 ملايين فدان.

لكن ما إن وصل الإخوان إلى الحكم حتى ترك مدبولى الوزارة ليعمل بعيدا فى الأمم المتحدة لكنه عاد إلى الوزارة بحقيبة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية فى أول حكومة شكلها الرئيس المؤقت عدلى منصور.

كانت مشكلته أنه لم يسبق له التعامل مع ملفات المرافق (المياه والصرف الصحى) فنشطت غريزة التلميذ فلم يتوقف عن دراستها ودعا إلى اجتماع أسبوعى مع المسئولين عنها ولم يتوقف عن زيارة محطاتها لبحث حالتها.

كانت محطة مياه القاهرة الكبرى تعانى من خلل فى التشغيل بسبب ما تفجر فيها من فساد فتدخل بحسم حتى وضعها على خريطة المرافق وتكرر الموقف ذاته مع محطة مياه 6 أكتوبر.

وحاول جاهدا زيادة أعداد القرى المستفيدة من الصرف الصحى ورفع حجمها من 14% عام 2014 إلى 37% الآن.

ونشطت حركة الإسكان إلى حد تصور البعض بوصول العقارات إلى حد التشبع ولكنه أكد أن التشبع حدث للبيوت عالية المستوى أما شقق الطبقات الوسطى والدنيا فلا تزال فى حاجة إلى مئات العمارات.

لكن كان هناك فى تقديرى سبب آخر للصعود إلى منصب رئيس الحكومة : مساهمته فى المخطط الاستراتيجى القومى للتنمية الحضارية فما إن سأله الرئيس عبد الفتاح السيسى عنه حتى سارع بتقديمه إليه ولم يتردد الرئيس فى إطلاق إشارة تنفيذه فورا.

على أن «التلميذ» الذى كف عن المذاكرة بعد نجاحه فى التشييد والإسكان وتخطيط وتنفيذ مدن ذكية وجد نفسه مجبرا على المذاكرة من جديد بعد أن تمتع بلقب «دولة الرئيس».

إن الملفات الاقتصادية فى الحقيقة أهم ما يشغل رئيس الحكومة ولو لم يستوعبها يصبح مثل رجل دين لم يحفظ كتابه المقدس.

وما ضاعف من المشكلة أن اختياره لرئاسة الحكومة جاء فى وقت يحتاج فيه برنامج الإصلاح الاقتصادى إلى مزيد من الجهد والرعاية حتى يشعر المواطن بثماره بعد أن ذاق مرارته.

إن صندوق النقد الدولى عليه أن يقيم البرنامج كل ثلاثة أشهر ومن جانبها ستستعين الحكومة به فى أمور فنية خاصة بالصناعة والتصدير وكبح التضخم والحماية الاجتماعية للطبقات محدودة الدخل.

جاء الرجل بكل الملفات ليدرسها وكون مكتبا فنيا من أكاديميين ينتمون لتخصصات مختلفة وغالبيتهم من الشباب عند مستوى أستاذ مساعد درسوا أحدث النظريات وأكثرها تطورا.

ولكنه فى الوقت نفسه استعان بعدد من الاقتصاديين الكبار ومنهم الدكتور حازم الببلاوى الذى سبقه فى رئاسة الحكومة واختار الدكتورة جيهان صالح العميد الأسبق لكلية النقل الدولى واللوجستيات فى الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحرى.

تخرجت فى الجامعة الأمريكية وحصلت على الماجستير منها تمهيدا للدكتوراه التى نالتها من شيكاغو وساهمت فى إدارة شركات متنوعة الملكية. مهمتها تحضير الملفات ليدرسها قبل أن يناقش فيها الوزراء المختصين دون وجود وسطاء بينه وبينهم.

ولعل أفضل ما يؤمن به مصطفى مدبولى أن وجوده فى منصب رئيس الحكومة امتداد لمن سبقوه فى المنصب.. يكمل ما بدأوه.. ويواصل ما قطعوه.

المؤكد أن ذلك سلوك غير معتاد.. فالقادم غالبا ما ينفى عمل الراحل.. بل يرفضه.. وربما سخر منه.. إن البداية من الصفر التى اعتاد عليها المسئولون فى بلادنا أهدرت موارد.. وعطلت قدرات.. ودمرت مخططات.

ولم يكمل «دولة الرئيس» مشوار من سبقوه فقط وإنما واصل الاستعانة بقياداتهم الإدارية وأوضح نموذج المهندسة راندة على صالح المنشاوى التى احتفظت بمنصب رئيس قطاع مكتب وزير الإسكان على مدى خمسة وزراء آخرهم مصطفى مدبولى التى انتقلت مديرة لمكتبه فى رئاسة الوزراء.

وأغلب الظن أن رئيس الحكومة لم يجلس على مقهى وإن يهوى مشاهدة أفلام الأبيض وأسود بل يحفظ جملا منها وفى الوقت نفسه يعشق الآثار وربما يميل إلى اقتناء التحف ولو لديه وقت يتسوق بنفسه ما يحتاج ويتناول الطعام مع أبنائه الثلاثة.

إن صفة التلميذ من أحب الصفات إلى نفسى.. إنها تعنى رغبة فى التعلم لا تخفت.. وتجدد فى المعرفة لا يتوقف.. ولكن.. للأسف أهانتها الثقافة الشعبية حيث يستنكرها البعض قائلا فى صلف: «فاكرنى تلميذ؟».. «يا ريت يا أخى تكون تلميذ».