عادل حمودة يكتب: الأسئلة الحائرة فى أمريكا

مقالات الرأي



هل نضحى بالدستور مقابل شريحة لحم أرخص؟

هل نقبل بفاشية ترامب مقابل ضرائب أقل؟

هل نتجاوز عن إساءة استخدام السلطة مقابل وظائف أكثر؟


تصف النخبة الأمريكية دونالد ترامب بالخرف السياسى.

وعندما يصاب رئيس بالخرف السياسى يستطيع أن يفعل ما يشاء.

يهجر زوجته.. يشك فى مساعديه.. يسب أبناءه.. يلحس قراراته.. يبتز حلفاءه.. وربما فقع عينيه.. أو قطع أذنيه.

ليس للخرف السياسى حدود.. يمكن يتمكن منه يرتكب كل الحماقات الممكنة وغير الممكنة.. يمكن أن يقف عاريا أمام الكاميرات.. أو يستخدم الدستور كورق تواليت فى الحمام.. أو يطلب من عاهراته التبول على فراش نام عليه سلفه فى موسكو.. أو يحول قرار مجلس النواب بمحاكمته بتهمة إساءة استخدام السلطة إلى ورق تواليت.

لكن.. هل يخرف ترامب فعلا؟.

صحيح أن تصرفاته غير متوقعة.. وسلوكياته يستحيل التنبؤ بها.. وصوته من دماغه.. وفضائحه تجاوزت كل رؤساء أمريكا السابقين مجتمعين.. وربما تجاوزت اللاحقين كذلك.. وبقدر ما أنجز من تغييرات بقدر ما أحدث من تفجيرات.

ويزيد من جرعة الخرف لديه أن أهل السياسة يسبونه نثرا وشعرا.. سرا وعلنا.. يحرضون عليه ويتربصون به لدفعه إلى الانتحار.. والطرد من جنة البيت الأبيض التى تجرى من تحتها الأنهار.

اتهموه بتلقى دعم روسى فى الانتخابات الرئاسية.. واتهموه بالتلاعب فى أموال الحملة الانتخابية.. واتهموه بالتزوير فى ملفاته الضريبية.. ويتهمونه بتهديد الرئيس الأوكرانى بقطع المعونة عن بلاده ما لم يفضح فساد ابن جو بايدن منافسه القوى فى الانتخابات القادمة.. والتهمة الأخيرة تهدد بعزله فعلا.

وصحيح أيضا أنهم ينفون عنه الطهارة.. ويرجمونه بالدعارة.. ويرون شجاعته إشاعة.. ووجوده فى السلطة إهانة.

أكثر من ذلك.. يرون أفكاره فاشية.. عنصرية.. تهدد كل ما جنت البلاد من حرية.. وتجرجرها إلى نظام الشخص الواحد الذى تذهب فيه الديكتاتورية إلى صندوق الاقتراع وهى تلبس مايوه من قطعتين.. اسمه الديمقراطية.

لكن.. صحيح أيضا.. أنه أنقذ الاقتصاد القومى من السقوط فى كهوف البطالة والكساد والتضخم.. وقام بعملية نقل دم عاجلة للدولار وأنقذه من الانكماش الذى توقعه أكثر الخبراء قدرة على التنبؤ.. وأنعش سوق العقارات الذى يفهمه جيدا.. زاد الطلب على البيوت والفيللات والقصور.. أخذت أسعارها فى الصعود.. علامة على سعادة الطبقات الاجتماعية المختلفة.. وفرض على المستثمر الأجنبى أن يدير مشروعه بنفسه وأجبره على تشغيل ثمانية على الأقل تحت تصرفه.. وقضى بذلك على ظاهرة الشركات الوهمية التى تولد على الورق فقط ليحصل أصحابها على الجنسية الأمريكية.

لمست بنفسى فى رحلتى الأخيرة إلى الولايات المتحدة ما يؤكد ذلك ويثبته.

تامبا مدينة ناعمة فى فلوريدا.. تقع فى حضن خليج هادئ.. يبتسم أهلها فى وجوه الغرباء.. يتمتع عدد كبير منهم بوفرة من المال تجعلهم يقتنون الكلاب النادرة مرتفعة الثمن.. ووسط الحدائق يمارسون رياضة اليوجا.. وفى الويك إند يرقصون التانجو أمام بيوتهم.

أدخل المطاعم.. تجول فى مراكز التسوق.. اقرأ الصحف المحلية.. تابع قنوات التليفزيون العامة.. اشترى احتياجاتك من سوبر ماركت.. تعامل مع أقرب بنك.. ستطاردك لافتة فى كل مكان تذهب إليه: «نحن فى حاجة إلى عمالة».

كل التخصصات مطلوبة: محاسب.. شيف فى مطبخ.. سائق شاحنة.. بائعة فى محل ملابس.. صانع قهوة.. موصل طلبات إلى المنازل.. مسئول تغذية فى مستشفى.. سيدة تجيد النطق بوضوح لتقرأ لجنرال سابق الجرائد.. رسام حكايات أطفال.. جزار.. مصمم لعب فيديو.. عامل غسيل سيارات.. مدير متخصص فى نشر الروايات الخيالية.. خبير فى جماعات الضغط.. مثلا.

وتتكرر اللافتة فى ولايات ومدن وريف البلاد.. ربما اختلفت الوظائف المطلوبة.. ربما اختلفت الأجور.. ربما اختلفت الشروط.. ولكن.. ذلك لا ينفى أن العمالة المطلوبة أكبر من العمالة المعروضة.. مما يعنى انخفاض فى مستوى البطالة لم يحدث خلال السنوات العشر الماضية.

كانت نسبة البطالة فى عام 2009 تقترب من 6%.. تجاوزت 10% فى عام 2010.. ولكنها هبطت فى العام الجارى إلى 4.3%.. معجزة بكل المقاييس الاقتصادية.. تزيد قيمتها إذا ما عرفنا أن حجم القوى العاملة زاد بنسبة 12 % خلال تلك المدة.. وأن الحد الأدنى للأجور ارتفع.. وأن التكنولوجيا نجحت فى استبدال الماكينات بالبشر.. والتسوق عبر الإنترنت تسبب فى إغلاق كثير من المحلات التجارية.

فى نيويورك توصف جزيرة مانهاتن بدرة المدينة الساحرة.. تحتضن ناطحات سحابها فنادق شهيرة.. وبيوت أزياء راقية.. وشركات سمسرة قوية تنعش البورصة أو تخمدها.. وبنوك تجارية تمسك باقتصاد البلاد من رقبته.

على عشاء فى «تايم سكوير» ضم سفراء عرب وخبراء فى صندوق النقد الدولى ونجومًا فى برامج تليفزيونية تروج للحزب الديمقراطى توافق الجميع على أن ترامب سيفوز فى الانتخابات الرئاسية القادمة لو لم يمت أو ينتحر أو يطرد أو يجبر على الاستقالة.

بدا الحزن على أغلبهم بعد أن توصلوا إلى هذه النتيجة فضاعفوا من عدد الكؤوس التى تجرعوها.

أما السبب فى رأيهم فذكره أحدهم سبق له العمل فى الحملة الرئاسية لهيلارى كلينتون :

ـــ معروف أن كل ما يحصل عليه المواطن من مال يخصم منه مبلغا تحت حساب الضرائب وبعد الانتهاء من تسوية حالته يعيدون إليه ما زاد عن ما عليه سداده فى شيك يسعده كثيرا وما أن جاء ترامب حتى وجد المواطن أن قيمة ذلك الشيك تضاعفت مما يعنى أن سعادته هى أيضا تضاعفت فلم لا يصوت لترامب من جديد؟.

إن الموت والضرائب فى أمريكا هما ما يهددان حياة مواطنيها.. وقد واجه أوباما الموت بقانون التأمين الصحى الذى منح الجميع حق العلاج المجانى.. وواجه ترامب الضرائب بتخفيضها وإضعافها والتساهل فى سدادها وسرعة إعادة ما خصم تحت حسابها.

فى واشنطن يتميز فندق «فور سيزونز» حى جورج تاون بلون الطوب الأحمر وبسبب تعدد مداخله يفضله حكام العالم ونجومه خلال وجودهم فى العاصمة الأمريكية ولكن الأهم أن ساحته الداخلية المسموح بالتدخين فيها أصبحت ملتقى الشخصيات المؤثرة فى صنع القرار من سياسيين ونواب وصحفيين وسفراء.

عند تغطيتى لمباحثات سد النهضة فى واشنطن أتيح لى تناول الإفطار مع عينة شرسة من تلك الشخصيات المتعددة الانتماءات والتصورات.

لكن.. فى ذلك الصباح اتفق الجميع على قضية واحدة: هل نقبل بالفاشية مقابل الرفاهية؟.. هل نضحى بالديمقراطية ولو انخفضت غالبية السلع الغذائية؟.. هل نغفل عن تجاوزات الرئيس الدستورية والسياسية بدعوى أنه جعل معيشتنا أفضل؟.

وكانت الإجابات كلها بالنفى.. وكانت الحجة القاطعة: إن ترامب الذى أنعش الاقتصاد سيتسبب فى خرابه بسبب حروبه التجارية مع كثير من حلفاء أمريكا وعلى رأسهم الصين مما رفع سقف التنبؤ بكساد جديد سيحل العام القادم سيكون أسوأ مما شهدته البلاد فى عام 2008.

وجاءت كثير من الإضافات شارحة وداعمة:

إن الرئيس محدود الخبرة إلا فى تجارة العقارات وفى الوقت نفسه لا يسمع للخبراء بل يكرههم.

إن غالبية الناس التى لا يهمها سوى أسعار منخفضة وأجور أعلى لا ترى الصورة كاملة ولن تشعر بالكارثة إلا بعد وقوعها.

إن الدول الديمقراطية تجوع ولا تأكل بثديها ولا تضحى بحريتها فالحرية تطيل عمر النظم والفردية تجهز عليها ولو بعد حين.

لكن.. رجل الشارع الذى تقابله فى مطعم أو قطار أو محطة وقود يرى فى ذلك ثرثرة فارغة من شخصيات مستريحة انفصلت عن القاع ولا يتغير حجم الترف الذى تعيشه بتغير الرؤساء.

وكالعادة فإن القاعدة عند من لا يملكون إلا قوت يومها: «احيينى النهاردة وموتنى بكره» وهؤلاء هم رصيد ترامب الكبير الذى سيصوت له فى الانتخابات القادمة إذا لم يطرد أو يمت أو يقتل والاحتمالات الثلاثة واردة طبعا وقطعا.