محمد مسعود يكتب: مثلث الشيطان

مقالات الرأي



لم يكف «أبو إسماعيل»، عن المحاولة، رغم تحالف ماردى العجز واليأس عليه، وسكون الغيمات فى سماء واقعه وأحلامه.. لم يغير نمط المحاولة، يخرج يوميا فى الخامسة صباحا، ليقف بين أقرانه، منتظرا الرزق من الرزاق الكريم.

وكعامل تراحيل، تراجعت صحته، واشتعلت رأسه شيبا، بات الطلب عليه نادرا.. وربما مستحيلا، سيناريو يومى متكرر، لا يكتمل إلا بجملة تقابله بها «أم إسماعيل»: «خير يا أبو إسماعيل»، فيرد فى فتور:» خير يا أم إسماعيل».. ويبقى الحال هو الحال، فقر وعجز وجرعات فشل مستمرة.

وفى أحد الأيام، كان عدد العمال أقل من العمل الذى يود المقاول إنجازه، فاضطر لاختيار الجميع بما فيهم «أبو إسماعيل» الذى عمل بهمة ونشاط يناسبان حالته الصحية، وما إن انتهى يوم العمل، حصل أبوإسماعيل على أجرة يومه، يوم عمل وحيد، وسط مئات الأيام فى كساد وبطالة، وقبض على أجرته وأحكم قبضته، وبات يفكر، هل يشترى الملوخية، أم الخبيزة، علاوة على نصف رطل من اللحم الذى صار زائرا خفيفا يهل مرة كل سنوات.

كان أصدقاء أبوإسماعيل يجلسون على المقهى « تعالى يا أبو إسماعيل اشرب معانا شاى»، فجلس معهم، وفكر فيما سيحدث غدا؟.. هل سيختارنى المقاول؟ أم إنها محض صدفة؟.. وأضناه التفكير فى الغد.. فطلب «تعميرة»، لم تذهب عن رأسه التفكير، فطلب أخرى وكوب شاى جديدا، وعند «التعميرة» الثالثة نسى كل شيء.. ودفع كل ما حصل عليه من عمله.. لم يشتر لحما أو خبيزة.. وعاد لمنزله، لتقابله «أم إسماعيل» متسائلة: «خير يا أبو إسماعيل»، ليرد وهو فى حال من السُطل: «هع.. خير يا أم إسماعيل !».

كانت السطور الماضية ملخصا لقصة قصيرة كتبها الأديب الكبير الراحل إحسان عبدالقدوس فى مجموعته القصصية «منتهى الحب»، ليوضح لنا أن إدمان القلق والخوف من المستقبل كفيل بتدمير الحاضر والمستقبل أيضا.

والحقيقة إن سطور إحسان عبدالقدوس عبرت الزمن، وبات فى مجتمعنا الانهزامى الحالى آلاف من النسخة المعدلة لـ«أبوإسماعيل»، نالت الدنيا من عزيمتهم وتسرب اليأس إلى عروقهم، فأجهزوا على أنفسهم بأفكار تمثل أحد أضلاع مثلث الشيطان.. «الانتحار، الإدمان.. والجريمة».

ويبقى وراء كل ضلع من أضلاع المثلث الشيطانى، دافع يحدد سلوك الأشخاص، كل على حدة، والسلوك.. هو أى فعل، أو رد فعل، يصدر عن الإنسان، ويكون قابلا للملاحظة.

والملاحظ فعليا خلال الشهور الأخيرة ارتفاع نسبة الجريمة، والإدمان، والانتحار، كل يقرر مصيرة، منهم من يجور على حياته بالانتحار، أو يجهز على غيره بالجريمة، أو يصنع واقعا موازياً عن طريق جرعات من المخدرات.. لذا يعد أعظم انتصار فى ذلك الوقت هو إنجاز مشروع إعادة بناء الإنسان.

المجتمع فى حاجة إلى مُثل وقيم.. انتصارات، وإنجازات، فى حاجة أن يلمس أن الغد أفضل، وأن مصر خرجت من جراحة استئصال ورم سرطانى إخوانى كان متغلغلا فى مفاصل الدولة، لكنها فى غضون سنوات قليلة نهضت أو فى طريقها للنهوض بشكل كامل.

المجتمع فى حاجة إلى فرحة، تجدد خلايا السعادة التى تتآكل بداخلنا كلما شيعنا شهيدا أو بطلا، أو شابا منتحرا كان ضحية نفسه قبل أن يكون ضحية الآخرين.

السعادة اختيار، والحياة وجهة نظر.. صباح ومساء.. ضحى متهللا وليل داج.. فمن لم ير غير الظلام ستكون رؤيته سوداوية مثلما قال الشاعر اللبنانى العظيم إيليل أبوماضى فى قصيدته « المساء».. « لا فرقَ عندَ الليلِ بينَ النهرِ والمستنقعِ.. يُخفى ابتساماتِ الطروبِ كأدمُعِ المتوجعِ.. إنَّ الجمالَ يغيبُ مثلُ القبُحِ تحتَ البرقُعِ.. والكوخِ كالقصرِ المكينِ.. والشَوكِ مثلُ الياسمينِ».