د. رشا سمير تكتب: الشعلة الزرقاء

مقالات الرأي



رسائل جبران خليل جبران لـ"مي زيادة"


ماذا لو باعدت المسافات بين العشاق؟ هل يزدادون شوقا أم تفقد القلوب معنى اللقاء فتخبو قدرتها على التواصل؟ وماذا لو ظل العشق للأبد مجرد عشق عبر الأثير، عبر كلمات لم تتح اللقاء ولكنها زانته معنى وقوة وعذوبة؟.. ماذا لو؟..

هكذا كتبت أقدارهما، أن يلتقيا دون لقاء، أن تتعانق أفكارهما، ويرحلان عن نفس العمر دون أن تكتمل رحلتهما وكأنهما كانا دوما على ميعاد لم يتم، هكذا رحلا تاركين وراءهما إرثا من العشق، والكلمات والرسائل والتساؤلات..

تاركين وراءهما شُعلة زرقاء لم تخبر على مر الزمان.

الحكاية:

هى..

هى أديبة وكاتبة فلسطينية - لبنانية، اسمها الحقيقى مارى إليس زيادة، وُلدت فى الناصرة عام 1886 لأب لبنانى وأم فلسطينية أرثوذكسية، اختارت لنفسها اسم مى فيما بعد.. لتصبح مى واحدة من أشهر الأديبات والشاعرات فى عصرها..

لها بصمة شاعرية حالمة من خلال كتابات بدأت بكتاب وانتهت بصالونها الأدبى الأشهر، الذى كانت تقيمه فى منزلها الكائن فى شارع عدلى، كل يوم ثلاثاء منذ عام 1913، حتى انتقل عام 1921 إلى إحدى عمارات جريدة الأهرام واستمر حتى الثلاثينيات من القرن الماضى..

صدر لها أول كتاب أشعار باللغة الفرنسية بعنوان «أزاهير حلم» كتبته تحت اسم مستعار هو (إيزيس كوبيا)..

وقع فى غرامها أربعة من عمالقة الكلمة هم أحمد شوقى، مصطفى صادق الرافعى، عباس العقاد وأخيرا جبران خليل جبران، وعلى الرغم من كثرة عشاقها إلا أن مى زيادة لم تتزوج ولا مرة واحدة فى حياتها!.

توفيت عام 1941 عن عمر يناهز الـ55 عاما، لم يمش فى جنازتها، على الرغم من شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم بغير حصر، سوى ثلاثة من الأوفياء، هم: أحمد لطفى السيد، خليل مطران، وأنطوان الجميل!..

هو..

هو شاعر وكاتب ورسام عربى لبنانى من أدباء وشعراء المهجر، ولد فى بلدة بشرى فى شمال لبنان، هاجر صبيًا مع عائلته إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرس الأدب وليبدأ مسيرته الأدبية، كتب باللغتين العربية والإنجليزية.. كان عاشقا للكثيرات وملهما للأخريات.. لكنه لم يتزوج على الرغم من غرامياته الكثيرة..

توفى جبران بنيويورك فى 10 أبريل 1931، عن عمر ناهز 48 عاماً، بسبب مرض السل وتليف الكبد، وقد تمنى جبران أن يُدفن فى لبنان، وتحققت أمنيته فى 1932، حيث نقل رفاته إليها، ودفن هناك فيما يُعرف الآن باسم «متحف جبران».

جبران ومى:

حالمان.. عاشقان.. روحان لم يلتقيا.. إلا على الورق من خلال مجموعة رسائل استمرت بينهما لمدة عشرين عاما ما بين نيويورك والقاهرة..

هى تكتب وهو يرد.. هى تشدو وهو يُطرب لعذوبة الكلمات.. هى تعاتبه وهو يؤازرها.. هى تحكى له وهو يروى معاناته.. هى تُثنى على كتاباته وهو يحفزها للمزيد من النجاح..

حتى باتت تلك الرسائل هى قصة لقاء لم يتم، وعُمر لم يمر، ووجوه لم تلتق إلا من خلال عناق على الورق.

تلك الرسائل صنعت تاريخا من العشق الغامض منذ 1911 وحتى وفاة جبران فى نيويورك عام 1931..

هذا الكتاب الصادر عن دار نوفل للنشر التابعة للناشر هاشيت أنطوان بلبنان فى 177 صفحة من القطع المتوسط.. (الشُعلة الزرقاء.. رسائل جبران خليل جبران إلى مى زيادة) تحقيق وتقديم: «سلمى حفار الكزبرى» و«الدكتور سهيل بشروئى».

لا يُشبه كتاب الشُعلة الزرقاء أى كتاب آخر لجبران خليل جبران، فهو يضم رسائل حبّه للكاتبة مىّ زيادة، وعددها سبعٌ وثلاثون رسالة..

فى رأيى أن تلك الرسائل لم تعبر عن العشق الخالص بقدر ما هى بعد قراءة متأنية ليست إلا كنز من الثقافة والمعرفة، فهى تحتوى على هوامش ورد فيها أسماء كم هائل من الصُحف القديمة وأدباء عرب وأجانب أثروا الحياة الثقافية فى تلك الحقبة الزمنية.

تعارف جبران ومى على بعضهما البعض بعد أن أصاب كل منهما شهرة واسعة، فكانت مى معجبة بمقالات جبران، وبدأت فى مراسلته بعد كتابته لقصة «الأجنحة المتكسرة» والتى نشرها عام 1912 فى المهجر.

لم تكن الرسائل فى بدايتها تعبر عن إعجاب رجل بامرأة، بل كانت مجرد رسائل من أديبة مهمة تُدير صالونا ثقافيا وتعى قيمة الأدب الجاد، بواحد من أهم شعراء المهجر..

بدأت العلاقة بالعقل فى خضم تبادل ثقافى معلوماتى لا ينضب.. وكانت مى كثيرا ما تتصدى وبكل عذوبة وأدب إلى كلمات جبران إليها حين تتعدى نطاق المسموح به.. فاتسمت لغتها معه بالحذر واللهجة الرسمية، واستطاعت أن تخفى مشاعرها ولا تنفضح أمامه بضعف الأنثى الكامن بداخلها، وخصوصا أن اللقاءات كانت مجرد لقاءات بعيدة عن العين.

وعلى الرغم من كل ما كُتب عن علاقات جبران الغرامية من النساء أمثال مارى هاسكل، وميشلين، وغيرهما.. فإن حبه لمى كان الحب الوحيد الذى ملك قلبه وخياله حتى انتهى وتركها وحيدة تصارع ألم فراقه، حتى أصيبت باكتئاب حاد.. فقد كان حبه لها كما وصفه فى رسائله، معادلًا حبه العارم لوطنه لبنان، ولروحانية الشرق وبالدم العربى الذى يجرى فى عروقه..

وإليكم بعض المقتطفات من تلك الرسائل..

الرسالة الأول — 2 كانون الثانى 1914:

يبدأوها بلقب بات هو عنوان رسائله «حضرة الأديبة الفاضلة».. ويحكى فى المطلق..

«أنا معجب مثلك بالدكتور شميل، فهو واحد من القليلين الذين أنبتتهم لبنان ليقوموا بالنهضة الحديثة فى الشرق الأدنى، وهل قرأت الكتاب الفرنساوى الذى وضعه خير الله أفندى خير الله؟ أنا لم أره بعد، وقد أخبرنى صديق أن فى هذا الكتاب فصلا عنك وفصلا آخر عنى، فإذا كان لديك نسختان، تكرمى بإرسال نسخة منهما إلى وأجرك على الله..

«ها قد انتصف الليل، فليسعد الله مساءك ويبقيك للمخلص».

جبران خليل جبران

نيويورك 24 كانون الثانى 1919:

يقول فيها جبران: «حضرة الأديبة الفاضلة الآنسة مارى زيادة المحترمة.. سلام على روحك الطيبة الجميلة.. وبعد، فقد استلمت اليوم أعداد المقتطف التى تفضلت بإرسالها إليّ فقرأت مقالاتك الواحدة تلو الأخرى وأنا بين السرور العميق والإعجاب الشديد، إن مقالاتك هذه تبين سحر مواهبك وغزارة إطلاعك وملحة ذوقك فى الانتقاء والانتخاب».

30 تشرين الثانى 1919:

تلقت مى رسالة تتضمن دعوة من نادى (ماكدويل) فى نيويورك لحضور أمسية فنية أدبية يقرأ فيها جبران بعضا من حكاياته وأمثاله وينشد فيها الكاتب والشاعر الأمريكى ويتر باينرز بعضا من أناشيده، وقد كتب جبران على البطاقة بالإنجليزية:

( حبذا لو كنت هنا لتعيرى أجنحة لصوتى وتحولى تمتماتى إلى أغان، ومع ذلك سوف أقرأ وأنا على علم أن لى بين الغرباء صديقا خفيا، يسمعنى ويبتسم بعذوبة وحنان)

نيويورك 12 كانون الثانى 1925:

يا مارى، كنت فى السادس من هذا الشهر أفكر فيك كل دقيقة بل كل لحظة، وكنت أترجم كل ما يقوله لى القوم إلى لغة مارى وجبران، وتلك لغة لا يفهمها من سكان العالم سوى مارى وجبران وأنت تعلمين طبعا أن كل يوم من أيام السنة هو مولد كل واحد منا.

نيويورك 23 آذار 1925:

يا مارى، إذا قد قصصت شعرك؟ قد قصصت تلك الذوائب الحالكة ذات التموجات الجميلة؟ ماذا أقول لك؟ ماذا أقول وقد سبق المقص الملام؟ لا بأس، على أن أصدق ما قاله ذلك المزين الرومانى.. رحم الله آباء جميع الرومانيين..

ولم تكتف صديقتى المحبوبة بأنها أخبرتنى عن تلك الخسارة الفادحة، بل شاءت أن تزيد (على الطين بلة) فأخذت تحدث (فنانا شاعرا شغف بشعر الحضارة والشقرة، فهو لا يروقه سوى الشعر الذهبى، ولا يترنم إلا بجمال الشعر الذهبى، ولا يحتمل إلا الرؤوس ذات الشعر الذهبى).

فى 17 كانون الأول 1930

أرسل جبران إلى مى برقية بالإنجليزية تقول:

( كنت غائبا ثم تسلمت رسالتك الكريمة العذبة، لا أستطيع الكتابة بيد مريضة، هذه رسالة محبة وتمنيات طيبة بمناسبة عيد ميلاد مجيد وسنة جديدة مفعمة بالأناشيد).

فى 26 آذار 1931

كان رسم اليد مع الشُعلة، الشُعلة الزرقاء، آخر ما أرسله جبران إلى مى، حيث إنه توفى بعد ذلك بخمسة عشر يوما.

الشُعلة الزرقاء إذن هى البداية والنهاية، هى الخاتمة وسر الحكاية..

تساءلت حين وقعتا عيناى على غُلاف الكتاب لأول مرة، عن سر تسمية الكتاب بالشُعلة الزرقاء؟!.

وهكذا جاءنى الرد من بين سطور رسائل جبران إلى معشوقته مى.. من خلال صورته الأخيرة إليها، ومن خلال كلمات كتبها ضمن إحدى رسائله إليها، تقول:

(هل بإمكان الذات المقتبسة، وهى من الأرض، أن تحور وتغير الذات الوضعية، وهى من السماء؟ إن تلك الشُعلة الزرقاء تُنير ولا تتغير، وتحول ولا تتحول، وتأمر ولا تأتمر).