عادل حمودة يكتب: عودة كيسنجر للمشهد السياسى وكوشنر يرشحه وزيرا للخارجية!

مقالات الرأي



مفاجأة صفقة القرن: يديرها مصرفى سابق عمل فى سيتى بنك ويسعى لاقتناص ثروات أغنياء العالم هو مايكل كلاين!

عندما ظهر هنرى كيسنجر على المسرح السياسى - قبل نصف قرن ــ وصف بأنه قيصر العصر.. جنت صحف العالم به.. نشرت صوره فى المكتب والبيت وبانيو الحمام.. بالاسموكن وبلباس البحر.

ولد فى ألمانيا عام 1923.. بسبب ديانته اليهودية هرب مع عائلته إلى الولايات المتحدة خوفا من النازيين.. درس العلوم السياسية فى جامعة هارفارد.. اختاره الرئيس ريتشارد نيكسون مستشارا للأمن القومى.. نجح فى إقناع مصر وإسرائيل بالتفاوض معا بعد حرب أكتوبر بدعوى فك الاشتباك بين القوات.. تمهيدا لتوقيع معاهدة صلح بينهما فيما بعد.

تولى وزارة الخارجية فى عهد الرئيس جيرالد فورد محتفظا لبعض الوقت بمنصب مستشار الأمن القومى فى سابقة نادرة الحدوث.

تجاوز اليوم 96 سنة.. اعتقدت الدنيا أنه كف عن التآمر فى الكواليس.. مكتفيا بالتعليق على ما يحدث فى العالم.. أحيانا.. ولكن.. يموت الزمار وأصبعه يلعب.

استرد كيسنجر لقب القيصر وعاد إلينا حاملا تاج صفقة القرن بعد أن وضعه على رأسه جاريد كوشنر (صهر الرئيس دونالد ترامب) الأكثر تأثيرا فى السياسة الخارجية من الوزير المسئول عنها مايك بومبيو نفسه.

فى كتابه الأخير: «الحصار ــ ترامب تحت القصف» يكشف مايكل وولف ــ مؤلف كتاب نار وغضب ــ تلك المفاجأة التى جمعت بين الرجلين فى حب إسرائيل.

ما إن دخل ترامب البيت الأبيض حتى اتصل كوشنر بكسينجر.. طالبا النصيحة والمشورة.. وأراد كوشنر أن يحقق قفزاته الكبرى التى يحلم بها.. شعر كيسنجر بالثناء والإطراء من شاب مؤثر فى السلطة يحترمه ويبجله ويتبنى عقيدته التى تسعى إلى تحقيق المنفعة القصوى لمن يؤمن بها.

لجأ كوشنر إلى الرجل المسن ليغطى ندرة اهتمام والد زوجته بالسياسة الخارجية.. رأى كوشنر فى نفسه أنه عليه أن يلعب دور المستشار الأكثر حكمة الذى سبق أن لعبه كيسنجر.. وبينما اعتقد البعض أن كيسنجر أصبح عجوزا فارغا لا يكف عن التسلق الاجتماعى فإن كوشنر بدا واثقا أن كيسنجر سيمنحه خبرة خاصة فى عالم واشنطن المختلف.

ورغم أن فارق السن بينهما يقترب من ستين سنة فإن كوشنر بجرأة وصفت بالوقاحة تخلى عن اسم عائلة صديقه الجديد مكتفيا بالاسم الأول: هنرى.. فلتعلم يا هنرى.. كنت أتحدث للتو مع هنرى.. مثلا.

أما زوجته إيفانكا فكانت تشير إلى كيسنجر بـالعم هنرى صديق كوشنر فلم تكن توافق على غطرسة زوجها فى التعامل مع رجل غيَّر العالم أكثر من مرة.. نقل الصين من حالة العداء إلى حالة الوفاق.. سهل سقوط حائط برلين.. وساهم فى تفكيك الاتحاد السوفييتى.

لكن.. ذلك لا ينفى إشادة كوشنر ببراعة كيسنجر وصلته المتجددة بعالم معقد حتى إن كوشنر اقترح تعيينه وزيرا للخارجية ونقل إليه تلك الفكرة.

وفى المقابل ضغط كوشنر على كيسنجر لتزكيته لدى مجلة تايم لتضعه ضمن قائمة المائة شخصية الأكثر تأثيرا فى العالم.. استجاب كيسنجر حتى يحقق طموحه الذى لم تهزمه الشيخوخة.

لكن ترك السياسة الخارجية فى يد بيزنس مان مثل كوشنر جعل كثيرًا من الحكومات الأجنبية تسعى إليه لتحقيق مصالحها بعد إغرائه بصفقات تجارية ومالية كان فى حاجة إليها لإنقاذ أسرته من الديون ــ بعد دخول والده تشارلى السجن بتهمة التهرب من الضرائب ــ وحقق مستويات فلكية من المنفعة الشخصية.

على أن ترامب لم يختلف كثيرا عن زوج ابنته رغم ما بينهما من فقدان ثقة متبادل حتى إن ستيف بانون تنبأ بأن كلاً منهما سيكون سعيدا بدفع الآخر تحت عجلات حافلة مسرعة.. ولكن.. مؤكد أن مصالحهما المشتركة بلغت حدا يجعل دهس أحدهما دهسا للآخر.

ولم يمر سوى عدة شهور على تولى ترامب الرئاسة حتى أصبح كوشنر جزءًا من متاعبه القانونية وراحت جهات تحقيق فيدرالية متعددة تتحرى عنه وبدا أن الإيقاع به هو إيقاع بترامب نفسه.

ونظر مدعو العموم بريبة إلى قرض مصرفى قيمته 285 مليون دولار حصل عليه كوشنر ووالده من دتش بنك عام 2016 وكذلك مشروع إنقاذ مالى جاء مباشرة من وزير مالية قطر، حسب ما ذكر مايكل وولف فى الفصل العاشر من كتابه.

والمؤكد أن كوشنر استفاد من عيوب ترامب فى زيادة قوته السياسية وصفقاته المالية: إن ترامب يتصرف مثل طفل مفرط فى النشاط والحركة وليس لديه سبب واضح يفسر به لم يهتم بأمر ما دون سواه؟ وليست هناك طريقة للتنبؤ برد فعله تجاه هذا الأمر أو معرفة كيفية استجابته له ولم تكن لديه القدرة على التمييز بين المهم والأقل أهمية، كما أن الحقيقة الموضوعية شىء لا وجود له عنده.

وفهم كوشنر أن الإلهاء وصرف الانتباه مفتاح تسيير ترامب فضلا عن ذلك نجح كوشنر فى إقناع ترامب بالانخراط فى السياسة الخارجية حتى ينسيه متاعبه الداخلية والتحقيقات القانونية وهجمات الميديا الشرسة والفضائح الشخصية والجنسية.

وأغلب الظن أن استراتيجية تحويل ترامب عن مشكلاته الحالية بدا متأثرا بنصيحة تلقاها كوشنر من كيسنجر الذى سبق أن أقنع بها نيكسون فصرفت رحلاته الخارجية انتباهه عن مشكلاته القانونية بسبب فضيحة ووترجيت ولاحظ كيسنجر أن ذلك صرف انتباه الميديا أيضا.

إنها نظرية «هز ذيل الكلب » المأخوذة عن فيلم يحمل نفس الاسم «ووج ذا دوج» وتعنى تحويل الانتباه عمَّا تريد بافتعال شىء آخر يسعد الكلب فيهز ذيله.

مثلا: حتى يصرف بيل كلينتون اهتمام الميديا عن فضيحة مونيكا لونيسكى شن مجموعة هجمات لا طائل لها على معسكرات أسامة بن لادن المزعومة.

وهكذا.. دفع كوشنر والد زوجته فى اتجاه تخفيف العداء تجاه كوريا الشمالية حتى كان اللقاء غير المتوقع بينه وبين زعيمها كيم يونج أون بعد أن ارتفع صراخ التهديدات بينهما ورغم أن ترامب لا يستطيع أن يحدد موقعها على الخريطة.

جرى اللقاء لمدة 38 دقيقة فى سنغافورة.. ولم تسفر عن شىء.. ولكنها شغلت الميديا والكونجرس وجهات التحقيق القضائية عن سلبيات ترامب وبدا لأول مرة فى نظرها قائدا يثق فى نفسه ويتمتع بحضور كامل رغم أن ما حدث كان وهما فى وهم.

لكن صفقة القرن ليست كذلك بالمرة.

إن كوشنر ــ كما ذكر أكثر من مرة علنا ــ يعتبر بنيامين نتانياهو (أو بيبى كما يناديه) قدوته وصديقه ونجح فى أن يقربه من ترامب ليتعلم منه كيف يواجه التهم التى تلاحقه فى إسرائيل.

ورغم أن كيسنجر بخبرته السياسية وفراسته الشخصية تنبأ بسقوط نتانياهو ولو تدريجيا فإنه بارك جرأة ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإن طلب منه التروى فى إعلان ضم الجزء المحتل من الجولان إلى إسرائيل حتى لا تنهار صفقة القرن قبل أن تبدأ.

أضاف كيسنجر موجها نصائحه لكوشنر: إن قرار العرب فى يد شخص واحد فلا تفزعه بما لا يستطيع الدفاع عنه ولو أصاب غيره.

إن ضم الجولان مثلا سيزيد من تعنت الفلسطينيين فى قبول ما يعرض عليهم.. خشية أن يتكرر فى رام الله ما نالته دمشق.

ولن يجد توقف واشنطن عن دعم منظمة غوث اللاجئين حتى يرضخ الفلسطينيين.. سيزيد البؤس.. نعم.. ولكن سيزيد معه العنف.

لقد هدم ترامب بقرار حرمان الفلسطينيين من المعونات التى تقدمها الولايات المتحدة إليهم أساس صفقة القرن الذى يقوم على تخفيف معاناتهم وعلاج متاعبهم وزيادة حبهم للحياة فيكفون عن الموت فى عملياتهم العسكرية.

وهنا راح كيسنجر المشمئز ــ على حد ما ذكر مايكل وولف ــ يمزق ترامب وكوشنر بطريقة ممنهجة وعميقة قائلا: تستند السياسة الخارجية (التى تنفذونها) برمتها إلى رد فعل شخص واحد غير متزن على مفهومى الإهانة والإطراء لديه إذا قال أحدهم قولا طيبا بشأنه أصبحا صديقين وإذا قال كلاما غير لطيف وإذا لم يعلن الولاء فهو من أعدائنا.

فى صيف عام 2018 انتهى كوشنر من تجهيز ما ظن أنه سيكون مبادرة منشودة لحل أزمة السلام المستحيل فى الشرق الأوسط: مشروعات تنمية وبرامج إقراض مشتركة وتعاون إقليمى يمهد لمفاهيم مقبولة من جميع الأطراف للسلام.

وحسب وصفه فإن المبادرة فريدة من نوعها ولم تشهد المنطقة مثلها من قبل.

ولكن كوشنر عمل خارج القنوات الدبلوماسية ودون تدخل من البيت الأبيض علما بأن حماه وعد بأن تكون هذه المبادرة شيئا ضخما جدا.

واقترح كوشنر أن يقف البنك الدولى خلف مشروعه مع استثمارات ضخمة من الدول الغنية فى المنطقة وسيدير المشروع مستثمر مصرفى يدعى مايكل كلاين سبق العمل فى سيتى بنك وهو صاحب أعمال منتشرة ومتشعبة ويطل مكتبه على كاتدرائية سان باتريك فى وسط مانهاتن، وهو عبارة عن مساحة شاسعة يشغلها مع مجموعة من مساعديه عليهم تحديد أغنى أغنياء العالم ليقيموا علاقات شخصية معهم.

ولكن كلاين شكك فى نجاح المشروع وأخبر أصحابه فى مجلسه الخاص بأنه يظن أن أحد دوافع كوشنر هو تقديم نفسه على أنه الرجل الذى لا يستغنى عنه فى إدارة الرئيس فضلا عن رغبته فى إعلان المبادرة فى فترة ما قبل انتخابات التجديد النصفى فى الكونجرس ربما يفوز فيها الجمهوريون وهو ما لم يحدث فى مجلس النواب.

وأضاف كلاين: إن كوشنر يؤسس شركة علاقات عامة تهدف إلى مواجهة أى دعاية سيئة فى حال وجهت إليه التهم وجرت إدانته.

لقد أراد كوشنر أن يظهر بمظهر اللاعب الأساسى فى تحقيق السلام فى الشرق الأوسط، ولكن خطته أخفقت فى إبصار النور فلم يكن أمامه سوى أن يخرج منها بصفقات مالية وتجارية تدعم عائلته قبل أن يخرج «حماه» من البيت الأبيض.