إسرائيل تكشف كيف نجح "عبد الناصر" فى تجنيد السوفييت بعد "النكسة"

العدد الأسبوعي

جمال عبد الناصر
جمال عبد الناصر


بعد كشفها عن بعض التفاصيل المثيرة بشأن حرب الاستنزاف، والتى تم نشرها للمرة الأولى، نشرت صحيفة هاآريتس العبرية تفاصيلا أخرى جديدة صاغها الخبير والمحاضر جيى لارون، بقسم العلاقات الدولية بالجامعة العبرية، حول الجلسات التى عقدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع كبار المسئولين بالحكومة السوفيتية، وكيف أقنعهم بالوقوف كحليف قوى بجانب مصر بعد انتهاء حرب 1967.

قال «لارون» إنه خلال الساعات الثلاث الأولى من حرب 1967، نجح الجيش الإسرائيلى فى قصف المطارات العسكرية بسيناء وداخل المدن المصرية، وتمكن من شل حركة السلاح الجوى المصري، وكان هذا الأمر أحد الأسباب الرئيسية فى انتصار إسرائيل بهذه المعركة.

وأضاف أن «عبد الناصر» كان على علم بحجم المشكلة، لذلك توجه إلى الاتحاد السوفيتى فى نهاية يونيو 1967،وعرض على الاتحاد أن يتحملوا مسئولية منظومة الدفاع الجوى لمصر، وكرر عبد الناصر هذه المحاولة فى يوليو 1967، لكنه اصطدم برفض السوفييت خلال المرتين،وكان المبرر الرئيسى لهذا الرفض هو الخوف من التورط فى حرب داخل منطقة الشرق الأوسط.

وكان لدى «السوفييت» مخاوف أخرى أبرزها امتلاك الأمريكان تكنولوجيا متقدمة بمقدورها إطلاق صواريخ محملة برؤوس نووية نحو الاتحاد السوفيتى عن طريق السفن والغواصات التى تمتلكها بالبحر المتوسط، لذا حاول السوفييت فى أواخر الخمسينيات وضع قوات بحرية بالبحر المتوسط حتى تخلق نوعا من التوازن الحربى أمام الأسطول الأمريكى، وحتى حرب 1967 رفض عبد الناصر السماح بذلك للاتحاد السوفيتى ورأى فى هذا المطلب ضربة قوية للسيادة المصرية.

ولكن بعد الحرب كما يشير الخبير الإسرائيلى، أصبحت مصر مرتبطة بشكل كبير بالاتحاد السوفيتى الذى كان يمتلك الموارد والدوافع لمساعدة مصر فى إعادة البناء عسكرياً واقتصاديا بعد هزيمتها فى الحرب،لذلك سمح عبد الناصر للسوفييت ببناء قاعدة بحرية بالإسكندرية وأخرى جوية بالقاهرة، وبذلك وضعوا وحدة بحرية كاملة أمام الأسطول الأمريكى وسرب للطيران يحمل اسم «سرب 90» للدفاع عنها.

إلا أن التصعيد الذى تم بحرب الاستنزاف هدد هذا الإنجاز للسوفييت، ففى صيف 1969 بدأت مصر فى إطلاق قذائف مدفعية ثقيلة نحو بعض المواقع الإسرائيلية، وفى المقابل قام السلاح الجوى الإسرائيلى بشن بعض الغارات عرفت باسم «عملية بوكسير».

وخلال شهرى سبتمبر وأكتوبر 1969، قصف السلاح الجوى الإسرائيلى، جزءاً كبيراً من منظومة الدفاع الجوى المصرية، ونجحت الضربات التدميرية المتتالية نحو بطاريات المدفعية المصرية فى تقليل عدد القذائف المدفعية التى كانت تطلق على المواقع الإسرائيلية لكنها لم تنجح فى تقليل عدد القتلى الإسرائيليين الذين تراوح عددهم بين 12 و14 جنديا شهرياً.

وفى نوفمبر 1969، حلقت طائرتان من طراز فانتوم  الأمريكية بسماء القاهرة، وتسبب دوى الطائرات الذى يتجاوز حاجز الصوت، فى تحطيم مئات النوافذ من بينها النوافذ الخاصة بمنزل جمال عبد الناصر، وبعد يومين خرج عبد الناصر ليلقى كلمة بمجلس النواب، قال خلالها إن السبيل الوحيد أمام مصر هو حرب للحياة أو الموت.

وخلال ديسمبر عام 1969، سافر وفد مصرى إلى موسكو ضم وزير الخارجية محمود رياض، ونائب رئيس الجمهورية أنور السادات، ورئيس الأركان محمد فوزى، للحصول على مساعدات من الاتحاد السوفيتى، وكان اللقاء الأكثر للوفد مع ليونيد بيرجينيف، الرجل الأقوى بالكرملين، والذى قال لهم : «يجب أن تمتنع مصر من الدخول فى الحرب هذه الفترة، نظراً لعدم استكمال خطتها العسكرية»، رغم ذلك تعهد بريجينيف أنه خلال شهر واحد ستقوم موسكو بإرسال 60 من الطيارين لمصر للعمل كمستشارين.

وأكد «بريجينيف» لأعضاء الوفد، أن موسكو لن تترك مصر ولذلك سيتم إرسال لها صواريخ سام 3 الدفاعية الجديدة، ومعها ألف جندى لتشغيل بطاريات الصواريخ وتعليم نظرائهم المصريين وحماية المدن المصرية من الهجمات الإسرائيلية، وأوضح أن هذه المعدات والقوات ستصل مصر خلال أكتوبر 1970.

وفى شهر أكتوبر تشاور بريجينيف مع زعيم ألمانيا الشرقية ولتر أولبريخت، إلا أن الأمر الرسمى لتنفيذ العملية قام بريجينيف بالتوقيع عليه فى نهاية شهر ديسمبر بعدما علم من خلال محادثاته مع السادات، أن مصر ستوافق على قبول ما تعهد به، ورغم ذلك فإن العملية التى أطلق عليها عملية «القوقاز» «لتحويل الصواريخ الدفاعية سام 3، ومعها ألف جندى روسى، جاءت محدودة، واقتصرت على ألف جندى، واستهدفت حماية القواعد البحرية والجوية التابعة للاتحاد السوفيتى بمصر.

وفى يناير 1970 بدأت إسرائيل عملية ضرب العمق المصري، وتم تنفيذ غارتين قبل سفر عبد الناصر لموسكو، ونُفذت عمليتان أثناء وجوده هناك ووقتها رأى عبد الناصر أن هذه الغارات من شأنها أن تغير الوضع تماماً وأنه لن يكتفى بالعهود المحدودة التى أقرها «بريجينيف».

وأثناء تلك الفترة كان عبد الناصر مريضًا بشدة، وعلى الرغم من ذلك، قرر السفر مرة أخرى لموسكو ليفرض على السوفييت زيادة المساعات الخاصة بعملية «القوقاز»، وتسريع معدلات الاستعداد، وبعد أسبوعين من بدء عمليات ضرب العمق المصرى، سافر عبد الناصر لموسكو، وأجرى سلسلة من اللقاءات كانت الأهم منذ انتهاء حرب 1967.

ووقتها طلب «عبد الناصر» فور هبوط طائرته مقابلة بريجينيف، وقال له إن الاتحاد السوفيتى فعل مع مصر كل ما بوسعه من مساعدات لكن دخول طائرات الفانتوم الأمريكية للمنطقة فى نهاية 1969غيرت الصورة من النقيض إلى النقيض ومصر ليس لديها الرد العسكرى المناسب لهذا النوع من الطائرات.

وبعد مشاورات عديدة بين القادة السوفييت، قال «بريجينيف» إن الاتحاد السوفيتى مستعد أن يوفر لمصر صواريخ سام 3 الدفاعية وتدريب المصريين على تشغيلها، ورد عبد الناصر بأن فترة التدريب على تشغيل الصواريخ الجديدة والتى تستغرق 6 أشهر، لا تعد حلاً مناسباً، مطالبا الحكومة السوفيتية بإرسال الصواريخ ومعها مجموعة من الأطقم الروسية تتولى مسئولية حماية الجبهة الداخلية المصرية.

وفى هذا الوقت أعطى وزير الدفاع الروسى اندى جرتشيكو، إشارة لبريجينيف بالموافقة، وفى المقابل رد اليكس كوسجين، رئيس الوزراء وزعيم الحمائم بالكرملين بنوع من التحفظ قائلا: «لا يوجد أى تفسير آخر لهذا الاقتراح إلا تصعيد المواجهة ضد إسرائيل وهو ما سيتسبب فى حالة من الصدام  بيننا وبين الولايات المتحدة».

ورد «عبد الناصر»: أريد أن اعرف لماذا لا تخشى الولايات المتحدة مساعدة إسرائيل فى الوقت الذى يتردد فيه الاتحاد السوفيتى من أجل مساعدة مصر؟»، ولم يجب أحد عن سؤاله، فوجه حديثه للقادة السوفييت بنبرة تهديد: «إذا لم تستجيبوا لمطلبى سأعلن استقالتى على الفور وأوصى بتعيين نائبى زكريا محيى الدين وهو شخصية مؤيدة للأمريكان وسيخضع لجميع مطالب واشنطن»، وقتها أصيبت القيادة السوفيتية بحالة من الارتباك واقترح بريجينيف وقف المباحثات مؤقتاً للتشاور فى الأمر.

وفى الساعة الثانية عشرة ظهراً من اليوم ذاته تم عقد جلسة خاصة بمقر اللجنة المركزية للأحزاب الشيوعية، بمشاركة الأركان العامة للجيش الأحمر، وكان موضوع التدخل العسكرى بالشرق الأوسط مثار خلاف داخل الكرملين منذ حرب 1967، ورأى معظم أفراد القيادة السوفيتية أن الأمر لا يبرر حدوث مواجهة ضد الولايات المتحدة.

وبعد انتهاء جلسة اللجنة المركزية للأحزاب الشيوعية، اجتمع القادة السوفييت مع عبد الناصر، وبث بريجينيف بشرى سعيدة للوفد المصرى قائلا:» للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سيتم وضع جنود سوفييت داخل إحدى الدول الصديقة وتمت الموافقة خلال اجتماع  اللجنة المركزية للأحزاب الشيوعية على إرسال 23 بطارية صواريخ سام 3 مصحوبة بطاقم من الخبراء بالاضافة إلى 85 طائرة ميج ومعها طاقم كبير من الطياريين السوفييت».

وذكرت الصحيفة فى النهاية أن استخدام السلاح الجوى الإسرائيلى كمدفعية طائرة تسبب فى هزيمة استراتيجية لإسرائيل، مضيفة أن أمريكا غيرت رأيها وفرضت على إسرائيل قبول اتفاق وقف إطلاق النار.