د. رشا سمير تكتب: سيدات القمر

مقالات الرأي



هل لايزال الغرب ينبش فى أوجاع المرأة العربية ويتسلل ليسكن أحلامها؟ هل لاتزال المرأة العربية تكتب نفس القهر والوهن والانكسار فى خانة الهوية؟ هل وصلت النساء العربيات إلى القمر أم لايزال القمر يشيح بوجهه بعيدا عنهن كلما اقتربن او ارتقين إليه؟ هل لاتزال النساء العربيات مغتربات فى آفاق حلمن بها أم رست بهن السفن فوق أهداب السماء البعيدة وغفت؟..

أسئلة ظلت تطاردنى كلما تقدمت صفحة بعد صفحة فى الرواية العربية التى رفعت صاحبتها إلى سماء الحُلم من خلال نيلها أول جائزة عالمية لامرأة عربية فى رحاب الأدب العالمى..

جائزة هى فى الحقيقة تاج على رؤوس كل الروائيات العربيات..

ومن ثم أصبح السؤال الذى جعل نسبة مبيعات الرواية ترتفع إلى السماء هو: ما السبب الذى جعل رواية (سيدات القمر) للروائية العمانية جوخة الحارثى تفوز بجائزة المان بوكر العالمية؟..

وقعت بعض الجوائز مؤخرا فى فخ التسييس والمحسوبية، والعلاقات الإنسانية..حتى فقدت بعض الجوائز مصداقيتها عند الأدباء وعزف عنها الناشرون..

كان لابد أن أقرأ تلك الرواية الصادرة عن دار الآداب والتى أصدرت أيضا لها (دار ومكتبة تنمية) طبعة خاصة بمصر، قرأتها لأحكم وأرقب وأتعلم وأفسر..

1- تعددت الجوائز والفوز واحد

على سبيل المثال وأنا من أشد المعجبين بالُمبدعة هدى بركات فهى روائية لا خلاف عليها، وجدت أن فوزها بجائزة البوكر العربية عن رواية (بريد الليل) كان فوزا غير منصف، لأن أعمالها الروائية التى سبقت هذا العمل كانت أقوى وأكثر إبداعا وتمكنا، حتى إنها هى شخصيا صرحت بأنها كانت تتمنى الفوز عن عمل من أعمالها القديمة!

يُذكر أن جائزة مان بوكر العالمية هى جائزة دولية تأسست فى المملكة المتحدة رسميا فى عام 2005، وتمنح كل سنتين إلى رواية تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.

جدير بالذكر أن لجنة تحكيم الجائزة العالمية، مان بوكر 2019، تكونت من لجنة مؤلفة من خمسة قضاة، برئاسة بيتانى هيوز، مؤرخ ومؤلف ومذيع حائز على الجوائز، وهى مؤلفة من كاتب ومترجم ورئيس للغة الإنجليزية الفيلسوف البروفسور انجى هوبس، الروائى والساخر ناثان جون والكاتب والروائى بانكاج ميشرا.

الجدير بالذكر أيضا أن (سيدات القمر) صدرت لأول مرة عام 2004 أى قبل تسع سنوات من ترجمتها وفوزها بالجائزة، مما يؤكد أن الجوائز تبعث الحياة حتى فى الروايات المنسية!

هناك أكثر من خط درامى فى الرواية.. وأكثر من بُعد إنسانى وحالة من تعاقب الأجيال والعديد من الشخصيات، لدرجة جعلت بعض القراء ينفرون من استكمال الرواية بسبب الخلط الذى يصحب القارئ كلما ظهرت شخصية جديدة..

تـتـجلى بوضوح بصمة الكاتبة فى إحداث ثورة فى نفس القارئ بخلق مساحة للتحرر والعشق بلا قيود من خلال علاقة عـزان وَنجـية البدوية الجميلة الملقبة بـ«القمـر»..

2- قرية العوافى

تدور الرواية داخل قرية (العوافى) العمانية وتتناول الكاتبة حياة البشر فيها بتجرد شديد، بالإضافة إلى عرض ذكى بالتوازى مع الأحداث الدرامية، لتاريخ عمان الاجتماعى والسياسى من أربعينيات القرن العشرين وحتى العصر الحاضر، من خلال حياة ثلاث شقيقات يشهدن على التطور فى المجتمع العمانى بعد الاستعمار وتداعياته، مرورا بالتغيرات التى طرأت على المجتمع العمانى بعد قرار الأمم المتحدة بتحرير العبيد عام 1926، هكذا تسلط الروائية الضوء بكل جرأة على مسألة العبودية فى المجتمع العمانى..وكأنها تكشف المستور وتضع يدها فى عُش الدبابير دون خوف!..

تبدو عائلات هذه القرية مختلفة ما بين السادة وهم ملاك الأرض، والعبيد الذين كان يتم شراؤهم وتربيتهم داخل بيوت السادة حتى يصبحون جزءًا منها..

3- هُن والقيود

الراوي داخل الرواية من خلال فصول قصيرة لا يمل منها القارئ هو كل بطل يُطل علينا على حدة، حيث ترسله جوخة ليحكى حكايته، فهكذا تتعدد الأصوات داخل الصفحات.. وهى الطريقة التى اتبعها لأول مرة أورهان باموق فكان صاحب هذا الاختلاف عن فكرة الراوى العليم التقليدية.

إلا أن الروائية تلجأ أحيانا إلى الراوى العليم فى بعض المواقف، مما أراه أنا شخصيا قد أحدث نوعا من الحيرة عند القارئ جعلتنا نتعثر بعض الشىء فى هضم أحداث الرواية ومتابعتها بسلاسة..

تختلف النساء بين الصفحات ربما شكلا والأكيد ليس موضوعا، لأن الروائية ربطت عوالم تلك النساء بقيمة واحدة هى القهر والخنوع الذى تعانى منه المرأة فى عمان، وهو ما يجعلنى أجزم أثناء قراءتى أن هذا هو السبب الأكيد لفوز الرواية بالجائزة..

على الرغم من أن الرواية معنية بمصطلحات وأماكن وعادات عمانية بحتة إلا أن المعاناة النسوية بشكل عام فى العالم العربى مازالت تستهوى الغرب!

فمن بين حكايات «ميا»، و«خولة»، و«نجية القمر»، و«ظريفة العبدة»، تولد الرواية، كما أن حضور الرجال كان جليا أيضا من خلال «عبد الله» وسرده لحكايته وطريقة بناء بعض شخصيات الرواية من خلاله، حين يحضر والده «التاجر سليمان» والعبد الذى يدعى سنجر ويسعى للحصول على حريته، وغيرهما من الشخصيات التى يزخم بها الكتاب.

4- قيمة المفقودة

العشق فى هذه الرواية ليس فقط حالة، بل هو قيمة متعددة الأشكال والمسارات والتعريفات، حيث طوعته الكاتبة ليعبر عن عدة عوالم بدلا من كونه علاقة ثنائية عابرة..

فهو تارة الحب العذرى الذى يبدأ بميا، وينتقل إلى حب أختها أسماء المثقفة بالدين، والمحاربة لزيف المشايخ، مرورا بالفنان خالد الذى أراد لها باسم الحب أن تصبح عاشقة فى محرابه، إلى ارتباط خولة بشاب يرتبط هو الآخر بأجنبية فى كندا، إلى حب نجية البدوية الفاتنة، التى تختار عشاقها بنفسها ثم ترسو على عزان لتعيش معه علاقة بلا إطار ولا مفهوم مقبول من المجتمع، سوى العشق الخالص الذى لا يخضع لورقة ولا لقيد، وأخيرا حبّ ظريفة العبدة لمالكها التاجر أبو عبدالله وتسليمها بالعبودية..

من وجهة نظرى أن القائمين على التحكيم لجائزة المان بوكر غالبا ما استهواهم القصص التى طرحتها الروائية لسرقة أطفال وشباب من قراهم فى إفريقيا، وشحنهِم فى سفن متهالكة ثم بيعهم من قبل التجار العرب والإيرانيين والبلوش فى أسواق النخاسة، وقسوة استغلالِهم فى العمل وابتزازهم جنسيا حتى إذا ما أنجبوا يتم حرمانهم من تسمية أولادهم بأسماء ساداتهم!.

هذا هو مجرد سرد خاطف لرواية (سيدات القمر) للروائية العمانية جوخة الحارثى مع محاولة للاحتفاظ بهوية الرواية دون حرق تفاصيلها..

إنها رواية تستحق القراءة، وتحية من القلب لجوخة الحارثى التى شاركتها أنا شخصيا فى ندوة ممتعة بمؤتمر الرواية العربية بالقاهرة، قبل فوزها بالجائزة بأيام، فهنيئا لها هذا الفوز المُستحق.