"لا يباع ولا يشترى".. "الفجر" وسط حصاد جني الذرة بالدقهلية في يوم الفلاح (معايشة)

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


تصدح مِئذنة المسجد المجاوِرة لمنزل محمد عطية، بالتواشيح الدينية، إيذانًا بقرب رفع أذان الفجر، يشرع في التأهب لأداة صلاة الفريضة، برفقة مجموعة من جِيرانه الفلاحين، الذين اعتادوا على التجمع بجامع القرية الصغيرة التابعة لإحدى مراكز محافظة الدقهلية، قبل أن يمضوا إلى عملهم بالحقل، قاطعين مسافات طويلة، حتى يصلوا إلى وجهتهم المقصودة مع بُزوغ الشمس، منتظرين المزارعين لحصد محصول الذرة في موسمه السنوي، الذي يتزامن مع الاحتفال بـ"عيد الفلاح" الـ67- وصدر خلاله قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر عام 1952؛ لتحقيق العدالة وإنصاف الفلاحين، وتفعيلاً لمبدأ القضاء على الإقطاع-، إلا أنهم تمَلصوا منهم لليوم الثالث على التوالي "بيجبرونا على تقليل سعر الأردب اللي مش جايب همه"، يقولها صاحب التسعة قرَاريط، وهو يحاول يلهو مع جاره، محاولاً كسر شقاء اليوم بتنظيف عيدان الذرة. 






انهمَّ العرق في جبين صاحب الـ (67 عامًا)، من طيلة الانتظار، ضرَب كفا بكف "وادي الدرة لا بتباع ولا بتشرى"، إضافة إلى ارتفاع سعر "الخفية"- أرض ملك للدولة تؤجر سنويًا- مقابل 350 مترًا من جرف النهر من قبل وزارة الزراعة عليه، ففي البداية كان يسدد (200 جنية)، إلا أن المبلغ وصل إلى (4300 جنيه)، ويجب تسديده وإلا واجهه عقوبات مالية والحجز على الأرض، برغم من تقديم شكوى عدة مرات، لكن لم ينظر لها، لتكون هذه أكثر الأزمات التي تعصف به، يقاطعه صوت هاتف التليفون المحمول "التاجر يعتذر مش جاي اقطع.. عرف يجيب الطن من حد تاني 300 جنية.. واستكتر عليه 350".







لا تقتصر معاناة الرجل الذي غزا الشيب رأسه وتجاعيد الزمن ارتسمت على أنامله على ذلك، بل كانت تزداد الهموم عليه طيلة الأربعة أشهر المنصرمة - فترة الموسم-، لاسيما وأن التسعة قرَاريط الذرة كان يتكلف حوالي 4 آلاف جنيه، ولم يجني ثمار محصوله حتى الآن "مش هطلع بمكسب" من مصدر رزقه الوحيد، وخارت عزيمته ولا يستطع العمل باليومية ومسك الفأس مرة أخرى لإصابته بالانزلاق الغضروفي، ونجليه كلاً منه في عمله وحياتهم الخاصة. 65 فدان في هذا المكان بقرية البجلات بالدقهلية زرعوا ذرة عنوة عن الفلاحين "قرار ولازم نطبقوا.. ونتمنى في عيد الفلاح اليوم أن الضغط يخف علينا.. زمان كنت بزرع شوية ذرة لكن مابزرعش الكمية دي وكنا بنزرع رز ونحاول نطلع قوتنا وقت ولادنا طول السنة.. دلوقتي حتى اتحرمنا نشتري الرز".






اِشتدت أشعة الشمس واقتحمت جفون محمد فتحي، لتوقظه بعدما ظل شاردًا ما يقرب من عشر دقائق، يفكر كيف يفعل في محصول الذرة الذي لم يتمكن من بيعه، واُضطر لتقطيعه وتقشيره وتخزينه حتى ينشف، كي يبعيه بالكيلو في الأسواق، بعدما كلفه الموسم 8 آلاف جنيه "استلفنا من إيد العالم وصرفنا على الأرض ولازم نعمل كده لو سيبنها هيتعملنا قضية تبوير.. كمان مايجلناش عين نسيبها كده الناس هتتريق علينا احنا فلاحين ودي شغلنتنا وعرضنا وسط جيرانا"، يمازحه عطية "نقعد نشويه على البحر"، ليبادله المزاح الرجل الستيني- الذي لديه خمس أبناء-. قَصَّ الأسباب الذي أرقته بداية من ارتفاع أسعار السولار وسعر السماد، حيث لا يسنح لهم شراء الكمية التي يحتاجها الفلاح من وزارة الزراعة، مكملين احتياجتهم من الحوانيت الخارجية، بفارق أعلى 100 جنية لكل "شيكارة"، فالوزارة توفر له (6 أجولة) فقط، ليكون قيمة السماد الذي احتاجها في موسمه الجاري ألفي جنية، بالإضافة لتوفير ما لا يقل عن (300 جنيه) يومية للعمال، يقاطعه جاره الذي وزع محصوله على أبناء قريته "دايما موسم الصيف بيجي علينا بالخسارة".






ابتسم صاحب الـ(65عامًا)، وأومأ بعينه لسنبلُة الذرة، وهو جالسًا بوسط أرضه، وظل شاردًا مرة أخرة لبرهةٍ، انتشله صوت السيد غريب، من دوامات الغضب التي تنتابه بعد رحلة تفكير في كيفية توفير أدوية زوجته مريضة "السرطان"، إذ يتكلف علاجها شهريًا (15 ألف جنيه)، وهتف قائلاً "هتهون يا حاج.. ده عيدنا النهاردة"، قَطب حاجبيه وتنهد بقليل من الراحة، ليستكمل حديثه جاره عن فترة حصاد الذرة، التي تبدأ في شهر مايو وتنتهي بسبتمبر، مواجهًا مشاكل جمة، خاصة مع الري فالدورة تروى في بداية الزرع ثمان أيام متتالية، يعقبها الري أسبوعيًا "طبعا الميه بتجلنا من الترع مياه صرف للزرع"، فضلاً عن قصة التقطيع والتقشير، الذي يتحملها التاجر "ياخد الزرعة كلها في الأرض.. وبعدين يبيعها للمدشة أو يوردوها لمزارع المواشي.. وبيستفادوا أكتر منا"، برغم أنهم يشترون الطن بسعر ضئيل.






ترازحت حالة الرجل الخمسيني، رغم أنه كان يتبادل الأحاديث والمزاح مع جيرانه، وجثَا على أرضه محاولاً إخفاء دموعه التي انهمرت "4 فدادين البيت كله تعب في زرعه وفي الأخر وقت الضم جمعنا الجيران يضموا الأرض علشان ممعيش أدي للمزارع يومية 80 جنية.. واللي يضم كان بياخد حقه من الذرة"، ماسحًا عينيه وهو يتمتم بينه وبين نفسه "مش لو الحكومة اشتريته كان أحسن".






دقائق بسيطة مرت على حالة غريب، حل مكانها الابتسامة بعدما ألقى عليه السلام أحد جيرانه خلال مروره عليه "اتفضل يا طيب"، استقام ليواصل حديثه مع باقي الفلاحين، تسللت أشعة الشمس باستحياء إلى وجهه، يحاول يهرب منها "اللي مر علينا كان الأسوء.. فرج ربنا كبير يا رجالة"، آملاً في زرع أرضه في فصل الشتاء محاصيل أخرى يستفاد منها الفلاح، كما في سابق عهده، متغلبًا على تلك الحالة الذي وصل لها الجميع من حوله.







على بعد أمتار هلك الشاب أحمد عطية، من تنظيف حقله بعدما حصد محصول الذرة والذي باعه والده لأحد أصحاب "المدشات" الشهيرة بالقرية بسعر 250 لطن، محاولاً زرع البطاطس؛ لأن الأرض مؤهلة لإنتاجها "بتكون باردة والبطاطس بتطلع أحسن من الموجودة حاليا في الثلاجات.. ده موسمها بعد كده بتخسر.. وأهو نستغل استعداد الأرض لها"، لاسيما وأن وزارة الزراعة لم تفرض عليهم زرع منتج بعينه في فصل الشتاء، كونها لا تحتاج كميات مياه كبيرة، بعكس الصيف.