بطرس دانيال يكتب: استشر قلبك

مقالات الرأي



نبدأ بالكلمات الرائعة للشاعر والفيلسوف الألمانى جوته: «فى قلب الإنسان ألف باب مغلق، فإذا دخل الحب أحدها فتحها جميعاً»، نستطيع أن نعرف قلب الإنسان من تصرفاته مع الآخرين سواء إذا أظهر ذلك بالحب والحنان والشفقة أو بالبغض والقسوة والعنف، فقلب الإنسان هو سر غامض ويستطيع أن يبدّل الإنسان من حالة لأخرى، فعندما نتقابل مع شخصٍ ما يتصرف بعنفٍ وبدون رحمة، نُطلق عليه إنسان بلا قلب، ولكن إذا وجدنا فرداً يتعامل برقةٍ وحنانٍ وغفران نقول له: «قلبك كبير»، لذلك يحثّنا السيد المسيح له المجد قائلاً: «تعلّموا مني، فإنى وديع ومتواضع القلب». لا تستطيع الكتب قراءة قلب الإنسان ولا تصنيفه، لأنه متدفق ومتغيّر، واشتعال أحاسيسه وانفعالاته ورغباته لا يمكن أن تنحصر فى قالب مكتوب أو مقولة، لأن القلب لديه أفكار لا يمكن أن يستوعبها أو يفهمها العقل، ويعبّر القديس أنطونيوس الكبير عن صراع القلب قائلاً: «الناسك المتعبّد فى الصحراء ينجو من ثلاث تجارب: العينين، واللسان، والأذن، ولكن تظل أمامه معركة واحدة تصارعه ألا وهى معركة القلب»، نحن نعلم بأن أول تجربة للإنسان تأتيه من العينين ورغباتهما ومطامعهما، ثم ثورة الكلام وأخيراً فضولية الاستماع، لكن فى الصحراء نجد الأفق مكشوف، ولا توجد فرصة الحوار، وتنطفئ الأخبار والضوضاء؛ لكن القلب يظل مشغولاً ومرتبكاً بأمورٍ كثيرة، كما لو كان فى وسط المدينة، لأن التخيّلات من الممكن إيقادها وشحنها بآلاف الصور، والرغبات تقتحم النفس، لذلك فالمعركة الكبيرة هى صراع مع القلب، فيجب عليه الاستعداد الدائم فى كل مكانٍ وزمان، سواء فى المدينة أو فى الصحراء. دعونا نتأمل هذه النصيحة: «جاهد فى أن تُصبح حارساً لقلبك، حتى لا تسمح لأى فكرة تقتحمه إلا بعد أن تسألها»، مَن ينكر بأن الأفكار تهب علينا كعواصف من الرياح، ونستطيع أن نشبههم بالزوار غير المتوقعين وهم قادرون على قلب نظام عقولنا وقلوبنا، وكما يقول المَثَل اللاتينى: «التفكير الحر هو شيء رائع، ولكن التفكير بالطريقة الصحيحة أكثر روعة»، لذلك لابد من وجود حارس أو رقيب على القلب ليصطفى الأفكار الحسنة عن تلك الرديئة، فالقلب هو نبع الحنان والدفء والحُب، كل شخصٍ منّا يحتاج لهذا حتى يستطيع أن يتألق فى حياته وعمله ويُعطى أكثر ويُنتج أفضل، فالحنان هو لغة القلب التى يفهمها جميع البشر ويحتاجون إليها، لأن النفس البشرية مخلوقة بدافع حُب الله لها، ولكى تُحب وتكون محبوبة، وما أجمل هذه المناجاة للكاتب الفرنسى Léonce de Grandmaison: «يارب، امنحنى قلب طفل نقى وصافى كمياه النبع، أعطنى قلباً بسيطاً لا ينغلق على أحزانه الشخصية، قلباً شهماً فى التضحية بذاته، يفهم الآخرين بسهولة، قلباً أميناً وسخياً لا ينسى أى خير قُدّم له ولا يحتفظ بضغينة لأى شخص صنع معه شراً، امنحنى قلباً عذباً ومتواضعاً، يُحب دون أن ينتظر محبة الآخرين، وسعيداً بأن يذوب فى قلوبٍ أخرى». هذه الصلاة تُعبّر عن ضمير نقى وصافٍ، لأنه ليس المقصود بالقلب هو الأحاسيس العادية والمشاعر الغامضة، لأن قلب الطفل يظل مفتوحاً لله والآخرين، كما نتعلّم من قلب الأم ، القلب الطيب، فلم يجد الله وسيلة أفضل من الأم يعبّر بها عن حنانه ورحمته وحُبّه لخلائقه، يستطيع كل شخص منّا أن يجد الحنان فى قلبه، وعليه إذاً أن يمنحه للآخرين حتى يساعدهم على تأدية رسالتهم فى الحياة، كل واحدٍ منّا مسئول عن الدفء الذى يوفّره للآخر، بدلاً من أن يتركه ينغلق على ذاته بسبب ما يلقاه من برودةٍ وجفاءٍ وسوء معاملة، مما يجعله يفكّر فى عمل الشر. أما نحن فى الحقيقة لا ينقصنا مكان فى المنزل، ولكن قلوبنا منغلقة، لأن دنيا الله واسعة وشاسعة، لكن ينقصها أن نفتح قلوبنا لاستقبال الآخرين، ولا نتركها منغلقة على المادة والمال والأنانية، نحن نعيش فى عالم ملىء بما يحزننا كل يوم ويطاردنا، ولن نجد عزاءً أو سلاماً إلا فى شيئين: فى حجرة قلبنا حيث يوجد الله، وفى أعمال الخير، حيث نجد هناك الله أيضاً، إذاً لا نتعب أنفسنا فى البحث عن الله فى السماوات البعيدة، لأنه يحب السُكْنى فى مكانين: قلب الإنسان أى الضمير الذى يحرّك كل شخص منّا وفيه يتحدث الله مع الشخص سراً، والمكان الآخر هو الأشخاص الذين نصنع معهم الخير، وكما نقرأ فى القول المأثور: «مْن أراد أن يكون قلب الله مفتوحاً أمامه، لا يغلق قلبه لمن يتوسل إليه». إذا تأملنا فيما تفعله الأم تجاه أبنائها وزوجها، نجزم بأن هذه التصرفات نابعة من القلب قبل العقل، لأنها تقوم بأشياء وتضحيات لا يصدّقها العقل ولا يتخيلها، وكما يقول الفيلسوف الفرنسى باسكال فى هذا الصدد: «القلب يمتلك أفكاره، والتى لا يدركها العقل»، لذلك يجب على الإنسان أن يفتح أمامه طريقاً آخر مختلفاً عن العقل المبنى على التفكير المنطقي، وليس المقصود بهذا عدم التفكير ولكن السعى وراء طريق الحُب الذى يذهب أبعد من العقل، وكما تقول الكاتبة الفرنسية George Sand : «العقل يبحث، ولكن القلب يجد»، وهذا لا يعنى أن ننكر بأن القلب يُصاب أحياناً بالأوهام والخيالات كما يحدث مع العقل ذاته، لأن الإنسان هو خليقة محدودة تتعرض لهذه الصراعات اليومية، وعندما سألوا أحد الحكماء: «ما الفرق بين القلب والعقل؟» أجابهم: «العقل ينصح بالأنفع، بينما القلب ينصح بالأنبل».