منال لاشين تكتب: أردوغان دفع ثمن إسطنبول غاليا

مقالات الرأي



كنت شاهدة على لحظة صعوده

أوغلو أطاح بأردوغان بعد أن فقد الشعب التركى العيش والحرية

اليوم يأتى شاب جديد يخلع عن أهم مدينة تركية شبح الخلافة والنقاب

أعلن دعمه للدعارة ونسائها المحترمات

أصر على تنظيف الحمامات

غياب حركة "كولن" وعقله أدى إلى خسارة السلطان معقله التاريخى


للسفر سبع فوائد وللرحلات مفاجآتها وطعمها الخاص جدا، ولكن اعتقد أن رحلتى إلى إسطنبول حملت أكبر فائدة أو ربما جائزة صحفية لى حين كنت أعد حقائب سفرى لإسطنبول لحضور مؤتمر برلمانى دولى أوصانى الأصدقاء بملابس شتوية ثقيلة.. بالطو وجاكت وبوت لحماية الأرجل من البرد..وشمسية لمواجهة احتمالات الأمطار.

نصحنى الأصدقاء من محبى التاريخ أن أتفقد آثار مصر والإسلام فى المدينة التاريخية التى تحمل بين طياتها وشوارعنا أكثر من خمسة قرون من التاريخ. فهناك القصر الذى نفى فيه الخديو إسماعيل وهو واحد من أفضل حكام مصر من وجهة نظرى.

وهناك آثار الرسول صلى الله عليه وسلم محفوظة فى المتحف الكبير. وبقايا العهد أو بالأحرى العز العثمانى. من مجوهرات وأثاث وحتى الملابس الداخلية لسلاطين الدولة العثمانية المنهارة.

بالطبع يجب أن أزور رمز التسامح الدينى.. متحف آيا صوفيا. فنصفه جامع والنصف الآخر كنسية. وآيا صوفيا كان فى الأصل كنيسة، ثم جعله العثمانيون جامعًا..وقرر أتاتورك العلمانى أن يترك الجزء المسيحى يجاور الجزء المسلم فى رسالة تبدو الآن صعبة القبول أو حتى الفهم. وهناك بالطبع الجامع الأزرق أو جامع السلطان محمد بعمارته الرائعة.

الحالمون والرومانسيون من أصدقائى شددوا على رؤية إشراق الشمس ووداعها فوق بحر البوسفور، وجسره الذى يربط بين قارتين آسيا وأوروبا.

ولكن أفضل نصيحة جاءتنى من رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب آنذاك الدكتور محمد عبداللاه. فقد نصحنى أن اقرأ عن الشأن السياسى التركى لأن موعد زيارتنا إلى إسطنبول يصادف انتخابات البلدية (المحليات) وشرح لى أن لهذه الانتخابات أهميتها الخاصة جدا.

1

سر إسطنبول

كانت الانتخابات بين حزب ذى خلفية إسلامية أو بالأحرى يتهرب من خلفيته الإسلامية بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا بحل الحزب الإسلامى فى تركيا العلمانية حتى ذلك الوقت. فقام الإسلاميون بتأسيس حزب جديد. من بين قيادات أو بالأحرى نجوم هذا الحزب كان رجب طيب أردوغان. وهو المرشح فى انتخابات البلدية بإسطنبول. وقد انتهت هذه الانتخابات بفوز أردوغان الذى بدأ رحلة صعوده السياسى من إسطنبول وقال فيها مقولته الشهيرة (من يكسب إسطنبول ويحكمها يحكم تركيا). ولاشك أن أردوغان يتعذب الآن بهذه المقولة بعد خسارة حزبه الانتخابات فى إسطنبول. ولكن بصرف النظر عن عذابه. فالمقولة التى أطلقها عشية انتصاره صحيحة 100%.

بالنسبة لعدد السكان فإسطنبول هى الأكبر عددا ويمثل عدد سكانها نحو 19% من سكان تركيا. وتليها العاصمة أنقرة بنحو 7% من السكان. فبذلك فإسطنبول كتلة انتخابية يحسب لها أى سياسى ألف حساب. وانتخابات البلدية تحدد بنسبة كبيرة وتكاد تكون متطابقة الناجحون فى انتخابات البرلمان ثم الرئاسة.

من ناحية أخرى فإن إسطنبول وليس العاصمة أنقرة هى المؤشر الحقيقى على نمو أو متانة وحال الاقتصاد التركى. فهى المدينة السياحية الأولى فى تركيا ويمكن للسائح أن يزور أكثر من مدينة بجوار زيارته الأصلية لإسطنبول وليس العكس. ولذلك ازدهار الاقتصاد القائم على السياحة فى إسطنبول يعكس إيجابيا على اقتصاديات مدن أخرى، فضلا عن أثره على الاقتصاد الكلى للدولة.

ثمة سبب آخر يغلف انتخابات إسطنبول بخصوصية. وهى التاريخ الذى يسكن تحت جلد المدينة. أنها عاصمة الدولة الإسلامية.. دولة الخلافة حين كانت تركيا تحكم العالم العربى بعباءة الخليفة. هذه الخصوصية تجعل البعض يحن لزمن الخلافة سواء من الجانب الدينى أو السياسى.

ولذلك كانت معركة أردوغان الأولى فى انتخابات بلدية إسطنبول معركة حياة أو موت. وعلى الرغم من أن أردوغان كان فى مهمة صعبة، إلا أن حزبه كان يعانى من انقسامات داخلية سرية، وسرعان ما ظهرت على السطح.. وكادت أن تطيح بأردوغان وحلمه. وقد ساعدنى القدر أن أشهد هذه الخلافات على الطبيعة..وأرصد تفاصيل أخطر معركة فى تاريخ تركيا من الشوارع والزوايا بإسطنبول.

بدأت المعركة تتضح أمام عينى عندما قام أردوغان شخصيا بإصدار بيان انتخابى مفاجئ. بل إنه كان صادما لمواطنة مسلمة بريئة. قال المرشح أردوغان فى البيان إنه يدعم الأنشطة الاقتصادية لإسطنبول ومن بين نشاط الدعارة المرخصة قانونا فى المدينة، مؤكدًا احترامه للعاملات المحترمات، ولا يفكر على الإطلاق فى إغلاقها أو المساس بها وبالعاملين بالمهنة التى تدر أرباحا خيالية على المدينة وتساهم فى إنعاش السياحة. كما اعتذر أردوغان صراحة عن بيان آخر صادر عن حزبه، ولكن المرشح أردوغان أكد أن البيان منسوب للحزب. وأنه يدعم الحريات الشخصية.

وبعد صدمتى فى المرشح الإسلامى بدأت أبحث عن بداية القصة. فعرفت من بعض مصادر المعارضة لأردوغان داخل حزبه حقيقة الخلاف. فقد تحالف أردوغان وبعض قيادات الحزب مع (فتح الله كولن) وهو تركى إسلامى علمانى له جمعية إصلاحية كانت منتشرة فى إسطنبول وغيرها من المدن التركية. وكان رأى كولن أن الصبغة الإسلامية الدينية ستعرقل وصول الإسلاميين للحكم. وأن استبدال ديكتاتورية الزعيم العلمانى التاريخى أتاتورك بديكتاتورية إسلامية خطأ لم ولن تتحمله تركيا داخليا أو خارجيا خاصة أوروبا. ولابد من تبنى الحزب آليات ديمقراطية ليبرالية لتدخل ضمن الاتحاد الأوروبى. وقد اقتنع أردوغان وبعض القيادات بهذا الرأى، بينما رفضه جانب من الحزب الإسلامى.وكان الرافضون يرون أن التخلى عن القيم الإسلامية يصيب الحزب بازدواجية ويفقد الثقة الناخبون على المدى المتوسط والبعيد. وقد شاهدت مظاهرات أهل الهوى والعاملين والعاملات بالدعارة على أثر بيان المعارضة فى حزب أردوغان. وكانت مظاهرة حاشدة ومثيرة جدا بالنسبة لى. خاصة عندما عرفت أن بعض العاملات فى الدعارة حصلن على شهادات جامعية ويكملن التعليم للحصول على الدكتوراة والماجستير. ولكن الحلم المشترك بينهن هو ادخار مال يكفى للهجرة إلى أوروبا. أما الوهم فهو الحصول على زوج أجنبى ثرى ممن يترددون على شارع المتعة. وللشارع قوة وصلات اقتصادية بمعظم الأنشطة والتجار فى المدينة التاريخية، ولذلك أصيب أردوغان بالفزع عندما انطلقت مظاهرات العاهرات ضده وضد حزبه.

2

زعيم الحمائم

فى ذلك الوقت وحتى يكسب أردوغان إسطنبول لم يكتف بالاعتذار لكل العاملين فى مهنة الدعارة. بل راح يؤكد فى مؤتمراته وحواراته التى تابعتها عن قرب ممزوج بالصدمة والدهشة. فقد راح أردوغان يؤكد احترامه للحرية الشخصية بالتفاصيل الدقيقة. مثل حرية القبلات والأحضان فى الشوارع.. وحرية الملابس العارية والضيقة.. وشرب الخمور فى الشوارع.. وقد كانت إجابات أردوغان كلها بنعم للحرية الشخصية. فى ذلك الوقت كان أردوغان يمثل فريق (حمائم الحزب الإسلامى) بينما كان فريق الصقور يرى ما يحدث نفاقًا واستخفافًا للفكرة الإسلامية. وقد بلغ الهوس بأردوغان للانضمام للاتحاد الأوروبى أن وقع على وثيقة تضمن حقوق المثليين فى تركيا والموافقة على نقابة رسمية للعاملين والعاملات فى مجال الدعارة.

وعندما فاز بمنصب عمدة إسطنبول أصدر قرارًا يلزم كل الفنادق الصغيرة باستخدام آلات بخارية فى الحمامات حتى يمكن للسائح الأوروبى الاستغناء عن استخدام المناشف (الفوط) وذلك وسط حمى الخوف من انتقال الإيدز عبر استخدام الأدوات الشخصية لمريض الإيدز.

ولكن أردوغان انتقل من فريق الحمائم إلى فريق الصقور. وساعدت ثورات الربيع العربى ومحاولات الإخوان سرقة الثورات العربية على تضخم أحلام أردوغان كخليفة للمسلمين والدول العربية. ولكى يتحقق هذا الحلم أو الوهم ارتدى أردوغان عباءة التطرف الدينى.. بدأ بقوانين تقيد الحريات الشخصية..واصطدم بأمريكا ورفض ثورة يونيو فى مصر. وأصبح أصدقاء الأمس لأردوغان فى موقف المعارضة.. الرئيس السابق عبدالله جول ووزير الخارجية العتيد السابق أوغلو يرون أن أردوغان صار متشددا، ويجب أن يتصالح مع النظام المصرى، ويقلل حدة مشاكله مع أمريكا. ويوقف نزيف السجن والاعتقالات والفصل فى البلاد حتى لا يخسر الحزب..الآن وبعد خسارة إسطنبول جوهرة التاج التركى، صار أردوغان فى موقف ضعيف أمام المعارضة داخل الحزب فضلا عن انتعاش المعارضة الخارجية المتمثلة فى حزب الشعب الجمهورى وأحزاب المعارضة الأخرى. أستطيع الآن بعد كل هذه السنوات أن أتذكر بوضح الدور التمثيلى الذى أجاده أردوغان للفوز بإسطنبول والثمن الذى دفعه، وأقارن صورته الزاهية خلال أول خطوة فى رحلة صعوده السياسى بصورة المنكسر الحزين الذى تناقلتها الآن وكالات الأنباء العالمية.

3

رحلة إمام

لاشك أن نتائج الانتخابات التاريخية تحتاج إلى تحليل سواء على مستوى الأرقام أو الأشخاص أو الأحزاب. العمدة الجديد إمام أوغلو من أسرة محافظة ودرس طوال عمرة فى إسطنبول بمدارسها وجامعاتها. كان شابًا عاديًا يهتم بالرياضة، ولكن فى الجامعة أصبح متحررا واقترب من حزب الشعب الجمهورى حتى انضم إليه. وبدأ أوغلو رحلته السياسية من بلدة صغيرة تتبع إسطنبول واستطاع أن يحقق بها نتائج جيدة. ولكن الأداء الجيد لم يحمل أوغلو لطريق الانتصار، على العكس فشل أردوغان وسياساته وجنون العظمة الذى أصابه ساعد المعارضة لهذا النصر الحاسم. فقد تمت إعادة الانتخابات بناءعلى طلب حزب أردوغان. وفى المرة الثانية والحاسمة حصل أوغلو مرشح المعارضة على نحو 550 ألف صوت إضافى عن الأصوات التى حصدها فى المرة الأولى. وزادت نسبة أصواته بنحو 3،5%.

من ناحية أخرى فإن حزب أردوغان ورجاله ضخوا استثمارات كثيرة فى إسطنبول وأصحبت المدينة مركزًا ماليًا لهم، ولاشك أن وجود عمدة معارض يمثل ضربة مالية واقتصادية للحزب وأردوغان الذى تدخل كثيرا لمصلحة بنوك واستثمارات مؤيديه ورجاله.

وكل هذه المؤشرات تزيد من حزن وارتباك وهزيمة أردوغان وحزبه.

نحن أمام بداية النهاية لأوهام سلطان المسلمين أردوغان. بداية النهاية كتبها المعارض أوغلو فى نفس المدينة التى شهدت بداية صعود أردوغان.

لم يفهم أردوغان أنه خسر معركتى العيش والحرية، ولا يوجد حاكم يستطيع الاستمرار بدونهما.