عادل حمودة يكتب: حرب طاقية الإخفاء بين كوريا الشمالية و"سوني"

مقالات الرأي



سونى أنتجت فيلما سياسيا كوميديا يسخر من "كيم جونج أون" بـ 44 مليون دولار

تعرضت الشركة لعمليات قرصنة إلكترونية وكشف رواتب 47 ألف موظف وعامل

تمت سرقة بيانات 25 مليونًا من مشاهدى "سوني" بما فيها بطاقات الائتمان

الحرب الإلكترونية لـ "كوريا الشمالية" تسببت فى خسائر 5 مليارات دولار لـ "سوني"


لم تستجب شركة سونى بيكتشر إنترتيمنت إلى تهديدات رئيس كوريا الشمالية كيم جونج أون وعرضت فيلم إنترفيو أو المقابلة الذى يسخر منه وينال من أسلوبه فى حكم بلاده.

الشركة متخصصة فى الإنتاج السينمائى والتليفزيونى وتمتلكها الشركة اليابانية الأم سونى كابوشيكى كايشا للصناعات الإلكترونية.

الفيلم سياسى كوميدى كتبه وأخرجه إيفان جولدبرج وسيث روجان ويتخيل إعجاب الزعيم الكورى بمقدم برنامج تليفزيونى أمريكى هو ديف سكاريلارك إلى حد الهوس ويقبل إجراء مقابلة معه فى عاصمة بلاده بيونج يانج رغم العداء الشديد بينها وبين واشنطن.

تستغل وكالة المخابرات الأمريكية الزيارة وتضع خطة لاغتيال كيم أون ينفذها ديف وصديقه منتج البرنامج أرون رابوبورت.

أمام الكاميرات بدت الحياة فى كوريا الشمالية أكثر روعة من الجنة.. سلع تفيض عن حاجة الشعب.. ميديا تنتقد الحكم بشدة.. أطفال أصحاء يلعبون فى حدائق مغردة بطيور ملونة.. وشباب وفتيات يتبادلون القبلات فى رحاب الجامعات بحرية.. ولكن.. سرعان ما يكتشف ديف وأرون أن ذلك كله خدعة تليفزيونية دبرها كيم ليقنعهما بديمقراطية ورفاهية بلاده.

أما الحقيقة فإن البلاد تحت سطوة نظام ديكتاتورى صارم يحرم أن يطلق على أحد أفراد الشعب اسما من أسماء العائلة الحاكمة المقدسة ويمنع الناس من إعطاء ظهورهم لتماثيل أفرادها ويعتقل كل من يعترض ولو على شىء فى أحلامه.

بل أكثر من ذلك يبدأ التقويم هناك بيوم ميلاد الجد المؤسس كيم إيل سونج وليس بيوم ميلاد السيد المسيح ومن ثم يعيش الشعب فى عام 107 وليس فى عام 2019 وتنفذ عقوبة الإعدام علانية ولو ارتكب شخص جريمة ما يعاقب بالسجن هو وثلاثة أجيال من أسرته ولا يسمح للمرأة بقيادة الدراجة وعليها الالتزام بقصات شعر وافقت عليها قيادة البلاد ويتكرر الشىء ذاته مع الرجال.

ولو شب حريق فى بيت فإن أول ما يجب إنقاذه صورة الزعيم وإبعادها خارج النيران ويقتل رميا بالرصاص من يستمع إلى إذاعة أجنبية وتتحكم السلطات فى قنوات التليفزيون الثلاث تحكما مركزيا.

وبرغم المجاعات وأمراض نقص التغذية فإن الدولة تنفق أكثر من ثلث ميزانيتها على الدفاع وتوصلت إلى إنتاج أسلحة الدمار الشامل (القنابل النووية والجرثومية والصواريخ البالستية) وهو ما جعل الولايات المتحدة تكف عن وصفها بالشر ويقبل كيم أون أن يجلس مع دونالد ترامب.

تكلف الفيلم 44 مليون دولار.. وما أن تقرر عرضه فى أكتوبر 2014 حتى هددت حكومة كوريا الشمالية باتخاذ إجراءات عديمة الرحمة ضد الولايات المتحدة إذا ما عرض الفيلم.

لم تخف شركة سونى للسينما من التهديد واعتبرت الحكومة الأمريكية ما وصف بإجراءات عديمة الرحمة مجرد ثرثرة فارغة ستنتهى مثل فقاعات الهواء.

ولكن بعد 45 يوما فقط من عرض الفيلم وبالتحديد فى نهاية نوفمبر 2014 تعرضت استديوهات الشركة إلى عملية قرصنة إلكترونية دمرت أجهزة الكمبيوتر التى تخزن أرشيف الأفلام الجاهزة وتتحكم فى تصوير ومونتاج الأفلام الجديدة ومؤثراتها الصوتية وخدعها السينمائية وميزانياتها وحساباتها المالية وهياكلها الإدارية.

وبالأرقام كشفت مرتبات العاملين فى الشركة (47 ألف موظف وعامل) وأرسلت إلى صحافة الفضائح وسرقت بيانات 25 مليونًا من مشاهدى أفلام الشركة بما فيها 12 ألف بطاقة ائتمان.

بل أكثر من ذلك تأثرت الكمبيوترات الشخصية المحمولة التى تنتجها الشركة الأم ويستخدمها ملايين من البشر فى أربعة أنحاء العالم وكنت واحدا منهم.

ولم تمر سوى فترة قصيرة حتى قررت سونى أنها ستنسحب من سوق الهواتف الذكية بعد أن أعلنت توقفها عن إنتاج الأفلام لبعض الوقت وفى ساعات قليلة خسرت الشركة ما يقترب من خمسة مليارات دولار.

وما إن أكدت المباحث الفيدرالية أن كوريا الشمالية وراء الهجوم الإلكترونى الذى تعرضت إليه سونى حتى أعلن الرئيس الأمريكى وقتها باراك أوباما أن بلاده سترد على ذلك الهجوم وتعهد بعدم ترك فرصة لحاكم ديكتاتور أن يفرض رقابة على الولايات المتحدة ولكنه لم ينفذ تهديده.

ما حدث بالضبط أن مجموعة تحمل اسم جارديانز أوف بيس أو حراس السلام نجحت فى التسلل إلى شبكة الإنترنت واخترقت الكمبيوترات المحصنة للشركة وعبثت بها ودمرت ما فيها وسرقت معلومات حساسة عن حساباتها البنكية وأسرار أصحابها.

وسارعت دور السينما واحدة وراء الأخرى بسحب الفيلم من العرض وتراجعت غالبية الفضائيات عن تقديمه على قنواتها.

يعرف ما حدث بالحرب السيبرانية وهى آخر موديل من الحروب الحديثة يمكن أن تدمر حياتك دون أن تعرف من شنها عليك وحتى تعانى منها فإنك لن تصدق فى وجودها.

إنها حرب لا تطلق فيها دانات المدافع ولا تزأر فى سمائها الطائرات ولا تسمع فيها أصوات الرصاص والعدو فيها خفى وصامت ولكنها كفيلة بتدمير حياة ملايين من البشر وتشريدهم وتجويعهم وإفلاسهم فى دقائق معدودة.

لقد أوصلنا العلم إلى الكمبيوتر أو الحاسوب وهو آلة إلكترونية لها قابلية استقبال المعلومات وتخزينها وتشغيلها ببرمجيات خاصة لتقوم ببلايين العمليات الحسابية والمنطقية فى ثوان قليلة.

بدأ الكمبيوتر بحجم ضخم يحتاج إلى حجرة كبيرة لتسعه مستهلكا طاقة هائلة وعمالة نادرة ولكن مع مرور السنين أصبح فى حقيبة كل منا كمبيوتر محمول يسهل استخدامه ويعمل بطاقة بسيطة ويسع مئات الكيلومترات من الكتب والفيديوهات والتسجيلات والمستندات ويأخذنا إلى عالم رحب من المعرفة عبر شبكات الإنترنت.

بل أكثر من ذلك اندمج الكمبيوتر الشخصى فى التليفون المحمول وأصبحا معا أداة فى حجم كف اليد تدير بها حساباتك البنكية وتراقب الكاميرات فى بيتك ومكتبك وتحتفظ بصورك وأسرارك الشخصية وتستقبل رسائلك وتبعث بالردود عليها وتبعث بجانب سرعة الاتصال بمن تشاء مهما كان مكانه على خريطة الدنيا التى توصف الآن بأنها أصبحت قرية صغيرة.

وعلى مستوى الدول الأكثر تقدما فى استخدام التكنولوجيا تدير الحاسبات الإلكترونية العملاقة كل مؤسساتها السيادية والخدمية.

إن مجموعة المخابرات فى الولايات المتحدة تمتلك كمبيوترات عملاقة تقدر على تسجيل كل مكالمات التليفونات المحمولة فى العالم كله ويمكنها استعادة من تشاء منها كما فعلت بمكالمات أسامة بن لادن فى الوقت الذى تشاء.

وتدير الحكومة الإلكترونية الأكثر تطورا فى سنغافورة شبكات المياه والكهرباء والتليفونات والمستشفيات والمدارس والبنوك وحركة الموانئ والمطارات.

وتتحكم فى المحطات النووية اليابانية شبكة من الكمبيوترات لا يزيد حجمها عن حجم الطاولة الصغيرة الموضوعة عليها.

وتتصل مطارات العالم بشبكة عليها قوائم المطلوبين أمنيا وتظهر صورة الواحد منهم فور تقديم جواز سفره إلى الضابط المختص فى المطار الذى يهبط إليه.

وهكذا سيطر الكمبيوتر على كافة نواحى الحياة فى غالبية دول العالم وبفضل الإنترنت أمكن التواصل الإلكترونى عبر الفضاء بين البشر ولكن فى الوقت نفسه فتح ذلك التواصل الطريق على جانبيه للقرصنة الإلكترونية (الهاكرز) مما هدد الحضارة الحديثة بكل ما فيها من رفاهية.

إن ما حدث مع شركة سونى يمكن أن يحدث مع بنك الاحتياط الفيدرالى (الأمريكى) فلا نجد أرصدته من الذهب والدولار وتنهار العملة القوية التى تقيم اقتصاديات العالم وتتحكم فيها.

ويمكن أن يحدث ذلك الاختراق مع البيت الأبيض لتختفى الوثائق السرية المخزنة على حواسبه القوية فى أكبر فضيحة سياسية من نوعها.

ويمكن أن يحدث الأمر ذاته مع الحكومات المختلفة فتفقد التحكم فى مرافق الخدمات فلا تعمل محطات الكهرباء وتتوقف محطات المياه عن الضخ وتشل شبكات تقوية التليفونات وتنهب البنوك ويتوقف إرسال الفضائيات وتغلق الجامعات وتعم الفوضى.

فى كتابه المنطقة المعتمة يلخص فورد كابلان يزيد من حجم كارثة الحرب السيبرانية مضيفا: إنها قد تتسبب فى إطلاق الصواريخ على غير أهدافها وتسقط الطائرات الحربية فوق المدن السكانية عن بعد وربما تسببت فى حوادث تصادم جماعية هائلة بفرض الخلل على الإشارات الضوئية التى تتبعها السيارات.

الحرب السيبرانية حرب فى نعومة الحرير يستطيع فيها قراصنة الكمبيوتر من خلف الشاشات القيام بكل هذا التخريب بضربات خفيفة من أصابع اليد على لوحة مفاتيح الجهاز دون حاجة إلى قنبلة نووية أو صواريخ بالسيئة عابرة للقارات.

يهاجم الهاكرز الملفات والمواقع التى تخص الآخرين سواء أكانوا دولا أو جيوشا أو بنوكا أو شركات أو منشآت مدنية فيحصلون على معلوماتها أو يضللونها أو يعطلون أجهزة الحاسوب فيها.

فى عام 1960 بدأ مانفريد كلاينس وناثان كلاين استخدام الكلمة فى مقال نشراه معا وقصدا بها مزجًا بين الإنسان والإلكترون.

وكلما تقدمت الدول فى استخدام الحاسبات شعرت بأخطار هذه الحرب أكثر من غيرها والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة وحدها تعرضت إلى أكثر من 120 ألف اختراق فى عام 2018 وفى كثير من الأحيان لم تستطع التوصل إلى المهاجمين ومن اكتشف منهم احتاج شهورا للتوصل إليه أو وضعوا أيديهم عليه بالصدفة.

إن ما صوره الخيال فى السينما قد أصبح واقعا مؤلما.

فى 4 يونيو 1983 كان الرئيس الأمريكى رونالد ريجان (الممثل القادم من هوليوود) يشاهد فيلم ألعاب الحرب الذى يروى قصة شاب مراهق ينجح فى اختراق الكمبيوتر الرئيسى للبنتاجون ويكشف ما فيه من أسرار عسكرية والأخطر أنه كان قادرا على تفجير الرؤوس النووية وإشعال حرب عالمية ثالثة.

يومها سأل ريجان جون فيسى (أكثر الجنرالات خبرة) عن إمكانية حدوث ذلك فى الواقع فأجابه بعد أسبوعين قائلا: المسألة أسوأ كثيرا مما نظن.

بعد خمسة شهور (بالتحديد فى 17 سبتمبر) صدر التوجيه الرئاسى (145 إن أس دى دى) الذى بمقتضاه تكونت هيئة خاصة للأمن السيبرانى التى كانت نواة للقيادة السيبرانية المتخصصة التى استحدثها وزير الدفاع روبرت جيتس فى عهد الرئيس بيل كلينتون وتصل ميزانيتها اليوم إلى 7 مليارات دولار ويعمل فيها 14 ألف فرد.

وخرج من بين أولئك الخبراء مجموعة أكثر تميزا أطلق عليها الفريق الأحمر مهمتها الكشف عن الثغرات فى شبكات المعلومات العسكرية والمدنية ومنها ضعف الكود السرى للدخول (باس وورد) مما أتاح تعرض 12 قاعدة عسكرية أمريكية لهجومين كبيرين نفذهما صبيان فى عمر السادسة عشرة من سان فرانسيسكو تنافسا على من يكون الأسرع فى اختراق شبكات البنتاجون وأطلقا عليه اسم الشروق الشمسى.

وجربت المخابرات الروسية قدرتها على هذه الحرب باختراق 12 جامعة أمريكية وتنقلوا بين حواسبها ثلاثة شهور قبل اكتشافها وسحبوا ما يزيد على 3 ملايين وثيقة وبحث ورسالة علمية وعرفت تلك العملية باسم متاهة ضوء القمر.

ولا ننسى أنه فى الانتخابات الرئاسية التى جرت عام 2016 اخترقت المخابرات الروسية الكمبيوتر الشخصى للمرشحة هيلارى كلينتون واستولت على بريدها الإلكترونى ونشرته دعما لمنافسها دونالد ترامب.

كان ذلك الحادث دليلاً على فشل جهود أوباما لتحسين الأمن السيبرانى لحماية الدوائر الحكومية فلا يزال الهاكرز قادرين على فك الشفرات وتحطيم السرية رغم التحصينات المتكررة والمتغيرة.

على أن ذلك النوع من الحرب منح الدول الضعيفة فرصة للانتقام من الدول القوية فيكفى هكرز واحد ليهز ثقة الكبار فى أنفسهم ومراجعة سياساتهم العدوانية وكسر شوكتهم.

إن لكل مأساة جانبا طيبا بشرط أن يجنبنا جوانبها السيئة.