أحمد عبدالوهاب يكتب: العيد وبيت عمتي

مقالات الرأي

أحمد عبدالوهاب
أحمد عبدالوهاب


لا يزال ذلك اليوم عالقًا ببالي، بل قل ساكنًا بقلبي وخيالي- كما لو كان بالأمس القريب-. كنا نتسابق أنا وإخوتي إثر وصولنا للقرية بعد سفر شاق وطويل، أينا يصل لبيت العمة أولًا؟ بينما كانت تطالعنا هي من شرفة البيت والتي كانت مصممة بشكل عجيب كما لو كانت جسرًا أو كوبري يُرى منه البحر المواجه لبيت عمتي أو كما كنا نسميه "بحر عمتي". 

وعلى الرغم من كوننا صغارًا إلا أننا كنا نحاول بكل فرحة ودافعية مساعدة أخي الأكبر في حمل حقائبنا، التي كان لكعك العيد النصيب الأكبر منها، والذي سهرت والدتي- جزاها الله الجنة- مع جيرانها في إعداده من أجل توزيعه على المقابر عند زيارة أبي-رحمه الله- صدقة على روحه أول أيام العيد، وكلما اقتربنا من البيت علت الصيحات تنادي العمة التي باغتتها الأيام والليالي كالحات بموت زوجها وأخيها تباعًا.

وبرغم قوة شخصيتها إلا أنها كانت ترى في أبناء أخيها وأحفادها سندها في الحياة. لا أزال أسمع صوتها يتردد على سمعي وهي تقول: "أولاد الغالي" بينما تتلقفنا بذراعيها محتضنة إيانا. كنت أرى في عينيها فرحة وحزن لم أستطع وقتها فهمه؛ إنه رؤية الأخ في صورة أبنائه وهم يكبرون ولو قليلًا، فقد شاء الله أن يُتوفى أخوها بينما كان أصغر أولاده لم يناهز الثانية من عمره. كانت تحبنا جميعًا غير أن حبها لأخي الأكبر والأصغر كان واضحًا، فأخي الأكبر ترى فيه شابًا يكبر فتفرح، بينما تشاهد الصغير فتحدث نفسها متى سيكبر؟

وبرغم أن لأبي بيتًا كبيرًا في القرية، بناه قبل وفاته مباشرة، إلا أن ذكريات العيد والقرية مرتبطة أكثر ببيت عمتي وقت الطفولة وببيت جدي لأمي-رحمه الله- بعد أن كبرنا. ولأن ذكرياتنا مع جدي لأمي ليست بالقليلة أيضًا، فلن يتسع لها المجال في هذا المقال، وسأفرد لها مقالًا خاصًا يليق بما قدم الرجل الصالح-عليه من الله سحائب الرحمة.

أعود لبيت عمتي والذي كان مكونًا من طابقين، أولهما فيه غرفة للخبيز، وهي غرفة كبيرة، ربما تصلح لزواج شابين في مقتبل حياتهما. وغرفتين أخريين يواجهان بعضهما البعض وبوابة كبيرة جدًا ربما كانت تصلح بابًا لحصنٍ. لكن هكذا كانت البيوت قديما في القرية، ربما بناها أصحابها بطراز فني دون أن يدروا. وفي منتصف الباب تجد سُقّاطًا(قفلاً) كبيرًا من الحديد، أشبه ما يكون بالسيف في شكله وموصولًا بحبل متين يمتد الى أعلى عبر فتحة في السقف تصل للطابق الثاني، لفتح الباب منه دون الحاجة للنزول إلى الطابق الأول. 

وفي خارج البيت كانت هناك غرفة خاصة مرفقة للحمار، ربما نال الحمار حظه من السكنى في القرية- وقت أن كانت القرية قرية- بأكثر مما يناله شباب بعض هذه الأيام. وأمام هذه الغرفة كان هناك "طرمبة مياه" حمراء. وهي لمن لا يعرفها من شباب اليوم "آله" لسحب المياه من باطن الأرض بشكل يدوي.

أما الطابق الثاني فتشعر من تصميمه وكأنك في شارع خاص، يبدأ بغرفة على اليمين من نهاية السلم للخزين، ثم صالة مستطيلة على يسار السلم بها غرفتان كبريان تقابلان بعضهما البعض. ثم بمواجهة السلم كانت هناك غرفة المعيشة، أو قل غرفة الطفولة، عشنا فيها ذكريات طفولتنا مع عمتي وأحفادها في أيام العيد القلائل الممتدة الذكريات إلى أن يشاء الله.

وعلى امتداد السلم يمينا كانت هناك نخلة عالية الرأس، شامخة كشموخ عمتي وقوتها، وتحت النخلة كنا نقف نجمع ما تساقط تحتها من الرطب الجني.

كنا نجلس جميعًا في الغرفة الكبيرة المطلة على البحر المواجه للبيت مباشرة، والتي كنت أظن لوقت طويل أنه ملك لعمتي أو قل إن كل ما كان يحيط بالبيت كنت أحسبه ملك لعمتي كذلك، وهو إحساس نفتقده الآن في أشياء كثيرة قد نمتلكها بالفعل ولا نشعر بها.

وفي المساء تأتي بنات عمتي وأولادهن نتسامر ونقص ما حدث لنا في مساكننا في المدن جميعا، ونضحك من قلوبنا كما لم نضحك من قبل، بينما تجلس العمة تتفقد وجوهنا جميعا، وهي تعلم أنها أيام قلائل وسيعود كل منا إلى داره حيث يسكن بعيدًا، فقد شاء الله أن يقطن معظم أحفادها المدن ولا تراهم إلا كما ترانا في المناسبات والأعياد، هكذا هي ضريبة العيش في المدن لمن أصله قروي. 

وفي يوم العيد نستيقظ مبكرًا جدًا من نومنا على صوت تكبيرات العيد ممزوجة بصوت هديل الحمام المنتشر في بيت عمتي. وحتى الآن ما إن أستمع إلى صوت هديل الحمام في أي مكان حتى أتذكر عمتي، وبيت عمتي وأتذكر نسائم هذا اليوم، يوم العيد.

ويأتي صوت أمي -حفظها الله- تنادي:" كل سنة وانتوا طيبين، يلا يا ولاد التكبيرات ملية الدنيا بره، يلا كل واحد يلبس هدوم العيد ويحافظ عليها"، ثم تلك اللحظة التي لا ينساها عقل أي طفل في العيد، لحظة "العيدية". تبدأها أمي ثم عمتي ثم جدي لأمي عند زيارته وتتوالى العيديات لتتجاوز عشرات الجنيهات في وقت لم أتجاوز فيه العاشرة من عمري ومصروفي اليومي لم يتجاوز وقتها "الخمسين قرشا". مبلغ يحتار عقل أي طفل صغير فيه،أين سيضعه؟ وفي ما سينفقه؟ والأهم أنها كانت نقودًا جديدة، كملابس العيد تمامًا، تتردد نفسك قبل صرفها من بريق لمعانها. كان للعيدية فرحة لم يعادلها إلا فرحة أول مرتب لأول وظيفة.

وما تكاد الساعة تقترب من السادسة صباحًا حتى ترتفع الاصوات أكثر بتكبيرات العيد و تزداد حركة الناس في الشوارع لصلاة العيد وبعدها لزيارة المقابر عند الجبل الرملي، فقد جرت العادة في قريتنا الجميلة زيارة المقابر في الأعياد، وبغض النظر عن تلك الزيارة التي كان من الأولى القيام بها في غير وقت العيد، لكن هكذا نشأ القوم وتوارثوا العادات. والحق يقال أن الأمر بالنسبة لنا ونحن صغار لم يكن يهم زيارة المقابر أم زيارة الحقول والحدائق. المهم أن ذلك في القرية، والقرية كانت لنا العيد والفرحة، نسافر اليها في الأعياد وفي المناسبات سعيدة كانت أم لا.

وقبيل الجبل كان هناك شجرة نبق عظيمة، كان جُلّ ما أتمناه وقتها أن أستطيع تسلقها مثل باقي أطفال القرية، لكن أنّى لمن تربى في المدينة أن يتعلم هذه المهارة! فكان بعض أقاربي من أهل القرية يتسلق الشجرة بمهارة ويسر كما لو كان "موكلي في الأدغال" ويلقي بحبات النبق الينا حُبًا وإكرامًا لنا، ننهل من طعمها. فجزاهم الله خيرًا.... 

كانت أمي- بارك الله فيها وحفظها- ولا تزال توصينا بعمتي وبأولادها وبالقرية جميعا خيرًا فتقول "لا يكن حبكم لعمتكم أقل من حُب أبيكم لها" فقد كان أبي-رحمه الله- يحب عمتي كما لم يحب أخ أخته من قبل، رزقكم الله حبًا كحب أبي لعمتي وحب عمتي لأبي، وفرحة كفرحة العيد في القرية وبيت عمتي.

نعم كبرت الآن وسافرت كثيرًا، شاهدت قرًى ومدنًا وبلادًا وأُناسا ولكن لا يزال عهد الطفولة، وما يحمله من ذكريات، لايغادر بالي؛ فهو ساكن بين حنايا قلبي ووجداني، لا أزال أشتاق للعيد في طفولتي، والحنين لعمتي، ولبيت عمتي، ولنخلة عمتي، ولهديل حمام عمتي، بل لكل شيء يذكر فيه اسم عمتي، رحم الله أيامًا وذكريات افتقدناها، رحم الله أبي وعمتي.