سليم صفى الدين يكتب: السياسة هى الحل.. قصة قصيرة

ركن القراء

سليم صفى الدين
سليم صفى الدين


لم أكن أتخيل أن أزور طبيبًا نفسيًّا فى يوم من الأيام.. اكتشفت إصابتى باضطرابات فى التفكير، أنا الذى لا أكل عن القراءة والمحاضرة لدى اضطرابات فى التكفير، فضلا عن أن حياتى مستقرة ومستقلة لا تشير إلى ذلك. كان هذا هو اليوم الأول الذى أخرج فيه بعد مكوثى فى البيت نحو أربعة أيام كاملة، لم آخذها إجازة، ولم أخبر أحدًا بما أصابنى، فالمرض النفسى وصمة عار فى مجتمعنا الموقر.

نزلت سلم المترو، متجهًا إلى رصيف المحطة، اتجاه حلوان. كان الرصيف مزدحمًا للغاية، فهى ساعة الذروة. فجأة رن إنذار المحطة، فصرخت فى الجميع من حولى، وجريت مسرعًا. استغربنى الكل، واستغربت الجميع.. لماذا لا يجرى الناس؟ إنه جرس الإنذار! صدمتُ بأفراد الأمن يستوقفوننى. حاولت مراوغتهم والهرب منهم، لكننى لم أستطع. فى النهاية ألقوا القبض علىّ وأنا لا أفهم ماذا يحدث. دخلت مكتب الشرطة فى محطة مترو السادات. وقفت مرتبكًا أتصبب عرقًا رغم برودة الجو. فككت رابطة العنق وفتحت القميص، وقلت: "أنا هنا ليه؟". نظر إلىّ ضابط شرطة برتبة عميد، مبتسمًا على غير عادة الشرطة، وقال وهو يشير بيده إلى الكرسىّ: "استريّح". جلست وما زلت جاهلاً بما يحدث حولى. وجه إلىّ سؤالاً: "جريت له لما سمعت جرس قدوم القطر؟". رددت عليه بسرعة وتلقائية واستغراب: "جرس القطر! دا إنذار إخلاء المحطة!". ضحك بصوت عالٍ وسألنى: "آخر مرة ركبت مترو إمتى؟ أجبت: من فترة طويلة؟ ليه؟". قال: "فعلنا جرس الإنذار عشان ننبه الناس بإن القطر داخل، بسبب حالات الموت".. قلت: "موت ازاى؟". أجاب: "من أربع أيام، فوجئ راجل وسيدة بالقطر، ووقعوا تحت عجلاته". أدهشنى كلامه. اعتذرت، فقبل اعتذارى، ولم يطلب منى أى إثبات شخصية، ولم يسألنى حتى عن اسمى.. تركنى أذهب فى سلام.

يومها غيرت وجهتى من المنزل إلى الطبيب النفسىّ مرةً أخرى. حاول جاهدًا إقناعي بأن ما حدث معي فى المترو طبيعى، ولا شأن له بحالتى المرضية، وأنه يجب علىّ عدم الخلط بين الأمور العادية التى تحدث يوميًّا، وبين مرضى الذى شخّصه بأنه بسيط ولا يحتاج إلى كل هذا القلق الذى سببته لنفسى. هو لا يعلم أن قارئًا مطلعًا مثلى كان يظن أنه يعلم كل شىء حتى عن الطب النفسى، لم يتخيل يومًا أن يكون مريضًا! صدق الإمام الشافعى عندما قال: "كلما أدَّبنى الدهرُ أرانى نقصَ عقلى.. وإذا ما ازددت علمًا زادنى علمًا بجهلى".

التزمت بالعلاج، وعرفت للمرة الأولى أننى لا أعرف كل شىء، وأن قراءتى فى الفلسفة والعلم، مهما وسعت، هى فى النهاية محدودة. ألزمت نفسى بروتين يومى، حتى عملى فى الجريدة الذى كان مميزًا وكنت أقدم فيه المختلِف، صرت أقدم فيه البديهى والتقليدى مثل البقية. 
بعد فترة من الالتزام بالعلاج، تحسنت حالتى، وعدت إلى تقديم الموضوعات المختلفة، والحوارات الصحفية الثرية. 

أنهيت عملى فى نحو الثالثة عصرًا، ونزلت مبتسمًا إلى رصيف محطة مترو السادات، بعدما بعت سيارتى بعد حادث أصبتُ فيه رجلا كبيرا فى السن، جلست عند نقطة وقوف أول عربة. كانت تقف أمامى سيدة ثلاثينية، مضطربة، غير طبيعية. ركزت معها قليلاً، ثم قلت لنفسى: "كل إنسان عنده ما يؤلمه، لقد كنت مثلها منذ عدة أسابيع، لولا اعترافى بالمرض ومطاوعتى للطبيب".

رن جرس الإنذار الذى صار يشير إلى قدوم القطار وليس إخلاء المحطة. غريبة مصر فى إدارتها.. ما الحل إن حدثت كارثة وهرب الجميع جريًا لينقذ حياته، بما فيهم ذلك الصوت المزعج الذى يصرخ من حين إلى آخر: "على السيد فلان الفلانى القدوم إلى مكتب ناظر المحطة للأهمية"! رأيت القطار يقترب من أول الرصيف. قمت من مقعدى وهندمت ملابسى. ازدادت تحركات السيدة الثلاثينية ريبة وقلقًا واضطرابًا، حتى فكرت فى أن أذهب إليها وأعرض المساعدة.. اقترب القطار أكثر فأكثر.. ثم صرخت السيدة بكل قوتها، بينما يطحن القطار عظامها، فتلقى حتفها.. لقد ألقت بنفسها تحت عجلاته! صرختُ بكل ما فىّ من قوة مثل الأطفال، ولم أعرف ماذا أفعل. كان باستطاعتى تصوير المشهد، فيصير سبقًا صحفيًا للجريدة، لكن حرمة الجسد وهول المشهد منعانى!

ظللت واقفًا أنظر إلى جسدها المقطَّع إربًا، وأنا أرتجف فى مكانى دون حركة، ودموعى تنهمر شلالات دون وعى منى، والجميع حولى فى مشهد لا يختلف عما أنا فيه، جاء نقيب شرطة، وخبط على كتفى فانتفضت، فقال: "اهدا، مافيش حاجة، تعالى معايا". لم أذهب معه، بل جرنى وراءه وهو يحتضن يدى كصغير فقد أمه. دخلت مكتبه. أحضر لى ليمونًا وأشعلنا سيجارتين. كنت قد أقعلت عن التدخين منذ نحو خمسة أشهر، والآن عدت بشراهة. ظل يسألنى عما رأيت، فأجبت بما أعرفه. لقرابة الساعتين يسألنى دون توقف، وأنا لا أذكر إلا ما قلته سابقًا.

فى النهاية أفرج عنى، بعدما ظننت أنه قد يوجه إليّ تهمة إلقاء السيدة تحت عجلات القطار، وكنت لأعترف بأننى فعلت ذلك، فقد كنت يائسًا جدًّا فى هذه اللحظة. خرجت متجهًا إلى منزلى. حاول رئيس التحرير مهاتفتى، وبعد إلحاح فى الاتصال أجبته بحدة وعنف، وأغلقت الهاتف دون إذن. دخلت شقتى فى منطقة المعادى، فلم أسترح، وعندما حاولت النوم أصابنى الهلع كثيرًا.. وأنا وحدى. غيرت ملابسى، واتجهت إلى منزل أبى بحدائق المعادى، فاستقبلتنى زوجته بترحاب كبير. جلس أبى معى فى غرفة مكتبه. الأناقة لا تغيب عنه حتى وهو فى المنزل. لطالما كان أبى مثالاً ورمزًا لى، فهو من تولى تربيتى بعد وفاة أمى، وكان من أبرز وزراء إحدى حكومات نظام مبارك، هذا النظام المشؤوم الذى بسببه ينهى الناس حياتهم دون تفكير، من جراء ألم العوز والجوع.

استمع إلىّ جيدًا، وعنّفنى بحب لأننى أخفيت عنه حقيقة مرضى. نصحنى بأن أترك مصر وأسافر إلى الخارج؛ حتى تهدأ أعصابى، وأتم علاجى. رفضت تمامًا، وحاولت إقناعه بأنني أريد الاستمرار فى العمل، وسأعمل على تغطية حوداث الانتحار التى انتشرت مؤخرًا. سخر منى وقال: "يظهر نسيت انك صحفى سياسة مش حوادث!". بعد نقاش طويل، استضافنى فى بيته لأكثر من عشرة أيام، وكانت زوجته كأم حقيقية لى. فى أثناء تلك الفترة غطيت حادث انتحار السيدة التى ألقت بنفسها تحت عجلات المترو أمامى، فاكتشفت أنها أم لأربعة أطفال، وقد طلقها زوجها لعدم قدرته على تحمل المسؤولية كأب، ثم انتحرت هى لعدم قدرتها على تقديم العون لهم. وتلت تلك الحادثة حوادث أخرى، قمت بتغطيتها أيضًا. كنت أصل إلى أسر وأطفال المنتحرين، وأسجل معهم بالصوت والصورة، وأكتب عنهم. 

آخر تحقيق، رفض رئيس التحرير نشره، واتهمنى بمهاجمة النظام، وأنه لا شأن للنظام بذلك، فالرئيس لم يقل لهم "أنجبوا أربعة وخمسة أطفال، وأنتم لا تستطيعون توفير حياة كريمة لهم". اعترضت تبريراته، وقلت له إن الحياة الكريمة مسئولية النظام، فاتهمنى بالغباء السياسى، وعنفنى بشدة، وذكّرنى بأننى صحفى سياسة ولا علاقة لى بالحوادث، وقال إنه تحملنى كثيرًا احترامًا لمكانة أبى الدبلوماسية، فحتى لو كان وزيرًا سابقًا، فهو ابن النظام! قالها وهو يعرف صداها عندى، وأتبع كلامه: "إنت نفسك ابن النظام، فى انتخابات 2005 كنت الجندى المجهول فى حملة ترشح الرئيس مبارك، ولا نسيت!".

قدمت استقالتى، ونشرت بعدها مقالاً فى عدد جريدة "المصرى اليوم" المستقلة، فأُلقِى القبض علىّ ليومين. وبعد تدخلات أبى، أُفرِجَ عنى. حجز لى أبى تذكرة إلى برلين، ومن يومها وأنا أتنقل فى أوروبا، بعد العمل فى إحدى وكالات الأنباء العالمية، ولا أعود إلى مصر إلا فى زيارات متقطعة كل عدة أعوام! كل ذلك حدث فى 2008، وقتما كان الدولار بجنيهات تعد على أصابع اليد الواحدة، وكان الدعم أكبر وأشمل من الآن، فما الوضع الآن وسط كل هذا الغلاء والعوز والألم والكبت؟ ما الوضع بعدما وصلنا إلى أكثر من 100 مليون شخص يعيشون –تقريبًا- على المساحة نفسها؟ كيف يعيش المصريون بعد ما طالهم فى الآونة الأخيرة من بطش الإسلاميين وتسلطهم، ومن سحب تدريجي للدعم؟

أشعر بمسئولية نحو كل ما يحدث، فقد كنت يومًا داعمًا لنظام باطش. واليوم أسعى جاهدا إلى تغيير الوضع، ولكن ليس أنا وحدى. سأعود قريبًا وأؤسس حزبًا سياسيًّا يعمل كبيديل سياسى للحكومة، وظهير شعبى. التعويل على نزول الشعب خطأ، والتوقف عن ممارسة السياسة يعد بابًا لمزيد من الاستبداد.