د. رشا سمير تكتب: المرأة التى امتلكت مفاتيح الجنة

مقالات الرأي



لو كانت الليالى ألفا لكانت هى الليلة الألف وواحد.. لو كان للقمر ثلاثة أوجه لأصبحت هى وجهه الأكثر سحرا.. لو كان الربيع يأتى مرة كل عام لاستطاعت بعصاها السحرية أن تجعله يطل علينا كل يوم.. لو كان للعشق ألف معنى لاستطاعت أن تمنحه تأشيرة الدخول إلى القلوب بنظرة من عينيها..

من هي؟.. هى السيدة التى خبأت فى حقيبة يدها مدن الحكايات، وتتوارى فى كهفها المسحور لتصنع عطور الجنة من هذه الليلكة وتلك الزنبقة، ثم راحت تغزل من قصائد الحُب أطواقا من الياسمين..

من هي؟.. إنها أمى.. .أمى التى منحتنى الإبداع فى قصص روتها لى قبل النوم، ورحلة اصطحبتنى إليها بين صفحات الكُتب وأنا صغيرة.. وأنا أبحث اليوم عن كلمات أرسلها لكل أم فى عيدها، كانت الصورة التى سكنت خاطرى هى صورة أمى، الإنسانة التى انتهلت من بين يديها كل المعانى الجميلة والقيم الأصيلة..

فكانت تلك الصورة التى انتقلت من وجدانى إلى عقلى هى صورتها، تلك التى جعلتنى أعود بذاكرتى إلى التاريخ والروايات والحكايات لأبحث عن المعنى الحقيقى للأمومة..

دفعنى وجهها للترحال ما بين قصص أمهات دفعن أبناءهن للقمة، وأخريات تركن أبناءهن للقاع.

إذن وراء كل إنسان أم صنعت نجاحه، واليوم أروى لكم بعضها..


1- شاعر المرأة وأم المعتز

لقبوه بشاعر المرأة والحقيقة أن النساء فى حياته شكلن طفولته وصباه وأقداره..

المرأة فى حياة نزار قبانى كانت أمه التى جمعه بها رباط من نوع خاص جعل كل امرأة مرت بحياته هى (أم المعتز)..

أو ربما كان ميلاده يوم 21 مارس فى فصل الأنوثة والربيع وبالتحديد يوم عيد الأم سببا فى ارتباطه بأوجاع النساء وقضاياهن..

كانت والدة نزار تحكى له وهى تسقى الزهور، كانت لقهوتها مذاق مختلف طالما كتب عنه نزار فى أشعاره، وكان لشجرة الياسمين التى تسقط فى صحن الدار وتلملم هى أزهارها نصيب آخر من أبيات شعره..

علمته الموسيقى والقراءة وسقته الحنان، فخلقت بداخله كل المعانى الحقيقية للرجولة.. انسابت الكلمات من بين أصابعه تصف كل نساء العالم بالجمال وتدافع عن قضاياهن فى صورة أمه.. نجح نزار فى أن يكون سفيرا لدمشق ثم سفيرا للعشق..

كتب نزار عن والدته بعد وفاتها يرثيها بكلمات رائعة.. قال:

«وطفت الهند، طفت السند.. طفت العالم الأصفر.. ولم أعثر..

على امرأة تمشط شعرى الأشقر.. وتحمل فى حقيبتها إلى عرائس السكر..

وتكسونى إذا أعرى.. وتنشلنى إذا أعثر..

أيا أمى.. أنا الولد الذى أبحر.. ولا زالت بخاطره.. تعيش عروسة السكر.. فكيف.. فكيف.. يا أمى.. غدوت أبا.. ولم أكبر؟»


2- صانع الحُب وروزاليوسف

يقول إحسان عبد القدوس:

«أنا مدين بالفضل فى بناء كيانى كله لسيدتين هما.. أمى وزوجتى..

أمى امرأة عاملة وزوجتى امرأة غير عاملة.. أيهما يمكن أن تكون صورة لما ندعو إليه كل نساء العالم.. هل ندعو نساء العالم لاحتراف العمل أم ندعو كل نساء العالم إلى التفرغ لمتطلبات الكيان العائلي؟!»

العلاقة بين الابن والأم، تعكس عن مدى الرباط الذى يربط أواصرها، فأثناء التحقيق فى قضية نشر، حاول إحسان الصحفى ووالدته رئيسة التحرير أن يلقى كل منهما المسئولية على نفسه لتبرئة الآخر!.

إنها لم تكن مجرد علاقة ابن بأمه، لكنها كانت علاقة حب من نوع خاص، كان حبًا جديرًا بالمسئولية يساند فيه كل منهما الآخر فى أزماته.. علاقة حب جعلت فاطمة اليوسف تحاول أن تخلق منه قلما يعتمد على موهبته بعيدا عن مكانة أمه، وقد كان..

فقد قص علينا إحسان كيف أن والدته فاطمة اليوسف، قد صنعته بيديها كما صنعت مجدها، ويظهر هذا جليا عندما كان إحسان فى المرحلة الثانوية، وأرسلته إلى الإسكندرية، لإحضار أخبار عن اجتماعات مجلس الوزراء فى مقر الحكومة الصيفى حتى يتعود الابن على جلد الحياة.. قالت له آمرة:

« روح هات أخبار»..

تلك الكلمات صنعت من إحسان الصحفى صاحب القلم والموقف.. الصحفى المتمرس..

بعد أداء امتحان الليسانس بكلية الحقوق، وقبل أن تظهر النتيجة جاء الابن من الكلية، مسرعًا واحتل مكتبا فى المجلة وأعلن نفسه رئيسا للتحرير.. لكن اعترضت الأم الحكيمة القوية..

فقال لها ثائرا: « أمال أنا كنت باتعلم علشان إيه؟!. مش علشان اشتغل بدالك وأنت تستريحى».

رفض إحسان بعد كل محاولاتها لإقناعه أن يعمل فى روزاليوسف إلا رئيسا للتحرير.. وأصرت الأم على موقفها.. فتعلم إحسان الدرس والتحق بمجلة آخر ساعة مع التابعى كصحفى تحت التدريب.. ثم عاد إلى روز اليوسف بعد أن استطاع أن يغزل اسمه بخيوط من حرير رئيسا لتحريرها..

غاب إحسان وغابت فاطمة اليوسف وبقى هذا الدرس هو المعنى الحقيقى للتربية..

كتب إحسان عن المرأة فى رواياته بألف صورة.. الارستقراطية نجمة المجتمعات، والفقيرة التى تبيع جسدها، والمعقدة التى قتلها الحُب، والشابة التى تبحث عن الهوى، والعجوز التى فاتها قطار العشق.. ورغم كل الصور بقيت صورة المرأة الوحيدة فى قلبه وحياته هى صورة أمه.


3- أديب نوبل وفاطمة

نماذج النساء فى أدب نجيب محفوظ مازالت محفورة فى ذاكرة قرائه ووجدان كل عشاق السينما..

فمن زوجة الفتوة وزوجة شيخ الحارة وراقصة الكباريه وزنوبة العاشقة وعاهرة الليالى الرخيصة.. بقيت صورة السيدة الأمية البسيطة (أمينة) هى الصورة الأشهر لثلاثية رسخت لتاريخ من الأدب وقادته إلى نوبل..

ولد نجيب محفوظ فى حى الجمالية..

ولم يكن وحده الذى تأثر بتفاصيل (بيت القاضى) وبانتقاله منه سنة 1920 إلى حى العباسية، ولم يكن الوحيد دائم التردد على حى الحُسين والمسكون بعشق هذا الحى فقد ورث كل ذلك عن أمه، فاطمة التى كانت كل صباح تركب العربة التى تجرها الخيول والتى تسمى (السوارس) من العباسية وتذهب لزيارة الحُسين ولم تنقطع عن تلك العادة اليومية طوال حياتها، والحقيقة أن نجيب محفوظ تأثر بشخصية والدته كثيراً التى قال عنها:

« كانت سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب ومع ذلك كنت أعتبرها مخزناً للثقافة الشعبية»..

توقف كثيرا أمام شخصيتها البسيطة المثقفة، حتى إن سر تعلقها بالمتحف المصرى لغز لم يكن يفهمه وجزء حائر فى شخصيتها لم يجد له تفسيرا بحسب كلامه، فحبها للحُسين والآثار الإسلامية كان ينبغى أن يجعلها تنفر من تماثيل الفراعنة، ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية، خاصة دير (مارجرجس) وتأخذ المسألة على أنها نوع من البركة..

على الرغم من طيبتها الشديدة إلا أن أديب نوبل نفى أن تكون أمه هى أمينة فى الثلاثية، لأن علاقتها بأبيه كانت علاقة مبنية على الاحترام المتبادل وليس القهر..


4- الأم وماكسيم جوركى

من أعظم الروايات التى تحدثت عن الصورة المختلفة لكلمة الأم هى رواية (الأم) للروائى الروسى مكسيم جوركى..

وهى قصة أم مات زوجها السكير وأصبح ابنها الوحيد هو كل حياتها، ذلك الابن الثائر الذى قرر أن يغلق باب غرفته وينغمس فى قراءة الكتب، صحيح أنها كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما كان يفعله ابنها، وماذا كان يدور فى الاجتماعات التى يعقدها فى بيتها مع مجموعة من الشبان..

ورغم خوفها وقلقها على مصير ابنها إلا أنها ككل أم كانت تشعر بالفخر والسعادة لأنه أصبح صاحب رأى وموقف.. كانت أماً لجميع أصدقائه الذين يجتمعون فى بيتها.. كان حنانها كأم يفيض عليهم جميعا ويحيط بهم..

ولأن «الدموع لا تنضب فى عيون الأمهات».. فعندما سُجن الابن تابعت الأم مسيرته وأصبحت توزع المنشورات مع أصدقائه، وبوازع من قلب أضناه الفراق، تبنت هى القضية من بعد سجن الابن وأصبحت كغيرها من الرفاق المناضلين من أجل القضية.. حتى وهى لا تعرف معنى الثورة.. فقط ولأنها أم.

إلى كل أم فى عيدها.. كل عام وأنت مذاق الحنان وطعم الأمل ورائحة النجاح..

وأهديك يا أمى.. باقة ورد ورحلة عُمر وشمس أبت أن تشرق إلا من بين كفيك..