"كفر ناحوم".. خراب غير حياة نادين لبكي وقادها للأوسكار

الفجر الفني

كفر ناحوم
كفر ناحوم


هل يحق لنا مقاضاة والدينا لأنهما أنجبانا لهذا العالم دون إداراتنا؟ أم أن ذلك يتعارض مع ما دعتنا إليه الأديان السماوية الثلاثة من برهم؟ من هذا المنطلق يخوض "زين" رحلته في الفيلم اللبناني "كفر ناحوم" والذي رُشح لجائزة الأوسكار لتصبح مخرجته نادين لبكي أول امرأة عربية تحقق هذا الإنجاز.



لم يختر أي منا القدوم إلى الحياة بإرادته الواعية، البعض وفق في الحياة التي عاشها، وآخرون لم يحالفهم الحظ في عيش حياة آدمية، من سوء حظ "زين" أنه كان من الفئة الثانية، جاء إلى الحياة من خلال أب وأم لا يمتلكان شيئًا، يقطنان شقة صغيرة بغرفة واحدة في منطقة خربة بإحدى الضواحي الفقيرة في العاصمة اللبنانية بيروت، يعتقدان أن إنجاب الأبناء سيكون عمادًا لمستقبلهم، وسيقيهم شظف الحياة حتى وإن كانا لا يملكان شيئًا لتقديمه لهم، يعيش "زين" مع أشقائه الكثيرين ووالديه في ظروف غير آدمية، لا تتوافر لديه أوراق هوية، لم يتلقى حظه من التعليم، لن يداويه أحدًا إذا مرض، وتجبره والدته على العمل بشكل غير قانوني في شراء الترامادول وبيعه.



يبدأ الفيلم بمثول زين ووالديه أمام القضاء اللبناني، يعتقد الوالدان أنهما يشهدان محاكمة ابنهما على جريمة قتل، لكنهما يتفاجأن برغبته في مقاضاتهما لإنجابه دون توفير حياة آمنة له ومنعهما من إنجاب طفل جديد سيواجه مصير محتوم بالفشل والضياع، ثم تأخذنا نادين لبكي في رحلة لعالم الصبي الذي لا يعرف عمره بالتحديد لكن يُرجح أنه في الثانية عشر، يعرض الفيلم بواقعية شديدة مشاهد من حياته اليومية غير الآدمية بين المنزل والعمل والشارع، ويبرز الفارق بين ما يتمتع به أقران "زين" وما يفتقده من أساسيات وليست مجرد رفاهية.



عدم اكتراث أهل "زين"، جعله يشعر طوال الوقت بمسئوليته نحو أشقاءه خصوصًا وأنه أكبرهم، على رغم صغر سنه إلا أنه كان حاميًا لهم ومعهم في تفاصيلهم الصغيرة، خاصةً أخته "سحر" التي تصغره بعام واحد، يحاول حمايتها وإبعادها عن تكرار مصير والداتها والزواج مبكرًا، فبعد أن تبلغ ويأتيها الطمث للمرة الأولى، يطالبها بألا تخبر والداتها ويعلمها كيف تتعامل مع الأمر دون أن يعرف أحدًا، يسرق لها فوط صحية ويخبرها كيف تتخلص منها بعيدًا عن أعين أمها، لكن محاولاته تبوء بالفشل بعد أن يخطبها شاب يُدعى "أسعد" ليتهدم العالم الآمن الذي حاول "زين" بنائه لشقيقته، لكنه لا يقنط ويواصل خططه لحمايتها ويطالبها بالهرب معه، ولكن والده يسلمها لزوجها المستقبلي دون فرح أو شنطة ملابس حتى وكأنها أضحية اقتيدت لمالكها لتنال مصيرها المحتوم.



لا يستطيع "زين" مواصلة حياته بعد فشله في حماية شقيقته ما يجعله يواصل الهرب منفردًا، ليتقاطع مصيره مع عاملة أثيوبية تُدعى "رحيل" جاءت للبنان بحثًا عن فرصة عمل تساعد من خلالها أسرتها لكن الحب أوقعها في شباكه، فحملت ورفضت أن تجهض جنينها واختارت أن تتخلى عن عملها وتبدأ في البحث عن عمل جديد بعيدًا عن محيط عملها الأول بعد تخلي والد الطفل عنها، تعطف "رحيل" على "زين" وتأخذه للعيش معها، وتأتمنه على ابنها "يوناس" وقت عملها، لكنها هي الآخرى تواجه مرحلة صعبة من حياتها فهي بحاجة لأموال لتأمين أوراق هوية جديدة لها حتى تستطيع مواصلة العمل، وتتعرض لاستغلال المزورين وأصحاب العمل، حتى تسقط في قبضة الشرطة.

عدم عودة "رحيل" للمنزل تجعل "زين" يظن بها الظنون، بعد أن كان يراها أم حنون تسعى لتوفير حياة أفضل لابنها بشتى السبل ويتحسر على حياته وواقعه ما يراها تلعب مع ابنها، هاهي تتركه وحيدًا، ليعتبرها بذلك لا تختلف في ذلك عن والدته، لدى "زين" غريزة بقاء غير عادية وبطولة وخفة ظل وطيبة قلب تمنعه من التخلي عن "يوناس"، يختلق لأجله الأكاذيب يقول أنه شقيقه رغم اختلاف عرقيهما لأن والدته كانت تشرب الكثير من القهوة أثناء حملها ب"يوناس" فإسود لونه، يسرق ليوفر له الطعام، يمثل أنه لاجئ سوري حتى يحصل على مؤن غذائية ليواصلان شقائهما على هذه الأرض، لكن لكل إنسان طاقة لابد وأن يحين أجلها، يلتقى "زين" ب"ميسون" اللاجئة السورية التي تحمسه للجوء للسويد، وتخبره بطريقة السفر عن طريق مهرب يٌدعى "أسبرو" وهو من كان يساعد "رحيل" على الإقامة في لبنان، لكنه يرغب أيضًا في بيع ابنها لأسرة ترغب في تبنيه، يوافق "زين" على إعطاءه الطفل، لكنه الآن بحاجة للعودة لمنزله للحصول على أوراق هويته، ليكتشف أن شقيقته ماتت، ليفقد صوابه ويقدم على قتل زوجها.



الفيلم الذي امتد على مدار ساعتين، حاول التعرض لحياة شريحة مجهولة من المجتمع اللبناني، تعيش على الهامش، لا يكترث لها المسئولون، ولا يهتم بها المواطنون المرفهون، ابنائها لا يتمتعون بأبسط حقوقهم في المأكل والمشرب والسكن والتعليم والصحة والحياة الآمنة، ليس لديهم حتى أوراق هوية، وكأنهم لافتقادهم حفنة أوراق افتقدوا معها آداميتهم، وحقوقهم، وتنتهي حيوات أغلبهم إما بالسجن كحال "زين"، وإما بالموت كحال شقيقته، ورغم خراب العالم وسوداوية الواقع إلا أن نادين لبكي اختارت نهاية سعيدة للفيلم، فشمل "رحيل" اجتمع بابنها "يوناس"، وحصل "زين" أخيرًا على بطاقة هوية، لكن نادين لا ترى في ذلك نهاية سعيدة كليةً وإنما مجرد أمل صغير لأن رحيل رُحلت إلى بلدها الأم، و"زين" لا يزال في الإصلاحية يواجه عقوبة جريمته.



حرصت "نادين" في فيلمها الذي وصلت مدته ل١٢ ساعة، خفضتها لاثنتين فقط حتى يلائم متطلبات السوق، على أن يكون فيلمها أقرب لأن يكون فيلمًا وثائقيًا لأنها وجدت أنها لا حق لها في تغيير واقع هؤلاء الأشخاص وإطلاق العنان لخيالها، لذلك اختارت أن يختفي صناع الفيلم من المشهد، وأن تُترك الساحة لأبطالها، لا ليمثلون ولكن لينقلون واقعهم المأساوي، لذلك كان طاقم التمثيل من ممثلين غير محترفين، أبطال حقيقيون كما تراهم غيروا حياتهم، أعطوا جميع العاملين في الفيلم دروسًا في البطولة والمثابرة، حتى أنها أكدت أنها والكثيرين من العاملين بالفيلم واجهوا أزمات نفسية وشعور قاتل بالذنب، لكنها ترى أن لا حلول بيدها لتقديمها وإنما كان فيلمها وسيلة تتمنى من خلالها أن تحدث ثورة على التعايش مع هذه الأوضاع غير الآدمية، كما يرى منتج الفيلم خالد مزنر ومؤلف موسيقاه، وزوج نادين لبكي، أن الفن ليس من واجبه أن يعطي أجوبة لكنه يوحي للآخرين، لذلك أنتج الفيلم لأنه آمن به، وأراد خوض المغامرة مع زوجته، رغم المجازفة الشديدة حتى أنه رهن منزله دون إخبار زوجته، وعرف أن هذة المغامرة إما ستنتهي بفيلم جيد أو بطلاقهما.



رغم أن الحياة غير عادلة أغلب الأحيان لكن الواقع هذه المرة تبسم أخيرًا في وجه بطل الفيلم "زين" وهو لاجئ سوري قضى آخر ٨ سنوات من حياته بلبنان، وتمكن صناع الفيلم بالتعاون مع عدد من المنظمات الدولية من تأمين حياة مناسبة له هو وأسرته بالنرويج.


فكرة الفيلم بدأت من اسمه "كفرناحوم"، وهي بلدة ملعونة عبر التاريخ، ويستخدم المصطلح للتعبير عن الخراب والدمار، وكانت "نادين" تستخدم هذا المصطلح كثيرًا في صغرها ليس فقط باللغة العربية وحدها ولكن بالفرنسية أيضًا، وهو ما جعلها تفكر في الخراب البادي حولها في أنحاء شتى من العالم، لذلك قررت تقديم فيلم عنه، لتبدأ في كتابة قصة "زين".



حقق الفيلم أصداء إيجابية واسعة حول العالم، حيث فاز ب٢٣ جائزة من أصل ٢٥ مشاركة له في مهرجانات دولية، كان أبرزها جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي في عرضه العالمي الأول، وترشيحه لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وتأمل "نادين" في استثمار نجاح العمل من جديد بعرض باقي المادة الفيلمية المصورة له على الجمهور من جديد، لكنها لم تستقر بعد على الشكل الذي سيخرج عليه إن كان فيلم آخر أو مسلسل، وذلك وفقًا لما صرحت به في العرض الخاص الأول لفيلمها بمصر.