د. رشا سمير تكتب: ذات الشعر الأحمر

مقالات الرأي



تصنع المُدن أقدار البشر؟ وترتبط الأرض بتكوين الأشخاص.. حتى تُصبح سمرة الوجوه وسواعد الرجال وجمال النساء وخضرة الأرض وأصوات العصافير، هى تلك العناوين التى يولد من تكوينها كل سكان الأرض والتى من بين جدائلها تسطع أقدارهم..

من ملامح البلدان تتشكل عقائد الروائيين وتولد إبداعاتهم.. فيتسلل صوت الحُب والقهر والثورة ونواقيس المعارك إلى أحبارهم لتسكن الكلمات سطورا كُتبت بأقلام من حملوا هموم الأوطان ونسجوا منها حياة وحُلما.

هكذا هو أورهان باموق ابن تركيا، الروائى والأكاديمى المولود عام 1952 الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2006، الذى يعد من أبرز الكُتاب فى تركيا، باعت أعماله فوق 11 مليون نسخة، وتُرجمت إلى 63 لغة..

إسطانبول البداية:

نشر باموق روايته الأولى (جودت بيك وأبناؤه) فى عام 1982 ومن يومها لايزال متربعا على عرش الرواية..

بدأ باموق كتابة الرواية لأول مرة وهو فى عامه الثانى والعشرين لسبب يقول إنه يجهله، مُضيفا بأنه أراد كتابة قصته كلها بهذه الطريقة، كأن حياته كانت حدثا لشخص آخر، أو كأنها كانت حلما شعر فيه بأن صوته يتلاشى وإرادته تستسلم للفتنة.

يقول أورهان باموق فى تلخيص دقيق لموهبته والوطن الذى أعلن إبداعه وخلق من داخل إخفاقاته نجاح شخصي: «إن قدر إسطنبول قدرى وأنا مرتبط بهذه المدينة لأنها جعلتنى ما أنا عليه.. إن هذه العائلات التى ولدنا فيها، وهذه البلاد والمدن التى جعلها القدر من نصيبنا، تتوقع منا الحب، فنحبها فى النهاية من أعماق قلوبنا، لكن هل كنا نستحق الأفضل؟ أحيانا أعتقد، أننى سيئ الحظ، لأننى ولدت فى مدينة عجوز فقيرة مدفونة تحت رماد إمبراطورية خربة».

عن دار الشروق المصرية لصاحبها الناشر القناص للأعمال المتميزة المهندس إبراهيم المعلم، صدرت مؤخرا ترجمة لرواية (ذات الشعر الأحمر) وهى تُعد الإصدار العاشر للأديب العالمى بعد (غرابة فى عقلى، جودت بيك وأبناؤه، ألوان أخرى، إسطنبول، البيت الصامت، ثلج، الكتاب الأسود، متحف البراءة، اسمى أحمر).

قام بترجمة هذه الرواية للعربية فى مجهود ملموس الكاتب جلال فتّاح رفعت.

من هناك تبدأ الحكاية:

الرواية مقسمة إلى ثلاثة أقسام، حيث بداية الحكاية فى القسم الأول والقسم الثانى الذى ينتقل عبر الزمان ثم القسم الأخير الذى يجمع الأحداث ويفسرها..

يأخذ باموق قارئه فى بداية الرواية إلى بلدة صغيرة على بعد 30 ميلاً من إسطنبول، ويعود من بين الأحداث الدائرة بطريقة الفلاش باك إلى ثمانينيات القرن العشرين حيث يسترجع الماضى القريب ويحلله، بل ويزج به ضمن الأحداث الجارية.. فى محاولة موفقة طالما يفشل الروائيون فى الإمسكاك بتلابيبها عندما تُكتب الرواية بطريقة الفلاشباك.

فى ضواحى تلك البلدة التى تبعد نحو خمسين كيلو مترا عن اسطنبول، يتم استئجار حفار آبار هو الأسطى محمود ومساعده الشاب بطل الرواية للعثور على المياه فى أرض جرداء قاحلة.

تأخذنا الرواية بحرفية باموق فى السرد كعادته إلى وصف دقيق لطبيعة العمل الذى يمارسانه فى قيظ الصيف، وتنقيبهما فى حالة من اليأس عن مياه لا يجدان لها آثرا كلما طالت المدة..

تتطور العلاقة بين حفار الآبار والشاب الصغير لتتشابه بشكل أو بآخر مع علاقة الأب بابنه..

العلاقة تبدو منذ البداية غريبة، فثمة صداقة أو نوع من الاهتمام ينمو بين رجل أعزب فقير فى منتصف العمر وصبى من الطبقة المتوسطة اختفى والده بعد اعتقاله بتهمة القيام بأنشطة سياسية تخريبية..

تبدأ أيامهما وتنتهى معا، يأكلان ويعملان ويتبادلان الأسرار كل يوم ويرويان القصص التى تعكس وجهات نظر متباينة من العالم..

ذات الشعر الأحمر:

فى أحد الأيام، فى بلدة مجاورة، حيث يشتريان ما يحتاجانه من غذاء ومستلزمات الحياة بل ويأخذان قسطا من الراحة من العمل الشاق فى المساء.. يتعرض الصبى لمشهد ما أو ربما للقاء غير مرتب يغير من مسار حياته وكأن هذه اللقطة أو الصورة كانت من ترتيب القدر ليأخذه إلى طريق آخر، اختاره أم لم يختره إلا أنه أصبح طريقه..

إذا به يشاهد سيدة فاتنة ذات شعر أحمر، تعمل فى إحدى الفرق المسرحية الجوالة، ويبدو أنها فتنت به كما فتن بها، حاول التودد إليها والذهاب إلى المسرحية التى تقدمها، عله يسكن قلبها كما سكنت قلبه..

تستدرجه السيدة ذات الشعر الأحمر وذات الثلاثة والثلاثين ربيعا إلى فراشها لتمنحه السعادة والعشق الذى لم يتصوره أبدا وهو شاب فى نصف عمرها!.

بات كل تفكيره منصبا فى تلك اللحظات التى غيرت مسار حياته وأدخلته مدن السعادة من باب العشق.

فى خضم قصة الحُب، ينتهى القسم الأول من الكتاب المُقسم إلى قسمين بحادث مروع يودى بحياة الحفار، ويظن الشاب أنه السبب، فيلملم الصبى أشياءه ويعود أدراجه الى اسطنبول هاربا من تلك الفاجعة..ليكتشف بعد أعوام أنه لم يكن سببا فى تلك المأساة.

وتمر الأعوام:

تنقلنا الرواية إلى حيث دخول الفتى إلى الجامعة دون أن يذكر لنا الكاتب ما حدث فى هذا الفصل الزمنى، ويتزوج الشاب من فتاة اسمها (آيشا) كانت كل أمنية أبيه أن يزوجها إياه، لكن القدر أبى أن يرزقهما أطفالا وأبيا هما إلا أن يستسلما بعد محاولات عدة..

يصل الكاتب إلى لُب القصة التى حاول منذ البداية أن يقدمها بشكل جاذب للقارئ من خلال أحداث كثيرة وآراء سياسية أقحمها بين السطور..ويدلف من هنا إلى هناك وينتهى به الأمر كعادته إلى تاريخ تركيا المحفوف بالمخاطر والمشاكل، واستعراض الانقسامات بين الريف والمدينة داخل المجتمع التركى والعلاقات بين الجنسين..مدى شرعيتها والقوانين التى تحكمها.

عبر سلسلة متداخلة من الأساطير والقصص، ومقارنة بين قصة أوديب وشاهنامة الفردوسى وقصة (رستم وسُهراب).. والمزج بين القصتين فى إسقاط متماسك على فكرة عقدة أوديب التى أشار إليها الكاتب أكثر من مرة

يربط الكاتب كل هذه الحكايات ليصنع منها نسيجا من الدانتيلا الرقيقة.

وتسترسل الرواية حتى تصل بعد طول لهاث وراء قلم الكاتب إلى مفاجأة تُفصح عن حقيقة السيدة ذات الشعر الأحمر..فمن هى تلك المرأة الغامضة ذات الشعر الأحمر؟

فلسفة الأب:

تبدو فلسفة الكاتب فى إظهار العلاقة بين الأب وابنه منذ الصفحات الأولى..

حين يشكو الشاب إلى السيدة ذات الشعر الأحمر فقدان الأب ترد عليه بكل بساطة قائلة: «عليك أن تجد لنفسك أباً غيره فكل واحد هنا فى هذا البلد له أكثر من أب، مثل الدولة الأب، الأب المقدس، الباشا الأب، أبو المافيا..هنا لا أحد يستطيع الاستمرار فى العيش بلا أب».

يقول باموق فى محاولة أخرى لتوضيح مدى تشابه العلاقة بين الآباء والأبناء:

«بعد الأربعين صرت مثل أبى، بدأت أعانى من نوع خفيف من الأرق ليلا، كل أعمالى المكدسة تقض مضجعى فيغادر النوم أجفانى.. فى كل مرة أقرأ الشاهنامة أو أوديب وأكرر قراءتهما كأى حكاية قديمة، كنت أشعر بأن روحى تتطهر من الفلوس والأرقام».

هكذا يتناول الروائى أكثر من مرة بداخل الرواية قيمة فقدان الأب وجُملة الانفعالات التى تُصاحب أى ابن فى البحث عن أبيه.

إن أورهان باموق كاتب يمتلك قلما مصنوع من الذهب الخالص، سكن قلوب عشاقه فى كل أنحاء العالم بروايات أخذتنا إلى كل ركن وأسكنتنا كل صورة وسقتنا الأحداث مثل النبيذ المعتق..

إنها رواية تستحق القراءة حتى وإن لم يصنفها النقاد كأعظم أعمال باموق إلا أنها رواية جذابة مكتوبة بقلم رشيق يكتب بطريقة الفسيفساء التى تلملم أصغر التفاصيل لتصنع حدثا هائلا ولوحة متكاملة المعانى والألوان..