د. رشا سمير تكتب: ولازالت تظن أنه آت

مقالات الرأي



بيضاء البشرة.. شعرها الغجرى الأسود يسافر فى كل الدنيا.. لكنتها اللبنانية تقطر عبق أزهار الياسمين والورد الجورى.. حبات الكرز فى زحلة هو ملمس وجنتيها.. والبحر النائم فى أحضان صخرة الروشة هو لون عينيها.. الثلوج المتساقطة فوق أشجار الأرز فى بشرى هى لون بشرتها البيضاء الناصعة.. وجسدها الممشوق جعل من وجودها فى أى مكان قنبلة موقوتة على وشك الانفجار فى وجوه الناظرين.

ولأنها قضت طفولتها فى أزقة لبنان فقد سكنتها الحوانيت وأشجار اللوز فأصبحت كلما تحكى تنهمر الحروف بمذاق زهور المشمش من فوق شفتيها..

ولدت فى بعلبك.. اسماها أباها (كارمن) وهو فى اللغة اللاتينية يعنى الأنشودة أو الأغنية المحبوبة.. أو ربما لأنها تشبه فى ثباتها جبل الكارمل فى فلسطين.. أو ربما لأن أوبرا كارمن ظلت للأبد هى مقصده كلما اعتلت مسارح بيروت.

نزحت أسرتها مع بوادر الحرب الأهلية إلى القاهرة حيث فقد الأب عمله ودُمر بيتهم الصغير فلم يبق أمامهم سوى الرحيل.. لملم الأب زوجته وأبناؤه وساقته أقداره إلى قاهرة المُعز حيث بدأ العمل بإحدى مطابع الكُتب ومنها طور نفسه وازداد طموحه حتى اشترى المطبعة، لكنه ظل للأبد عالقا بالطبقة الوسطى التى كانت بمثابة الكابوس لعائلته..

قضت كارمن المرحلة الثانوية من دراستها فى القاهرة ثم التحقت بجامعة القاهرة وتخرجت فى كلية الإعلام إلا أن حلمها لم يكن شاشات التليفزيون ولا أوراق الصُحف.. ظل حلمها الأكبر أن تُصبح سيدة أعمال وتنتقل من المنطقة الرمادية إلى طبقة ذوى الأملاك وأصحاب الأموال والنفوذ..

كانت تعود كل يوم إلى منزلها بحكاية نهايتها عريس طالب الود والقُرب.. لم يقنعها أحد لأن أغلبهم كانوا شبابا فى بداية حياتهم.. وطموحها كان أن تصل إلى القمة دون المرور بالقاع..

كان لأمها دور كبير فى حياتها فقد شجعتها بكل ما أوتيت من تأثير ونفوذ عليها لكى تبحث عن عريس مقتدر.. فأصبحت الجُملة التى تلقيها على مسامعها فى كل مناسبة:

«أنت أجمل من أن تصبحين فى قبضة يد شاب لا يستطيع أن يحقق أحلامك.. استثمار الجمال هو أهم اسثمار فى الحياة يا حبيبتى».

كانت الابنة تستمع إليها بكل حواسها.. وظلت الأم تغذيها بالنصائح والدروس المستفادة وتدفعها للمحافظة على جمالها والعناية بأناقتها بكل السبل..

علمتها الهمس ليسكن صوتها قلوب الرجال.. علمتها أن ترتدى ما يبرز أنوثتها من الضيق والمفتوح.. علمتها أن تتهادى بنعومة فى مشيتها حتى تذوب الأرض تحت قدميها.. علمتها أن تنحنى فقط لتلتقط الورود وأطواق الياسمين..

باختصار علمتها فنون استقطاب الرجال!..

حتى.. قابلته..

التقته عن طريق الصدفة فى حفل زفاف إحدى صديقاتها اللاتى تزوجت من مطرب شهير فى حفل اكتظ بالمشاهير ورجال الأعمال والفنانين فى أحد الفنادق الكُبرى بأسوان.. صممت أمها على أن تطرز لها فستانا بمواصفات خاصة ولونا مُشرقا يجعلها تخطف الأضواء من باقى الفتيات، وكانت على يقين من أن هذا العُرس هو الفرصة الذهبية لاصطياد عريس مناسب..

كان يجلس على ترابيزة خاصة فى الصف الأول ضمت بعض معارفه ومعاونيه..

قالوا إنه جاء بطائرته الخاصة إلى أسوان.. وقالوا إن معه حرسا خاصا يرافقونه طوال الوقت.. قالوا إنه متزوج.. ثم عادوا وقالوا إنه أعزب.. قالوا إنه يعشق الجميلات وقالوا إنه يؤدى فريضة الحج كل عام.. قالوا إنه لا يُعاقر الخمر ولكنه يُفضل مُعاقرة الجميلات!.

ثرثرة لا تنقطع منذ دخل القاعة.. الشىء الوحيد الذى لم يختلفوا عليه.. هو أنه ملياردير وأن مشاريعه الخاصة واستثماراته حول العالم وضعته على قائمة أغنى أغنياء العالم فى أشهر مجلات الاقتصاد والمال.. وأنه لا يستطيع أن يُحصى نقوده من كثرتها..

لمحها بطرف عينه.. أشار لمساعده الخاص إشارة فهمها جيدا دون كلام..

انتقل سكرتيره الخاص إلى طاولتها فى ثوان وهمس فى أذنيها:

« الباشا يريد أن يدعوك للعشاء فى جناحه الخاص غدا»

ردت بكل برود:

« لا أقبل دعوة رجل لا أعرفه»

علت ملامحه الدهشة وعاد يقول بصوت خفيض:

« هو هناك.. وأنت طبعا تعرفين من هو؟»

« لا أريد أن أنظر ولا يهمنى أن أعرفه.. الرجال جميعا عندى سواء».

بعد شهر واحد من هذا اللقاء وبعد عدة محاولات لاستقطابها وتجاهلها المتكرر له.. كان رجل الأعمال الثرى يجلس فى صالون بيت كارمن المتواضع ويطلب يدها من أبيها..

اعترض الأب.. تهللت أسارير الأم.. وفرح الأخوات..

أما هى فقد ترددت قليلا عندما عرفت أنه متزوج.. ثلاث نساء!..

لكن كيف ترفض المال والنفوذ بعد أن أصبحا على عتبة بيتها وما عليها إلا أن تدعوهما للدخول..

وتم الزواج.. لم يكن الفرح الأسطورى هو ما كتبت عنه الصُحف ولم يكن كونها الزوجة الرابعة له هو ما لفت الانتباه.. بل كان حديث كل الحاضرين فى حفل الزفاف عقب التهانى والابتسامات تنحصر فى سؤال واحد.. .هو:

(كيف وافقت عليه والفرق بينهما أكثر من أربعين عاما)!..

لم تدرك كارمن أن زوجها تخطى السبعين من عمره وأنها مازالت على مشارف الثلاثينات إلا عندما أغلق عليهما باب الفيلا التى استأجرها لها العريس لتصبح عش الزوجية فى الأيام التى يأتى فيها إلى القاهرة لتخليص صفقاته.. ولم تشعر بالانهزام إلا وهى بين أحضانه.. ولم تشعر أنها جارية إلا وهى فى فراشه..

ولأنه رجل أعمال يحسب حساباته بالورقة والقلم فقد علمته الأرقام والصفقات أن كل شىء يتم بورقة عليها توقيع حتى يحفظ حقوقه..

شروطه منذ البداية كانت واضحه، وقبلتها هى فى صمت.. فأمام المال تنهزم الإرادة!.

شروطه واضحة.. لا إنجاب ولا اعتراف بأى جنين تحمله حتى لو كان عن طريق الخطأ.. لا خروج أو دخول دون إذنه.. هى تابعة فى كل مكان يطلبها فيه دون اعتراض أو سؤال.. ووافقت!.

عاشت أياما فى الجنة.. انتقلت إلى طبقة مجتمع لم تكن تحلم أن تصبح ضمن نجومه..

دخلت الفنادق الفارهة وسكنت الأبراج العالية.. أصبحت عضوا فى أكبر نوادى القاهرة.. أصبحت سيدة مجتمعات وضيفة نوادى الروتارى والليونز..

أهداها الماس أساور وخواتم.. وأهداها الرفاهية فى أحدث السيارات.. أهداها الترف فى سائق وخادمة وجناينى وحارس أو بالمعنى الأدق جاسوس ينقل أخبارها إليه..

بعد عام من السعادة ومحاولات لقبول فارق السن والاهتمامات.. بدأت تشعر أنها باعت نفسها مثل أى بضاعة حتى لو كانت باهظة الثمن.. أصبحت مثل العصفور المحبوس فى قفص من ذهب تحلم بالسماء!..

لم تكن اللحظات التى يتناولها فيها فى صمت وقسوة قادرة على أن تقضى على تذمرها وخيالها الذى كان يفتح الباب لآلاف الصور من الرجال الآخرين لتسكن خيالها وهى بين أحضانه.. فهى لم تكن تستطيع التجاوب مع رغباته إلا إذا تخيلته نجما من نجوم هوليوود ومحت صورته العجوز تماما من ذاكرتها!..

فقدت كيانها.. حتى حفلات الصديقات وتجمعاتهن أصبحت تعتذر عنها بإشارة من إصبعه الصغير.. فهى اليوم تتعشى معه فى باريس وغدا فى دُبى وبعده فى كندا.. ولكن أين هى من كل هذه الدعوات وسفريات العمل؟..

باتت تشتاق إلى شبابها.. إلى خروجات الصديقات والسينما وحفلات الأوبرا.. أصبحت ترمق كل شاب تقابله بنظرات الإعجاب وتتمناه حبيبا..

طلبت منه أن يكتب لها فيللا باسمها.. فرفض بشدة.. فلقد اعتاد أن يستأجر لها كل شىء حتى لا يجعلها تتملك الأشياء فتتمرد..

فتح لوالدها دار نشر بدلا من المطبعة الصغيرة.. وأرسل والدتها إلى ألمانيا على نفقته الخاصة للعلاج.. أوجد فرصة عمل لأخيها الأصغر فى أكبر البنوك.. تكفل بكل تكاليف زواج أختها..

نعم.. اليوم فقط أيقنت أنها تقايض جسدها مقابل سعادة أسرتها..

ذبلت وشحب وجهها.. ظهرت عليها أعراض أمراض نفسية وعضوية.. أصبحت تتردد بانتظام على عيادة الطبيب النفسى علها تجد من تبوح له..

تحولت علاقاتها بمن حولها إلى محاولة للتقرب من زوجها رجل الأعمال.. حتى صديقاتها أصبحن يحاولن بكل تبجح الوصول إليه عن طريقها..

باتت تتذمر وتشكو وتطلب منه المزيد، فيرفض.. تشعر بالضجر والملل على الرغم من كل المال والنفوذ..

أصبحت تشعر بالحنين إلى الأمس.. إلى ضفائرها وحديقتها وكتبها القديمة وأغانى فيروز.. لقد سرق شبابها بدفتر شيكاته..

سافرت إلى لبنان ووقفت أمام باب مدرستها القديمة ببعلبك تحاول أن تلتقط الصور القديمة لتتخذ القرار..

طلبت الطلاق.. فطلقها دون تفكير أو جدال وكأنه يطوى صفحة من كتاب تسلل الملل إلى صفحاته.. واكتشفت فجأة أنها لم تجن من ورائه أموالا بالبنوك ولا عقارات لأنه كان يُعطيها بنفس قدر السعادة التى تُعطيها له!..

وتعلمت الدرس.. .رجال الأعمال يحسبون مشاعرهم بالأرقام والأوراق.. وعلى قدر الاستحواذ يأتى العطاء!.

عادت إلى الأصدقاء والأهل والتجمعات والحفلات.. أصبحت تقضى الأيام فيما افتقدته.. لكنها عادت بصورة جديدة ووضع مختلف ومذاق لم يعتاده الآخرون..

عادت فى صورة طليقة الملياردير.. الشابة التى نامت فى فراش المال..

أصبح وجودها فى كل المجتمعات تُربة خصبة لنميمة لا تنتهى وألف سؤال عن حياتها الخاصة وعن طليقها ومغامراته وصفقاته حتى ملت وجودها بينهم.. وانزوت..

بعد أعوام من طلاقها.. وبعد ثمن دفعته لحياة مُترفة طالما حلمت بها.. عادت تبحث عن الحُب.. عادت تبحث عن رجل بحق يعيد إليها رونقها.. عادت تبحث عن الدفء الذى هرب من بين أحضانها بعد أن سكنها صقيع الهجر.. فأصبحت كلما اقتربت من رجل.. يرتعد ويتردد ويرحل دون سبب..

وبعد أعوام من الوحدة.. مازالت تبحث عن الحُب وتنتظره.. ظنا منها أنه آت..