بطرس دانيال يكتب: ارحموا من فى الأرض

مقالات الرأي

بطرس دانيال
بطرس دانيال


يُحكى أن إبراهيم أبا الآباء قام بدعوة أحد المتسوّلين ليأكل معه فى خيمته، وعندما بدأ إبراهيم فى تلاوة صلاة الشكر لله قبل الطعام، قام الضيف بالتجديف على الله، فحزن إبراهيم جداً وطرده خارجاً. وعندما حلّ المساء سمع صوت الله قائلاً له: «هذا الشخص كان يجدّف على اسمى مدة خمسين عاماً، وبالرغم من هذا كله كنتُ أوفر له دائماً ما يحتاج إليه من طعامٍ وشراب، بينما أنت لم تتحمّله ساعةً واحدة!» الغالبية العُظمى منّا تعيش هذه الأمثولة فى حياتها، نحن دائماً على استعداد لتوفير الطعام ومستلزمات الحياة للذين فى احتياج، ولكن عندما يصدر منهم أى شيء ضد الإيمان أو عدم الثقة فى الله أو ينكرونه، نمتنع للتو عن مساعدتهم تاركين إياهم فى العَوَز حتى يموتوا جوعاً. لكن الله رحيم مع كل هؤلاء الذين يرفضون الإيمان به أو بعيدين عنه. وكما يقول السيد المسيح له المجد: «الله يُشرق شَمْسَه على الأشرار والأخيار، ويُنزل المطر على الأبرار وغير الأبرار» «متى 45:5». إذاً يجب أن نكون رحماء مع الغير كما أن الله رحيم معنا جميعاً. كما أنه يجب علينا ألا نحكم على تصرفات الآخرين، لأننا لا نعلم ما بداخلهم، وبدلاً من أن نصبح جافين معهم، نبدأ فى مساعدتهم للرجوع إلى الله والثقة فيه، لأننا عندما نقف معهم ونساعدهم، نُظهر لهم رحمة الله وحُبّه اللا محدود لهم، سيكتشفون أننا أداةً فى يد الله الذى أرسلنا للوقوف بجانبهم ومساعدتهم وتوفير كل ما يحتاجون إليه، وكما يقول موسى النبي: «الربُّ الربّ! إله رحيم ورءوف، طويل الأناة كثير الرحمة والوفاء، يحفظ الرحمة لألوف ويحتمل الإثم والمعصية والخطيئة» «خروج 34 : 6 -7». إذاً رحمة الله كالحبل الطويل القوى، ومازال لدينا وقت لنتشبث به، هذه الرحمة تلازمنا فى كل لحظة من حياتنا، وكما يقول أحد الأشخاص: «تُشرق قبل الشمس». فهى كالحبل المشدود على مدار تاريخ البشرية لمساعدة الجميع بلا استثناء، ولكن المهم ألا نتجاهل أو نترك هذا المُنقذ. هل يوجد مَنْ يتخيّل أن مصائب البشر وضعفاتهم أقوى من رحمة الله؟ فالثقة برحمة الله هى المرفأ الوحيد الذى يساعدنا على اجتناب شرورنا ورذائلنا. مَنْ يستخدم الرحمة واللطف مع الآخرين يستطيع أن يجتذب القلوب، ويطفئ الأحقاد وينشر المحبة والسعادة. يُحكى أن أحد التلاميذ ارتكب جُرماً شنيعاً، وكان جميع الزملاء فى انتظار عقاب المُعَلّم له عقاباً صارماً بلا رحمة حتى يكون عّبرة للغير، ولكن مرّ عام ولم يلاحظوا أى رد فعل من المعلّم تجاهه، فاعترض أحد التلاميذ قائلاً: «من المستحيل تجاهل ما حدث من تصرفات مُشينة؛ علاوة على ذلك فإن الله منحنا أعين لنرى بها»، وبكل هدوء وابتسامة أجابه المُعلّم: «عندك حق، لكن الله خلق لنا أيضاً الجفون». كم من المرات العديدة التى تَقَابلنا فيها مع مسئولين ومربّيين فى مجالاتٍ شتّى وكان رد فعلهم عنيفاً للتوِ مع من يخطأ، ولم يكن لديهم رحمة أو عذر له؟ نحن نعترف جميعاً بأن العدالة ضرورية وواجبة ومهمة فى حياتنا، لكن كل هذا لا يجعلنا نفقد الرحمة تجاه الآخرين، كما يقوم بها الله تجاه كل فردٍ منّا مهما صدر منه. وكما أن الشمس تبدد وتمحو الضباب عن وجه الأرض، فتدب الحيوية فى الطبيعة كلها، وتنتعش المخلوقات، كذلك استخدام الرحمة مع الآخرين تزيل عنهم مساوئ كثيرة وتُعيد إليهم النشاط مرةً أخرى فى الحياة وتدفعهم لحُب الغير والابتعاد عن الشر والفساد. فالرحمة هى أعظم وسيلة لقمع الشر، كما أنها تفجّر طاقات من الخير فى النفوس، وترد النفوس الضالة إلى ثوابها، وتجعل من المجرمين عناصر خيّرة للمجتمع. ولكن للأسف يوجد كثيرون يستخدمون العنف والظلم مع الضعفاء معتقدين أن الحق ينتصر للقوة والسلطان، وينتقمون دون أى اعتبار لعدل أو رحمة، ألا يعلم مثل هؤلاء أن هناك من هو أقوى منهم؟ الله فاحص القلوب والكُل ولا يُخفَى عنه أى شيء، لم يخلقنا لينهش القوى الضعيف، أو يترك الضعيف العاجز فريسة للظلم والطغيان. مَن يستطيع أن ينكر بأن الظلم داء يفتك أولاً بالظالم، حتى ولو تخيّل أن له السلطان والقوة والحماية التى يستطيع بهم أن يدوس الآخرين، فدموع المظلوم عزيزة عند الله، ونختم بالمقولة التى كتبها أحد ملوك الفرس القدامى ليُذكّر بها نفسه فى لحظة الغضب وعدم الرحمة: «ارحم من فى الأرض، يرحمك مَن فى السماء!».