د. رشا سمير تكتب: أنا وأنت والسوشيال ميديا

مقالات الرأي



مما لاشك فيه أن ثقافات الشعوب هى الدلالة الحقيقية على تقدمها، وفنونها هى معيار ارتقائها وحضارتها..

كلمات محفورة فى الذاكرة منذ كانت مصر هى أم الفنون والثقافة والموسيقى.. وقت كان الشعب المصرى يتحلى بأغلى أنواع الحُلى.. الأخلاق.

أعترف بأننى من جيل ظهرت فيه بعض الموضات الغريبة والأغانى الشعبية ولكنى أفتخر أيضا لكونى من جيل كانت القراءة أكبر همه والسينما الراقية هى عنوانه للفنون وأغانى العندليب الوطنية هى سبب ارتباطه بالأرض..

ماذا حدث؟ ما سبب الانهيار الأخلاقى الذى أصاب المجتمع ومتى كانت البداية؟..

أسئلة لا أعتقد أن هناك أى شخص يمتلك الإجابة عليها..

ما حدث هو ترد واضح فى سلوك البشر وتخل عن حزمة الأخلاق التى طالما تحلينا بها وحالة من انعدام المسئولية على كل المستويات..

أتابع السوشيال ميديا باهتمام وغالبا ما أحاول عدم التوقف عند شىء بعينه لتفاهة الموضوعات، لكن أحيانا يتم استدراجى إلى التعليق والكتابة من هول الصدمة!..

السوشيال ميديا أو مواقع التواصل الاجتماعى هى أحد المتهمين الرئيسيين فى قضية التردى المجتمعى الذى نُعانى منه اليوم..

الحقيقة أن الأشياء التى أصبحت تستهوينا على مواقع التواصل الاجتماعى والبرامج لم تعد هى الأشياء الهامة أو الضرورية.. بل انحصرت النقاشات والهاشتاجات فى التفاهات التى أودت بالمجتمع إلى الهاوية.. فلم تعد البرامج السياسية ولا الثقافية تجذب الشباب.. الشباب أصبح يسير كالأعمى وراء الـ influencers أو ما يُقصد بهم الشخصيات «الكوول» التى استطاعت أن تشترى مُتابعين على التويتر والإنستجرام ليصل عدد متابعيهم إلى الملايين وكأنهم بنوا الأهرامات!..

ومن هنا يبدو أن عملية بيع الوهم لأجيال لم تنل نصيبا كافيا من التعليم يؤهلها للتفكير والانتقاء.. وبنفس المقياس يتم بيع الوهم للبسطاء ممن لديهم أحلام قتلتها الظروف القاسية ويحاولون الوصول إلى نفس المكانة الزائفة..

الحقيقة أن الساحة لم تعد تتسع إلا لهؤلاء وانزوى المحترمون والمثقفون وأصحاب الرأى.. فأصبحت القضايا التى تتصدر اهتمامات الناس فى البرامج وعلى السوشيال ميديا هى قضايا الصراع الأبدى بين الرجل والمرأة والتحرش والزواج والطلاق.. وطبعا قصة غرام الهضبة ودينا الشربينى!.

منذ أيام رأيت صورة للسيد وزير النقل ضمن ركاب مترو الأنفاق واستغربت لماذا يتم تجاهل هذه اللقطة وسط تهليل وهتافات لوزراء فى الدول الأوروبية قاموا بنفس المشهد.. أعجبت بفكرة نزوله من مكتبه المُكيف وسيارته الفارهة إلى أرض الواقع ليستمع بنفسه ويرى بعينيه صورة لن يراها وهو فى كوكبه المنعزل..

إنها الطريقة المنطقية الوحيدة لمتابعة نبض الشارع والتى كان يتبعها حكام الدولة الفاطمية والمملوكية فى النزول إلى الأسواق مُتنكرين..

أليس هذه هى مأساة المُحافظين الذين ينصرفون بعد حلف اليمين إلى مكاتبهم ولا يخرجون منها إلا فى حركة المحافظين التالية؟!

أين هم إذن من القمامة والتلوث والباعة الجائلين وبلطجة سائقى الميكروباصات والتكاتك؟..

ألا يجب أن تكون مكاتبهم هى الشوارع ذاتها حتى يروا المأساة بأعينهم!..

المُصيبة الكبرى التى يعانى منها أى مسئول فى مصر هى التعتيم على عينيه من قبل الشلة التى تلتف حوله.. فلا يرى إلا بأعينهم ولا يسمع إلا أصواتهم..

المواطن الذى تُطالبه الدولة بأن يكون له دور فى النهوض باقتصادها ودفع ضرائبها حتى على ميراثه بعد موته، هو مواطن يستحق أن تُقدم له خدمة يشعر فيها بآدميته..

هذا المواطن الذى تم تسطيحه وتتفيه اهتماماته حتى باتت تنحصر فى الانستجرام وأفلام المقاولات والبرامج التى يتصارع فيها الضيوف والمذيعون للظهور.. هو ذاته المواطن الذى يُقاتل من أجل استخراج بطاقة أو ترخيص سيارة أو الحصول على حوالة بريدية وختم النسر الواضح فى دهاليز المصالح الحكومية العتيقة.. هو أيضا الذى يُعانى الأمرين من جراء التلوث وأزمة الدواء والمحسوبية والفساد..

أليس الأولى بنا أن نُسلط الضوء على مشكلات تمس واقعنا الحياتى ونتكاتف لنجد لها حلولاً بدلا من تلك الحرب المفتعلة بين الرجال والنساء والتى حولتها الفضائيات والسوشيال ميديا إلى معركة سوف تنتهى بمجتمع متفكك اختلت فيه القيم ليصبح كل صاحب صوت أو قلم قادرا على إحداث خلل جسيم بمجرد افتعاله لأزمة لا تساوى..

فى حين لا حديث للسوشيال ميديا فى العالم كله سوى عن احتمالية إقالة رئيس أمريكا وتبعيات هذا القرار على كل دول العالم، لا حديث للسوشيال ميديا عندنا سوى عن متحرش «أون سارن» الذى أصبح نجم المجتمع!.