وقفت فى طابور طويل من الشخصيات العالمية لمصافحة "مانديلا" استغرق الوصول إليه ساعتين.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (28)

العدد الأسبوعي



نشرنا النصوص المحرمة من أولاد حارتنا إلى آيات شيطانية فلم تقم القيامة

الكتب الممنوعة لا تحمل مدافع رشاشة ولا تفجر نفسها بأحزمة ناسفة وتباع سرا مثل المخدرات فلم لا يقرأها الناس؟

كبار الكتاب فى مصر عانوا من المصادرة على رأسهم طه حسين وعلى عبد الرازق وسعيد العشماوى وفرج فودة

نشر يوسف إدريس كتابه «البحث عن السادات» فاتهمه مبارك بقبض مليون دولار من ليبيا


أضعف ما فى الصحف المتواضعة التأثير أنها تتصور نفسها وصية على المجتمع.. تعتقد أنها قادرة على تحديد ما يفيد وما يضر.. ما يباح وما يمنع.

خطأ شائع أن نتصور أننا نقف أمام سبورة نعلم الشعب الجالس على صفحاتنا ما الذى يقرأ وبينه مثقفون؟ وكيف يتذوق وبينه مبدعون؟ وما الذى يتجنب وبينه مطلعون؟.

وكلما توسعت صحيفة فى نشر ما يتجنبه غيرها كلما اتجه الناس إليها ولو كانت الطرق وعرة تنتهى إلى متاعب يصعب تحملها.

ذات يوم دخل إبراهيم عيسى على مجلس تحرير «روزاليوسف» وهو يحمل فكرة جريئة لم نعترض عليها رغم خطورتها: لم لا ننشر فصولا من الكتب والقصائد الممنوعة؟ لم لا نثبت للعقول المغلقة أن ما يرفضونه ليس بالخطورة التى يتصورونها.

كنا فى وقت صادر فيه الأزهر كتبا من معرض الكتاب الذى كان يستقبل زواره بأعداد كبيرة تبحث عما يزيد من وعيها وثقافتها فتضاعف الحماس للفكرة التى تولى عيسى تنفيذها وقدمناها بسؤال سهل ولكن ظل بلا إجابة: ما الذى يخيف فى هذه الكتب التى أصبح تداولها جريمة وقراءتها خطيئة؟.

هذه الكتب موجودة لدى بعض المثقفين سرا وتباع فى بعض المكتبات سرا فلم لا يتحول السر إلى علن؟.

كتب لا تحمل مدافع رشاشة ولا قنابل مسيلة للدموع ولا عبوات ناسفة ولا مسامير حارقة.

كتب كتبها مسلمون آمنون لا يملكون من يومهم ولا غدهم سوى ورقة وقلم.

إن أبسط قواعد العدل أن يتاح للناس قراءتها ومناقشتها ليقبلوها أو يرفضوها بأنفسهم دون وصاية من أحد خاصة أن الإسلام لا يعرف المصادرة وإن ادعى غير ذلك تجار الدين الذين طغوا وسادوا وسيطروا وحرموا وقتلوا فصار طه حسين كافرا ويوسف إدريس خائنا وفرج فودة مرتدا ونجيب محفوظ ملحدا ونزار قبانى منحلا.

وكانت النتيجة أن كل الطرق أصبحت تؤدى إلى التطرف وتمضى إلى الإرهاب.

والأزهر يتصدر دور البطولة فى هذه الكارثة فقد صادر مؤلفات على عبد الرازق وطه حسين ونجيب محفوظ ولويس عوض وفؤاد زكريا وفرج فودة وسعيد العشماوى وغيرهم.

إننا ننفرد بنشر نصوص ممنوعة من كتب محرمة نفعل ذلك لا اتفاقا ولا اختلافا معها بل دفاعا عن حقها وحريتها فى أن تكون متاحة للناس جميعا وتدافع عن نفسها بنفسها.

إن المجتمع المفتوح الحر هو الذى يطلق أولى خطوات الحضارة والتقدم والإسلام الحنيف العظيم لم يأت إلا للحق ولم ينتشر إلا بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يرق قمم الدول والأمم إلا بحرية الاختلاف والاجتهاد.

نحن ننشر هذه النصوص لأساتذة الفكر والأدب دفاعا عن الإسلام وهذا يكفى ودفاعا عن الحرية وهذا يضيف ودفاعا عن مصر وهذا واجب ودفاعا عن المستقبل وهذا ضرورى ودفاعا عن حق المجتمع فى المعرفة وهذا مهم.

بدأ الملف بقصيدة لنزار قبانى منعت بعنوان أبو جهل يشترى فيلت استريت وفيلت ستريت هو شارع الصحافة فى لندن ورسم القصيدة الفنان حلمى التونى:

هل سقط الكبار من كتابنا فى بورصة المال هل أصبحت إنجلترا عاصمة الخلافة وأصبح البترول ملكا فى شارع الصحافة؟.

جرائد جرائد جرائد تنتظر الزبون على ناصية الشارع كالبغايا جرائد جاءت إلى لندن كى تمارس الحرية ولكنها تحولت على يد النفط إلى سبايا.

ونشر الملف فصلا من كتاب «البحث عن السادات» الذى أختار يوسف إدريس عنوانا له قياسا على عنوان مذكرات السادات البحث عن الذات وبكل ما يملك يوسف إدريس من قدرة على إثارة العواصف وصف كثيرا من قرارات السادات بأنها مسرحيات ألفها وأخرجها رئيس موهوب فى التمثيل وربما لهذا السبب كان يستحق جائزة الأوسكار لا جائزة نوبل.

ونشر الكتاب فى ليبيا ضمن الأعمال الكاملة ليوسف إدريس ولكن لا كتاب واحدا منه دخل مصر إلا فيما بعد واتهم مبارك علنا يوسف إدريس بأنه تقاضى من معمر القذافى مليون جنيه ثمنا لتلك الصفقة ولم يملك يوسف إدريس سوى أن يكتب مقاله فى الأهرام يكشف عنوانه أشكو منك إليك ما فيه من عتب وشعور بالظلم.

وانفرد الملف بفصل من كتاب فرج فودة عن العلمانية سيئة السمعة فند فيه الأفكار الخاطئة عن العلمانية فهى ليست كفرا ولا إلحادا وإنما إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله وبأدلة تاريخية أثبت أن أوروبا لم تنمو وترقى وتزدهر إلا بعد أن تخلصت من سلطة الكنيسة على الحكم وأغلقت محاكم التفتيش فى عقول وضمائر البشر بالضبة والمفتاح.

ونشر جمعة كاريكاتيرا مناسبا للملف يصور شهريار وشهر زاد معا وخادم يقول من بعيد: وقبل أن يدرك شهر زاد الصباح وتسكت عن الكلام المباح توقفت وقال ورأسها وألف سيفها وسيف مسرور أنها لن تتكلم إلا لما شهر زاد يجيب لها موافقة من الرقابة.

ولكن الرقابة نفسها منعت طبعات من ألف ليلة وليلة نشرتها وزارة الثقافة بدعوى أنها تحوى مشاهد جنسية وليال حمراء وتحدينا الرقابة بنشر ما منعته دون أن ينحرف المجتمع.

ولكن المفاجأة كانت نشر فصل من رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا واكتشف الناس أنها ليست رواية كافرة كما روج بعض المشايخ ولعل ذلك كان سببا فى نشرها علنا فيما بعد دون اعتراض.

إن أسهل طريقة لإثبات أن العفريت لا وجود له فى غرفتك أن تضئ النور.

وعودة للتاريخ نشرنا فصلا من الكتاب الذى حوكم بسببه طه حسين كتاب فى الشعر الجاهلى وكان عنوان الفصل: ما الذى يجمع بين القرآن والإنجيل والتوراة؟.

وتحت عنوان براءة إبليس اخترنا فصلا من كتاب المفكر السورى صادق جلال العظم نقد الفكر الدينى الذى كشف فيه عن الاستخدام الدينى فى السياسة بما يكرس السيطرة على الناس ولو لبعض الوقت.

وبنفس صدمة أولاد حارتنا كانت صدمة نشر فصل من رواية آيات شيطانية لسلمان رشدى الذى طلبت إيران رقبته بعد نشر الرواية.

وحدث فيما بعد أن شاهدت سلمان رشدى صدفة فى أحد المطاعم على أطراف لندن وعندما هممت بالاقتراب منه خرج من تحت الأرض خمسة رجال فى حجم الأفيال يحرسونه من بعيد إلى بعيد وحالوا بينى وبينه وعندما كتبت له ورقة باسمى ومهنتى ليوصلونها إليه وجدته يأتى إلى مائدتى قائلا: لم أنس موقف «روزاليوسف» الشجاع يوم تعاملت باحترام مع روايتى المحرمة وقد أرسلت إليك برقية إشادة بما فعلت وعندما قلت له: إن البرقية لم تصل أضاف: اعتبرها وصلت الآن مباشرة منى.

ولو كان رد فعل سلمان رشدى قد جاء متأخرا فإن رد فعل العالم تجاه عدد الممنوعات جاء فور صدوره.

تساءلت وكالات أنباء وصحف خارجية: من أين جاءت «روزاليوسف» بكل هذه الشجاعة فى بلد تنتشر فيه تنظيمات دينية مسلحة لا تقبل بجملة واحدة مما نشرت المجلة وتبيح دم كل من يخالفها فى تفسيراتها الفقهية الخاطئة؟.

وكانت هناك أسئلة أخرى أجاب عنها محررو المجلة: نعم نحن مجلة وطنية تؤمن بالحرية السياسية والفكرية نعم نحن نمتلك شجاعة الدفاع عن الحرية أردنا أن نقول بأن النصوص الممنوعة ليست مرعبة ولا مخيفة وأن مواجهة الإرهاب ستصبح مؤثرة لو فتحنا نوافذ الفكر على مصراعيها.

وبالطبع صودر العدد فى كل الدول العربية إلا تونس التى احتفلت صحافتها بالعدد وكتب محرر صحيفة الشعب سفيان الأسود:

تصدمنا مساحة الحرية فى «روزاليوسف» تجرأت ونشرت عددا خاصا عن النصوص الأدبية الممنوعة كما تصدمنا بنقدها اللاذع إلى أصحاب القرار لقد كتبت مؤخرا بخط عريض على غلافها لا تصدقوا الحكومة.

ويضيف: وحتى ندرك حجم الصدمة نقول: إن روزاليوسف تعتبر مجلة حكومية ومساندة لتوجهات النظام فى مصر بجانب صدمة أخرى أن كتابها لا يتعرضون إلى مضايقات أمنية رغم أن عدد قرائها يقترب من الربع مليون قارئ.

ويستطرد: لقد أدركت الصحافة المصرية ممثلة فى «روزاليوسف» أنها لكى تكون فى حجم الأمانة عليها أن تتوخى أسلوب الهجوم وأن تستفيد من مساحة الحرية الممنوحة لها فنحن ندرك أن القارئ لم يعد خافيا عليه إدراك الحقائق بنفسه وليست الصحافة وحدها التى تستفيد وإنما صاحب القرار أيضا.

ويواصل: ولقد أدركت الصحافة المصرية الحقيقة باكرا أنها لكى تواصل تربعها على عرش الصحافة العربية عليها أن تهاجم وتكشف كل شىء ولكى تكسب حقيقة الحاكم والسلطة عليها أن تقول ما تشاء فلن يخسر فى النهاية أحد بل سيكسب الحاكم أكثر.

كان ما كتبه سفيان الأسود دفاعا عن النظام فى مصر قبل أن يكون إعجابا بـ«روزاليوسف» وأشهد أن مبارك فى تلك الفترة لم يكن منزعجا مما نكتب بل رفض مصادرة كثير من المقالات التى لم تعجبه أو تعجب مساعديه ورجاله.

وحدث أن سافرت معه لمقابلة الملك حسين فى العقبة وقصر البروتوكول على ستة صحفيين مصريين وأردنيين للجلوس معهما وتراجعت بعيدا باعتبار أننى الأصغر سنا ولكننى فوجئت بمن يطلب انضمامى إلى اللقاء ووجدت من يفسح لى مكانا بجوار صفوت الشريف وعندما قدمنى مبارك إلى الملك حسين ناسبا اسمى إلى «روزاليوسف» رد الملك قائلا: سلام قولا من رب رحيم فعلق مبارك قائلا وهو منتشى: طب انتم فى الأردن تقدروا تمنعوا المجلة من الدخول لكن إحنا ما نقدرش.

وعندما اعترض حكام عرب على ما تنشره «روزاليوسف» عن تجاوزاتهم السياسية رد مبارك عليهم قائلا: إننا لا نتدخل فيما تنشر الصحافة وأضاف: والجهة الوحيدة التى لها الحق فى محاسبة الصحافة هى القضاء.

ولكن السؤال الذى جال ببالى الآن: ترى لو أعدنا نشرنا النصوص الممنوعة بعد كل هذه السنين هل سننال نفس الإعجاب أم سنتعرض لهجمات شرسة من مواقع التواصل الاجتماعى تنتهى بسجننا بتهمة ازدراء الأديان؟.

أخشى أن أجيب على السؤال بنفسى ولكننى أتذكر أن مجلة لوبوان الفرنسية أشادت بما نشرنا واكتشفت ذلك صدفة وأنا على متن الطائرة المتجهة إلى جوهانسبرج فى منتصف ليل أول فبراير 1993 بجانب مسئولين فى الرياضة على رأسهم عبد المنعم عمارة وزير الشباب وحسن مصطفى رئيس اتحاد كرة اليد بجانب نقاد رياضيين كبار مثل فتحى سند وعصام عبد المنعم وغيرهم من مسئولى الوزارة واتحاد الكرة كانوا جميعا متجهين إلى جنوب إفريقيا لحضور مباراة السوبر بين الأهلى والزمالك.

كانت جنوب إفريقيا قد تحررت من العبودية والعنصرية ونالت استقلالها وخرج نيلسون مانديلا إلى النور بعد سنوات طوال قضاها فى عتمة السجون ليصبح رمزا للنضال الوطنى يصعب على صحفى تجاهل فرصة للقائه أو حتى الاكتفاء بمصافحته بعد الوقوف فى طابور طويل ضم شخصيات سياسية وأدبية وصحفية دعيت لتعيش هذه اللحظات المميزة فى حياتها.

سمح لنا قائد الطائرة بأن نرى جوهانسبرج من الجو وهو على وشك الهبوط بعد تسع ساعات طيران فى مطارها صباح اليوم التالى دون أن ينسى تحذيرنا من وكان عنده حق فما أن دخلنا الفندق حتى وجدنا صحفياً أجنبياً يجرى فى اللوبى بملابسه الداخلية بعد أن كان اللصوص كرماء معه وتركوا له ما يستره وحدثت السرقة فى مسافة لا تزيد على عشرين مترا بين برجى الفندق وربما لهذا السبب بدأت جنوب إفريقيا سياسة بناء مراكز التسوق داخل الفنادق وكانت المرة الأولى التى أجد فيها مصاعد الفندق لا تعمل إلا إذا استخدم النزلاء مفاتيحهم الإلكترونية لتضمن عدم تسلل الغرباء إلى الحجرات.

كانت جنوب إفريقيا بداية رحلتى الطويلة إلى إفريقيا وقد تحمست لها بعد أن فقدت أوروبا وأمريكا دهشة السفر إليها وامتدت الرحلة إلى أوغندا وسيشل قبل العودة إلى القاهرة عن طريق باريس.

ولكن شيئا ما مثيرا للدهشة حدث بعد العودة بأسبوع.. وجدت حسن مصطفى يتصل بى ليلا ويطلب لقائى لأمر مهم وما أن رآنى حتى سألنى: هو احنا هاجمنا الرئيس واحنا فى سيشل؟ وأجبت بلا تردد: لا أتذكر أننا جبنا سيرته أصلا فقال: تصور جمال عبد العزيز (مدير مكتب مبارك) أبلغنى أن الرئيس غاضب لأننا تناولناه بسوء فى سيشل مضيفا: أنا منزعج مما سمعت وسألته: ترى من الذى اخترع هذه الوشاية كنا أكثر من عشرة أشخاص التقينا هناك دون ترتيب ترى من منهم تطوع بها؟.

ولم يعرف حسن مصطفى من صاحبة الوشاية الكاذبة ولم يقل له جمال عبد العزيز اسمه ولكن كل ما أثبته أنهم يعرفون ما يقال عن الرئيس ولو فى آخر الدنيا وكان تعليقى الأخير: إن هناك من أراد التقرب إلى مبارك ولو على جثتينا ولا مانع أن يستعين مبارك بمخبرين ولكن لابد أن يكونوا صادقين وابتسم حسن مصطفى لعبارة مخبرين صادقين.

والحقيقة أن هذه الوشاية جاءت فى وقت بدأت فيه النار تفتح على بتهمة التطرف فى ممارسة الحرية وهى تهمة لم تأت من رجال الأمن أو من رجال الدولة وإنما جاءت من كتاب كبار ينسبون أنفسهم لليبرالية.

لقد هددت التجربة الصحفية الشابة فى روزاليوسف عواجيز الصحافة وفضحت خوفهم من الحرية التى نادوا بها ولكنهم عندما وجدوها أمامهم خافوا منها وأطلقوا عليها رصاص أقلامهم وراحوا يعضوننا عضا جنونيا لينزلوا فجأة إلى خندق الظلام الذى يؤدى إلى الإرهاب.

إنهم يرون الحرية التى نمارسها فى حجم جبل المقطم ونحن نراها فى حجم قرص إسبرين هم يرونها شمسا استوائية حارة ونحن نراها شمعة فى حاجة إلى رعاية وإلا كانت العتمة.