عاطفة النبي صلى الله عليه وسلم

إسلاميات

عاطفة النبي صلى الله
عاطفة النبي صلى الله عليه وسلم


لقد وُلد صلى الله عليه وسلم يتيمًا.. لما خرج إلى الدنيا كان أبوه قد رحل عنها .. وعندما كان طفلاً في السادسة أخذته أمه لزيارة أخواله وقبر أبيه بني النجار في المدينة، وفي عودتهم من السفر فاجأ أمه مرضٌ، فماتت عند الغروب في (الأبواء) بين مكة والمدينة . ويا سبحان الله! تُرى كيف كان أثر موت الأم على الطفل وفي أرض الغربة؟

ولم يكد يمضي في كنف جده عامين حتى توفي جده أيضًا .. وانتقل إلى كفالة عمه أبي طالب.. تلك البدايات الحزينة جعلت من نفس محمد صلى الله عليه وسلم بحرًا من الرحمة والرقة.. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

عاطفة عميقة:
كان يقول: "أبعد الناس من الله القلب القاسي" . وكان صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه وأتباعه واحدًا واحدًا، حتى ولو كان في حرب كبرى؛ ففي غزوة تبوك، وكانت أكبر غزوة غزاها النبي، وأول مرة يلقى فيها الروم، وكانت في حر الصيف وفي وقت قحط حتى سميت غزوة (العُسْرة).. لم ينس بعض من تأخروا عن الجيش: فلما رأى غبارًا بعيدًا، قال للغبار: "كن أبا خيثمة"، فكان . ولما رأى قادمًا ماشيًا، قال: "كن أبا ذر"، فكان.

تقول عنه السيدة عائشة: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا" . 

وحكى لنا قصة رجل دخل الجنة؛ لأنه سقى كلبًا عطشانًا، فغفر الله له. ولأن الرفق بالبهائم لم يكن مطروحًا كقيمة وخُلُق تعجب الصحابة وقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "في كل ذات كبد رطبة أجر" (يعني في كل كائن حي). ثم حكى قصة امرأة دخلت النار؛ لأنها حبست هرة لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض.

كان إذا دخل في الصلاة وهو ينوي الإطالة، يقصر فيها إن سمع بكاء الطفل الصغير؛ لأنه يعلم أثر ذلك البكاء في نفس أمه . وبكى صلى الله عليه وسلم لدى موت طفله الصغير والأخير إبراهيم، حتى تعجب عبد الرحمن بن عوف فقال: وأنت يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "يا ابن عوف، إنها رحمة" .

ولما أسر النبي زوج ابنته زينب أبا العاص بن الربيع في غزوة بدر، وكانت ابنته في مكة وليس لديها ما تفدي به زوجها من الأسر، فبعثت بالقلادة التي كانت أمها خديجة أهدتها لها عند زفافها لتفتدي بها زوجها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قلادة خديجة بكى من الرقة، واستأذن الصحابة في أن يمنُّوا على أبي العاص فيطلقوا سراحه، فوافقوا .

وبكى أيضًا لما رأى مصعب بن عمير يلبس ثوبًا مرقوعًا بفرو، وقد كان قبل إسلامه يلبس فاخر الثياب ويتمضخ أفخم العطور ، وبكى لما رأى إحدى بناته تموت ، وبكى لما مات عثمان بن مظعون .

ولقد كان النبي رحيمًا رقيقًا حتى في أشد يوم مر به صلى الله عليه وسلم وهو يوم الطائف، بعث الله له ملك الجبال، فإذا أمره أطبق عليهم الجبال التي تحيط بهم، حتى في أشد لحظة قال: "لا؛ عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل" .

بل ويحكي ابن مسعود رضي الله عنه أنهم كانوا في سفر مع النبي، فأخذوا طائرين صغيرين من عش، فجاءت الأم تطير وترفرف بجناحيها عند رسول الله، فقال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا إليها ولدها" . ورآهم أحرقوا قرية نمل فنهاهم، وقال: "لا ينبغي أن يعذب بالنار" . حتى النمل يا رسول الله!!

وما أرسلناك إلا رحمة للعالمينلم ينس -وهو قائد الدولة الإسلامية كلها- طفلاً صغيرًا في المدينة اسمه أبو عمير، له طائر يلعب به واسمه النغير. فإذا رآه النبي ابتسم له وقال: "يا أبا عمير، كيف حال النغير؟" . ولم ينس شابًّا فقيرًا اسمه جليبيب، فسعى ليزوجه حتى خطب وتهيأ للزفاف، فإذا بالمنادي للجهاد ينادي، فذهب جليبيب مجاهدًا، وبعد انتهاء الغزوة يسأل النبي عن الشهداء، فينساه الناس من بين الشهداء، لكن النبي لا ينساه، فيقول: "لَكِنِّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ". ولما وجدوه، ظل النبي يحمله على ذراعيه حتى حفروا له ووضعوه . ولا يعرف عن جليبيب إلا هذا الموقف؛ مما يدلك على انتباه النبي ورحمته ورعايته، حتى لغير المبرزين من الناس.

ويعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "لا يرحم الله من لا يرحم الناس" ، ويؤكد أن قاسي القلب شقي فيقول: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" .

واعتبر النبي رجلاً لا يقبِّل أولاده رجلاً قد نزع الله الرحمة من قلبه ، وقال: "من لا يرحم لا يٌرحم" .

وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر مرة، فجاء الحسن والحسين يلبسان ثوبين أحمرين، وكانا يتعثران في ثوبيهما، فلم يتمالك صلى الله عليه وسلم إلا أن نزل من على المنبر، فأخذهما ووضعهما على حجره، وقال: "رأيت هذين الصبيين، فلم أصبر" .

عاطفة تلهب الدعوة.. لا تعوقها
 وقد يمكن أن نقول ونقول بلا انقطاع في عاطفة النبي وقوتها وحرارتها، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ودودًا ورقيقًا ورحيمًا ولينًا وسمحًا.. لكنما تظل بوارق تلك العاطفة وعظمتها في أنها كانت في سبيل الدعوة، ولم تقف يومًا عائقًا.

والذي يُعتاد من أصحاب القلوب الرقيقة والأخلاق السمحة والنفوس اللينة هو تأثرهم السريع والعميق بما يعرض لهم في هذه الحياة، فيصعب على الكريم أن يهان، ويشق على السمح أن يُقسى عليه، ولا تطيق نفس الرحيم الإيذاء، وأشد ما يبتلى به الصادق أن يرمى بالكذب، وأقسى ما يبتلى به الأمين أن يُرمى بالخيانة، ولا أكبر عند العاقل الوقور من أن يرمى بالجنون والكهانة.

وكل هذا تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم تجنح به عاطفته العميقة ونفسه الرقيقة نحو أن يترك أو يتخلى عن ذلك الطريق الوعر، وليبقى محتفظًا بمكانته في مكة، وهو الكريم الأصل والرفيع النسب، وهو الصادق الأمين.. ولقد كان ذلك الأصل وتلك الرفعة مساحة أخرى من المشقة، واجهها النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.

فإن (كريم الأصل عريق النسب) أوذي أبلغ الإيذاء، فقيل له لأول مرة وعند أول مواجهة: (تبًّا لك) . وأُطلق عليه (مُذَمّم) ، ورُميت عليه أمعاء الشياه ، وخُنق على حين غرة حتى جحظت عيناه .. وغير ذلك من الإيذاء، ولقد كان أبلغها وأشقها على نفسه صلى الله عليه وسلم يوم الطائف .

ولقد رُمي (الصادق الأمين) بأنه كذَّاب وكاهن وساحر وشاعر.. بل ومجنون، وطفق عمه أبو لهب يمشي وراءه في طرقات مكة يحذر الناس والحجيج منه .

فانظر كيف كان أثر كل هذا الإيذاء في نفسٍ رقيقة كرقة نفس محمد صلى الله عليه وسلم! وكيف وقعت على قلبٍ يسيل بالعاطفة كقلب محمد صلى الله عليه وسلم! وعلى ذي أصل ونسب وشرف رفيع كمحمد صلى الله عليه وسلم! وعلى ذي سيرة طاهرة وخلق قويم طوال ما يقرب من نصف قرن قبل أن يجهر بدعوته!!

انظر هذا، ثم انظر أيضًا كيف كانت عاطفته تلهب دعوته وتنير سبيله، ولم تقف يومًا عائقًا.. ما فكر لحظة في أن يترك طريق المشقة؛ لأن رقته وكرامته لم تتحمل كل هذا الإيذاء، ولم يُفضّل أن يبقى في المجتمع فاضلاً طاهرًا مصون النفس مهيب الجناب على حساب أن يبقى المجتمع منكوبًا بالجاهلية.

وهنا بوارق عظمة العاطفة في نفسه صلى الله عليه وسلم، فلقد كانت تلهب الدعوة.. لم تكن تعوقها.

ولما ذهب إلى المدينة، وصار قائد الدولة والآمر الناهي المطاع، وجد عنتًا من اليهود، وممن بقي على الشرك من أهل المدينة ومن المنافقين.

كان حكيمًا ورحيمًا حين تحمل قولة عبد الله بن أبي بن سلول: (إن مثلنا ومثلهم كالقائل: سمّن كلبك يأكلك) . بل وتحمل منه غلظته وفظاظته في انحيازه إلى يهود بني قينقاع ، وتحمل منه غيه في قذف زوجته الأحب إلى قلبه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها . وغير هذا كثير والمقام ليس مقام الإحصاء.. بل أحسن إليه حتى لما مات كفنه في قميصه ، وصلى عليه ، واستغفر الله له .

كان رقيقًا في السلم وحتى الحرب، انحاز إلى رأي أبي بكر الذي يرى العفو عن الأسرى في بدر ، ورفض أن يدعو على قريش في أُحُد وقد بلغوا منه ما لم يبلغوه من قبل، بل رفع يديه وقال: "رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون" . حتى قال لويس سيديو: إنه (أي محمد) لم يرفض قط ما طُلب إليه من اللطف والسماح .

ولقد عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة ، وأكرم أبا سفيان بن حرب أحد الكبار الذين وقفوا لحرب الإسلام طوال عشرين سنة هي عمر الدعوة ، وأعطى الناس بسخاء حتى يؤلف قلوبهم، ولم يبخل عن أحد حتى بأغنام تملأ واديًا بين جبلين .

فإذا نظرت في مكة إلى عاطفة تلهب الدعوة ولا تعوقها.. فانظر في المدينة إلى عاطفة في سبيل الدعوة.. لم تذهب عاطفة الداعية لتأتي مكانها صرامة الحاكم، بل بقيت سماحة الداعية وقوة الأمير.

عاطفة لا تنسى الحق.. ولا تدخل في باطل
تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: "ما غضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك محارم الله" .

وعلى شدة حبه صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد رضي الله عنه، إلا أنه احمرّ وجهه غضبًا لما حاول أسامة رضي الله عنه أن يشفع لامرأة من قبيلة من سادات قريش (قبيلة بني مخزوم)، وكانت سرقت، فقال: "أتشفع في حد من حدود الله؟!". بل صعد المنبر، وأعلنها هائلة: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها" .

وانظر كيف ضرب المثال بأحب أولاده إليه، وأقربهم إلى قلبه!!

ولما تأثر وهو ينظر إلى قلادة خديجة التي بعثتها زينب ابنته لفداء زوجها أبي العاص بن الربيع، فَرَقَّ لها، فأحب أن يمنَّ على زوج ابنته بالفداء، فتعود القلادة إلى زينب ابنته.. لم ينفذ ما أحب إلا بعد أن طلب هذا من الصحابة، ورضوا به فوافقوا .

وغارت زوجته الأحب إلى قلبه عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لما وجدت أمامه طعامًا من صنع زوجة أخرى، فإذا بها وأمام ضيوفه من الصحابة، ترمي بالإناء في الأرض فينكسر وتقلب الطعام.. فيستقبل صلى الله عليه وسلم هذا السلوك بأرق ما يكون، ويظل يرفع الطعام من الأرض وهو يقول: "غارت أمكم" .

لكنه لا ينسى فيما بعد أن يأخذ من عائشة إناءها، فيرده إلى صاحبة الإناء الأول ويقول: "طعام بطعام وإناء بإناء" .

وعلى كل حبه لحفيديه الحسن والحسين، إلا أنه أمسك بأحدهما وقد أخذ تمرة من مال الصدقة فأخرجها من فمه وهو يقول: "لا يحل لنا الصدقة" .

ولقد عفا من قبل عن أبي عزة الجمحي، وهو شاعر آذى النبي بكلامه، لما وقع في الأسر فوعده ألاَّ يفعل ولا يظاهر عليه أحدًا، فلما تركه النبي عاد سيرته الأولى.. فوقع مرة أخرى أسيرًا بين يديه صلى الله عليه وسلم، فرفض النبي العفو هذه المرة وقال: "أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟ لا والله، لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: سخرت بمحمد مرتين". وقال: "إن المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين" .

وكان حِبُّ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة ين زيد رضي الله عنه في قتال، فقاتل رجلاً حتى بدا أنه سيقتله، فقال الرجل: لا إله إلا الله. وقتله أسامة.. فلما أُخبر النبي بهذا غضب وقال: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟" فقال: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السيف. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟". وظل يلومه ويكرر: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله"، حتى تمنى أسامة رضي الله عنه أن لم يكن قد أسلم قبل هذا اليوم .

وخلاصة الموضوع:
 أن قسوة القلب تعني البعد عن الله، ولم تنزع الرحمة إلا من شقي، ولقد كان قدوتنا صلى الله عليه وسلم عطوفًا رقيقًا حنونًا سمحًا لينًا، أنزل الله عليه رحمة فصار بها واسع النفس رقيق القلب {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. 

بكى من الرحمة، ونزل من منبره ليضع حفيديه إلى جواره شوقًا ومحبة، وكان يتفقد من حوله حتى الطفل الصغير والشاب العادي.

لكن عاطفته ألهبت دعوته ولم تعقها، وكان غضبه لله لا لنفسه.. كانت عاطفة لا تنسى الحق، ولا تدخل في باطل، ولا تسمح بأن يلدغ من جحر واحد مرتين.. عاطفة تلهب العقل، ويحكمها العقل.

وتلك عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم.. تلك اللحظة التي لا تسبق العقلَ العاطفةُ، ولا يلغي العقلُ عمل العاطفة.. نقطة التوازن التي يمثلها محمد صلى الله عليه وسلم.