المسلمون وابتكار حدائق الحيوان!

إسلاميات

حيوانات - أرشيفية
حيوانات - أرشيفية


تمتلئ بلدان العالم الغربي بحدائق الحيوان الرائعة التي يتهافت الناس عليها؛ بغية مشاهدة غرائب الخلق من الحيوان، ولكن بدايات هذه الحدائق لا يعرف معظمنا من أين أتت! المشكلة أنَّنا عندما نتحدث أنَّ أغلب الأشياء منشؤها المشرق العربي يعتبر الكثيرون هذا أمرًا مبالغًا فيه، لكنَّ الدراسات الأثريَّة دائمًا تأتي لتُبرهن صحَّة هذه الأقوال، ومنها أنَّ أول من أسَّس حدائق الحيوان هم المسلمون العرب في عهد بني أميَّة.


الرخاء في عهد الدولة الأموية

إنَّ دراسة الأبنية العائدة لعهد الدولة الأموية تُعطينا دليلًا بيِّنًا أنَّ هذا العصر هو عصر إنجازات عمرانيَّة هامَّة وتجديدات عظيمة، وهذا ما لاحظناه من خلال البقايا الأثريَّة والدلائل التاريخيَّة، وقد واكبت الأرض الصالحة لنشوء الفن والعمران في بلاد الشام، كما ساعد النظام الاقتصادي القوي للدولة على الرقي في هذا المجال، بالإضافة إلى أنَّ التمازج والتعايش بين العرب والشعوب المجاورة أدَّى إلى ثورة ثقافية وحضارية كبرى، نتج عنها تنوُّع في تذوق الفن والجمال، فكان هذا عاملًا لاستنباط مقوِّماتٍ جديدةٍ تفي بأغراض الخلق والإبداع، بدءًا من تطوير المساكن لتصبح قصورًا للخلفاء بنوها في البادية كحصون أو مقرات للاستجمام في أماكن متاخمة للصحراء؛ ليتحرَّروا من أجواء المدينة المتزمِّتة التي يغلب عليها الجد والتقشف.

وكانت هذه المنتجعات أو القصور تتميَّز بأنَّ البناء فيها لم يقتصر على السكن فقط؛ بل كانت هناك ملحقات تابعة له، فقد أُلحق بالمنزل مسجد وحمام ومخازن وإسطبلات، ضمَّت كلَّ ما يحتاجه المرء ويُقدِّم له الراحة والرفاهية، بما خلقوا في هذه القصور من مظاهر ومستجدات، ومنها حدائق الحيوان.


قصرا الحير الغربي والشرقي

لكن مشكلة البحث حول موضوع حدائق الحيوان أنَّ المنشآت التي تركها الأمويُّون قليلة، وقد تَهَدَّم أكثرها، ولم يبقَ سوى بعض القصور والكتابات التي دلَّت على هذا الموضوع.

ومن اللافت للنظر ويُعزِّز نظريَّة إلحاق حدائق الحيوان بالقصور، طريقة جلب المياه إليها عبر أقنيةٍ صغيرةٍ اصطناعيَّة وأحيانًا تظهر بحيرة اصطناعية، هذه الكميَّة الكبيرة من الماء تُعطي إشارة لوجود وظيفة إضافيَّة لهذا الماء، ولو دقَّقنا في أهمِّ القصور الأمويَّة وهما قصرا الحير الغربي والشرقي، اللذان يُنسبان للخليفة هشام بن عبد الملك (105 – 125هـ = 724 - 7433م)  نجد أنَّه من الاسم قد أُلحق بكلِّ واحدٍ منهما حديقةٌ للحيوان.

ففي العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي اختلف الأثريُّون على ماهية قصر الحير الغربي؛ بسبب المساحة الواسعة والأعمال المائيَّة والقنوات الملحقة به، فذكر الباحث غبريال أنَّها بحيرة اصطناعيَّة، لكن الباحث سيرينغ قال: إنَّها حدائق؛ لأنَّ جدران الحير لا يُمكنها أن تُقاوم ضغط الماء الهائل بهذا الحجم، كما أنَّ انفتاح سطح بحيرة بمساحة 10000 دونم تقريبًا يُساعد على تبخُّر مياهها بسرعة في فصل الصيف، ويُؤكِّد رأيه أنَّها للري، وأنَّ الحدائق الواسعة التابعة للقصر هي حديقة حيوان حسب ما ورد في النصوص القديمة.

وقد اهتمَّ الأمويون بحماية الحيوانات بكافَّة أنواعها؛ فقد أنشئوا ما يُسمَّى بالحير، وهو مكان متَّسع جدًّا ومحصَّن، يُمكن أن يُستعمل في بعض الأوقات كحظيرة تتمركز فيها قوَّة عسكرية ضاربة أو تلجأ إليها في حالةٍ معينة.

ولكن الغالب على هذه الأحيرة أنَّها كانت لغرض حماية كثيرٍ من الحيوانات المعرَّضة للانقراض والضعيفة والجميلة؛ على أنَّ المهندسين في العصر الأموي لم يغفلوا ما يحتاجه الحيوان من رعاية في هذا المكان؛ فوفَّروا فيه الماء والكلأ والظلَّ والحماية، فاستطاعت الحيوانات أن تحيا في الحير كما كانت تعيش في البرية لكن ضمن جدران.

أمَّا الشاعر أبو بكر الصنوبري المتوفي عام (334هـ=945م) الذي اشتُهر بشعر الطبيعة أيام الدولة الحمدانية، وقصائده المليئة بذكر القصور والأمكنة، تكلَّم عن  قصر الحير الشرقي في إحداها، وذكر كلمة "حير الوحشي"، ومن خلال قصيدته يظهر أنَّ غابة هذا القصر داخل القصر نفسه، وكانت ما تزال قائمة حتى ذلك الزمان كحديقةٍ للحيوان.

كما أنَّ ياقوت الحموي (ت 626هـ=1228م) فسر ماهية الحير عندما ذكر عمارة المتوكل على الله له، وأنَّه أنفق حوالي أربعة آلاف ألف درهم على  عماراته، وأنَّه يُشبه الحظيرة أو الحمَّى.

أمَّا عن مسكويه (ت 421هـ=1040م) في كتابه تجارب الأمم، فذكر أنَّ الحرس نهبوا قصر الثريَّا في بغداد عام 315هـ وقتلوا الحيوانات في الحاير.


كلمة الحير أو الحائر المرادفة لحديقة الحيوان

هنا ومن خلال مراجعة النصوص نُلاحظ أنَّ كلمة الحير لفظةٌ عاميَّة فيها اختلاف؛ فقد ضبطها محقِّقوا النصوص التي لدينا بفتح الحاء وسكون الياء، وهذا خطأ؛ فهي مشتقَّةٌ من نفس كلمة الجدار وتعني الاستدارة، وبالفصحى الصحيح لفظها الحائر، فقد طرحت الألف وقلبت الهمزة إلى ما يُقابلها من أحرف العلة، ولكن النطق العامي بها يُشابه ما تقوله العامَّة في تحويل كلمة عائشة إلى "عيشة" باستحسان التخفيف، وهذا النطق العامي لا يُؤخذ به ويتوجَّب همزة الياء في الحاير، ذلك أنَّ النسَّاخ القدامى يُخفِّفون الهمزة إلى حرف العلَّة المقابل لها، ويُمكن مراجعة ذلك في كتاب تاج العروس  وفي كتابات الزبيدي (ت 1205هـ=1790م)، أمَّا معناها فيعود إلى جذرين؛ الأوَّل: حار يحور، فحائرها البستان، أمَّا المعنى الثاني: حار يُحار، وحائرها هو المكان المنخفض الوسط المرتفع الجنبات، الذي تنحبس فيه الوحوش أو تحار تمامًا كالماء.


وصف الحير أو الحائر

وممَّا تقدَّم نستنتج ممَّا يتوجَّب من شروط الحائر لحشر الوحوش، أو ما يتميَّز به من سورٍ مرتفعٍ حصينٍ كي تحفظ الوحوش من الهرب، والمغيرين مع توفُّر أشجار وزرع للرعي والماء الكثير، من هنا نعرف تمامًا أنَّ الحائر كان مكانًا تُحشر فيه أنواعٌ عديدةٌ من الوحوش غير الكاسرة، وداخله أبنية مرتبطة برياضة الصيد، بالإضافة إلى الأبنية الملحقة بالقصر كالمسجد، والحمام محكم الصنعة، أمَّا الماء فالأحواض عبارة عن أقنية تجانب السور العظيم.

وأكَّد هذا اليعقوبي (292هـ=905م) حيث ذكر أنَّ الحائر لا يُمكن بناؤه إلَّا في صحراء حسنة، يُمكن جلب الماء إليه عند الشجر وأمراج الأرض، كما تحدَّث عن الحير الوحشي في سياق حديثه لبناء المعتصم بالله مدينة سامرَّاء، فأورد ذكر شارع الحير، ولم يُفهم من حديثه كيف حشرت الظباء والحمير الوحشيَّة  والأبابل والنعام والأرانب في ذلك المكان، وحوطت بحائطٍ يدور في صحراء حسنة واسعة.


الأمويون سبقوا العالم إلى حديقة الحيوان

بهذا المعنى والتجوال بين المقولات تمَّ تيقُّن الباحثين من أنَّ الحائر استُخدم كحديقةٍ للحيوان، وأنَّها كانت من الأفكار الجديدة التي ابتكرها الأمويون ولم تكن معروفة قبل ذلك العصر، فرضها عليهم جنوح الحيوانات الصحراوية إلى الانقراض بعد أن قلَّت أسرابها وقطعانها، فسعوا لحشرها داخل الحوزة أو الحمى (الحائر).

بهذا لم تكن حدائق الحيوان فكرة أجنبيَّة أو مستوردة؛ بل عربيَّة المنشأ، تمكَّن منشئوها الحصول على الحيوان داخل هذه الحدائق بعد أن تُطارد في الصحراء لتتَّجه نحو أبواب الحير، حيث يدخلونها الحمى ثم تُغلق عليها الأبواب وتبقى محشورةً هناك، تحور أو تُحار لا تعرف أين تذهب، من هنا أُطلق اسم الحائر على هذا المحشر.

على أنَّ المهندسين في العصر الأموي لم يغفلوا ما يحتاجه الحيوان من رعاية في هذا المكان؛ فأعطوه فيه الماء والكلأ والظل والحماية، فاستطاعت الحيوانات أن تحيا في الحير كما كانت تعيش في البرية، لكن ضمن جدران.


قصر الحلابات شرق عمان

لا يقف الأمر عند قصر الحير الغربي والشرقي؛ بل أكثر القصور الأموية كانت تحمل نفس التقسيمات والحدائق والأعمال المائية بالإضافة إلى المسجد والحمام، فقد بُنيت بطريقةٍ متشابهة، فقصر الحلابات شرق عمان أُلحق به حائرٌ لنفس الغرض، يظهر هذا من الأعمال المائية كالبركة القريبة من قاع القصر، وشرقها منطقة مليئة بالأحجار الكبيرة المتقاربة الحجم، لم تكن من المنطقة؛ بل مجلوبة إليها لأجل الحيوانات.


الحير انعكاس لاستقرار الدولة وقوَّتها

وفي الحيران قضى الخلفاء والأمراء أوقاتهم بها، كمراتع لهوٍ يُمارسون فيها رياضة الصيد والسباق، ضمن هذه المنتجعات النائية، التي ارتاحوا فيها بعيدًا عن أعباء الحكم والسياسة.

وهذا كان يلزمه الكثير من التكاليف المادية، لذلك اقتصر بناء الحيران على عهود الخلفاء الأقوياء واستقرار الدولة اقتصاديًّا، فبعد الخلفاء الأمويِّين اقتصر إنشاء الحير في العصر العباسي على هارون الرشيد وأولاده الأمين والمأمون والمعتصم وابنه المتوكل على الله، ولم يستطع من جاء بعدهم من الخلفاء تقليد الأمويِّين، لمحاكاة هذه الحدائق التي تُعتبر من الأمور الخياليَّة التي ابتُدعت آنذاك.


الجمال والفنون في الحير

إنَّ إنجاز حدائق الحيوان يُعتبر إنجازًا حضاريًّا، إنَّما يدلُّ على قوَّة الدولة والمنعة والرفاهية التي عاشتها، وتقدُّم أساليب الهندسة والمعمار وحب الجمال، بل حتى مواضيع الرسوم الجداريَّة والأرضيَّة في القصور احتلَّ الحيوان فيها قسمًا كبيرًا؛ ففي قصر الحير الغربي صورتان كبيرتان ذات شكلٍ دائري، الأولى تُمثِّل امرأةً تمسك بقطعة قماش مليئة بالفواكه طوقت عنقها أفعى، والثانية لثعلبين أحدهما يأكل العنب، وطيرين من نوع الكركي، وكلب يتعقَّب حيوانًا آخر.

وهناك صورةٌ أخرى في نفس القصر مستطيلة الشكل مقسومة للوحتين، أحدها فارس يُطارد الغزلان، كذلك حملت أرضيَّة أحد الغرف صورة عبد حافي يسوق حيوانًا، وعلى نطاقه مفتاح المكان الذي سيُغلق على هذا الحيوان.

أمَّا في قصر خربة المفجر قرب أريحا الذي يُنسب -أيضًا- للخليفة هشام في العهد الأموي صورة أساسيَّة تُزيِّن أرضيَّة الحنية في غرفة الاستقبال، عبارة عن شجرة تفاح أو نارنج وأسد ينقض على غزال هلع، وفي الجهة المقابلة غزالان هادئان يقضمان أوراق النبات.

كذلك الفريسكات في قصر عمرة، حمل أحدها منظر لمطاردة الحيوانات مع احتوائها بشباك لصيدها وسوقها نحو الحير. 

إنَّ ابتداع فكرة حدائق الحيوان تبدو فيها أنَّ أفكار المسلمين العرب طغت عليها الروح الإنسانيَّة التي أولت الحيوان الرعاية وحماية الطبيعة أهميَّةً واضحة، خاصَّةً بطريقة الإنفاق عليها بغزارة، وتكريس الاهتمام والوقت والجهد لمثل هذه الأعمال، على اعتبار أنَّ رعاية الحيوان مطلبٌ إسلاميٌّ أوصى به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

لهذا بدا المسلمون العرب سبَّاقين برعاية الحيوان واختاروه موضوعًا فنيًّا، متذوِّقين لبواطن الجمال فيه كنوعٍ من بدعة الخالق سبحانه في خلقه، فسبقوا جمعيَّات الرعاية والرفق بالحيوان التي يُنفق عليها ملايين الدولارات اليوم من أجل الحيوان والحفاظ عليه.

لكن يبقى الفرق بين هؤلاء المسلمين العرب وسواهم أنَّهم كانوا يرفقون بالإنسان والحيوان معًا.

لكنَّ اليوم لماذا نجد أنَّ المنادين بحقوق الحيوان يسمعهم العالم أكثر ممَّن يُنادون بحقوق الإنسان؟!

وهل الإنسان العربي يحظى بالرعاية التي يوليها الغربيُّون لحيواناتهم؟