"علي النمر".. 60 سنة عشق وشقى حفاظًا على مهنة "النحاس" من الإنقراض

تقارير وحوارات

أقدم صانع نحاس
أقدم صانع نحاس


داخل أحد حواري شارع المعز في منطقة الجمالية يجذب مسامعك صوتاً يكاد يخترق أذنيك من شدته، وما إن تتجه خطوات قدميك نحوه ليلفت نظرك إلى أن هذا الصوت الذي يكاد يوصف بالضجيج صادر من محل مظلم وبه ضوء كاتم يميل للسواد منبعث من داخل حجرة صغيرة يجلس داخلها رجل عجوز على مقعد خشبي يباشر عمال ورشة "النحاس" الخاصة به.



"علي النمر" أقدم حرفيين النحاس في مصر، الرجل الستيني صاحب البشرة الخمرية، والعينان الدقيتين اللاتي اضمحل بصره بهما، والذي يملك من اللباقة قدراً كبيراً فإذا جالسته لدقائق سيروي لك تاريخه المشرف في صناعة النحاس التي جعلت منه علم من أعلام الصناعة وأكبر مشاهيرها حتى ذاع صيته داخل مصر وخارجها.

ويقول "علي النمر": "إن صناعة النحاس من المهن المصرية القديمة التي إنحدرت في الفترة الأخيرة حتي أصبحت مهددة بالإندثار، فبالرغم من كونها  أحسن المهن المصرية، لكن للأسف الشديد ستنقرض الفترة القادمة، بسبب قلة الإقبال عليها على خلفية ارتفاع الأسعار".



وتابع مدققًا النظر في يديه المشققتين: "أنا توارثت المهنة دي عن أجدادي، وبشتغل فيها من صغري بقالي 60 سنة فيها، وبعشقها لدرجة إنها خسرتني كتير، إلا إني مقدرش أسيبها".

على الرغم من الخسائر التي يتعرض لها "النمر" إلا أنه يتمسك باستمرار العمل في ورشته، موضحًا: "لو قفلتها هروح فين أنا مش هقدر أبعد عن النحاس لحد ما أموت، بالرغم من إنه بيخسرني إلا إني راضي بالخسارة بس هفضل اشتغل عشان المهنة متنقرضش".



مخاطر كثيرة من الممكن أن يتعرض لها صانعي النحاس أثناء مزاولة عملهم، ليؤكد النمر على أن الشرط الأساسي للعمل بالمهنة هو "الصحصحة، ليكون العامل مستنبهًا وحتى لا يتعرض للمخاطر والإصابة أثناء عمله.

وأوضح "النمر": "مثلاً لو هنعمل كنكة، بنبتدي من إننا بنجيب النحاس، وبعدين نشكله على التأويرة المدورة، وبعدها ناخدها ماكينة المحرقة لتطرية النحاس، ثم نضعها في مياه نار مخففة حتى تلمع ثم نقوم بتلميعها بالقصدير، أو فرش التلميع، وبعدها تكون جاهزة للبيع".



حقق علي النمر الكثير من الإنجازات في صناعته، لافتًا إلى أن أبرزها كان صناعة "كأس الحديقة الدولية"، بالإضافة إلى العديد من الكؤوس ‏التي تمنح كجوائز إلى اللاعبين والرياضيين، فضلًا عن "طبق الأمم الأفريفية" التي كانت تستضيفها مصر في عهد الرئيس أنور السادات، مشيرًا إلى أن تلك الكؤوس كانت تطلى بعد صناعتها بالذهب.

وتأثرت مهنة صناعة النحاس بالكثير من المخاطر التي هددتها بالإنقراض بسبب إرتفاع الأسعار، فيشبه "النمر" سعر النحاس في الوقت الحالي بسعر الذهب، مشيرًا إلى أن سعر الكيلو وصل إلى 135 جنيه، بعد أن كان بـ75 جنيه قبل الثورة، مرجعًا السبب وراء هذا الارتفاع على عدم وجود مصانع للنحاس في مصر بعد إغلاقها  في عهد الرئيس حسني  مبارك، حيث كان يوجد مصنعين في عهده (المصنع الحربي، ومصنع شيفل)، ولكنهما أغلقا وبعدها بدأت مأساة صانعي النحاس مع الاستيراد.


وأكد "النمر" أن النحاس المصري أقوى من المستورد، مشيرًا إلى أن أزهى عصور الصناعة كانت في عهد الرئيس عبد الناصر، وفي أواخر عهد السادات مروراً بمبارك وثورتي يناير وينونيو، مشددًا على أن الصناعة باتت تشهد حالة من الإنحدار قد تؤدي إلى إندثارها.

واسترجع الماضي قائلًا: "تعتبر روسيا من أكثر الدول وقوفاً بجانب مصر، فعندما كان يعاني إقتصادنا في عهد الرئيس الراحل السادات،  كانت الحكومة الروسية تبعث بمناديبها لنا لشراء النحاس رغم عدم إحتياجهم له، فالعديد من المناديب تعاملوا معي وقتها وقاموا بشراء كميات كثيرة من (جرادل الشامبانيا، والأباچورات) المصنوعين من النحاس".



وعن إقبال المواطنين على شراء النحاس في الوقت الحالي، يقول: "دلوقتي عشان مفيش سياحة المهنة منقرضة، وأكثر منتج مطلوب الفترة دي من النحاس هي منتجات المقاهي وهم (الكنك، السبرتايات، الشيش".

وفي نهاية حديثه قال النمر: "أتمنى أن تحل أزمات الاقتصاد وحال الدولة حتى تعود حركة السياحة وتعود صناعة النحاس كسابق عهدها، فالنحاس من أقدم المهن المصرية التي يجب المحافظة عليها، حتى نحافظ على تراث مصر القديمة العريقة".