تفسير الشعراوي للآية 249 من سورة البقرة

إسلاميات

الشيخ الشعراوي -
الشيخ الشعراوي - أرشيفية


{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}.

الفصل هو أن تعزل شيئا عن شيء آخر، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94].

{فَصَلَتِ العير} أي غادرت مصر وخرجت منه. ونحن نستخدم كلمة (فصل) في تبويب الكتب، ونقصد به قدراً من المعلومات المترابطة التي تكون وحدة واحدة، وعندما تنضم الفصول مع بعضها في الكتب تصير أبواباً، وعندما تنظم الأبواب الموضوعة في مجال علم واحد مع بعضها نقول عنها: هذا (كتاب).

ونحن نستخدم كلمة (فصل) في وصف مجموعة من التلاميذ المتقاربين في العمر والمستوى الدراسي ونقسمهم إلى فصل أول وثانٍ وثالث، على حسب سعة الفصول وعدد التلاميذ. وهكذا نفهم معنى قول الحق: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي فصلهم عن بقية غير المقاتلين، وقسمهم إلى جماعات مرتبة، وكل جماعة لها مهمة.

وكلمة (جنود) هي جمع (جند) وهي مفردة لكنها تدل على جماعة، وأصل الكلمة من (جَنَد) وهي الأرض الغليظة الصلبة القوية، ونظرا لأن الجنود مفروض فيهم الغلظة والقوة فقد أُطلق عليهم لفظ: جُنْد. وبرغم أن كلمة (جند) مفرد؛ إلا أنها تدل على القوم مثل (رهط) و(طائفة) ويسمونها اسم جمع. {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} أي عندما خرج إلى مكان إقامة الجيش بدأ في مباشرة أولى مهماته كملك، لقد أراد أن يختبرهم، فهم قوم وقفوا ضد تعيينه ملكاً، لذلك أراد أن يدخل الحكم على أرض صلبة. فقال لهم عن الحق: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}.

لقد أوضح لهم: أنتم مقبلون على مهمة لله في سبيل الله، وهو سبحانه الذي سيجري عليكم الاختبار، ولست أنا لأن الاختبار يكون على قدر المهمة؛ أنا مشرف فقط على تنفيذ الأمر، والله مبتليكم بنهر من يشرب منه فليس منا إلا من اغترف غرفة بيده.

وساعة تسمع كلمة {مُبْتَلِيكُمْ} فلا تفسرها على أنها مصيبة، ولكن فسرها على أنها اختبار، قد ينجح من يدخل وقد يفشل. والاختبار هنا بنهر. ومادام كان الاختبار بنهر فلابد أن لهذه الكلمة موقعاً وأثراً نفسيا عندهم، لابد أنهم كانوا عِطاشاً، وإلا لو لم يكونوا عطاشاً لما كان النهر ابتلاء. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}.
إنهم عطاش، وساعة يُرى الماء فسيقبلون عليه بنهم شرباً ورياً، ومع ذلك يختبر الحق صلابتهم فيطالبهم بأن يمتنعوا عن الشرب منه، لقد جاء الاختبار في منعهم مما تصبو إليه نفوسهم.

{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} لماذا؟

لأنهم ساعة يرون ما يحبونه ويشتهونه فسيندفعون إليه وينسون أمر الله. ومن ينس أمر الله ويفضل نفسه، فهو غير مأمون أن يكون في جند الله. لكن الذي يرى الماء ويمتنع عنه وهو في حاجة إليه، فهو صابر قادر على نفسه، وسيكون من جند الله، لأنه آثر مطلوب الله على مطلوب بطنه، وهو أهل لأن يُبتلى.

ومع ذلك لم يَقْسُ الله في الابتلاء، فأباح ما يفك العطش ولم يحرمهم منه نهائياً. {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} لقد سمح لهم بغرفة يد تسد الرمق وتستبقي الحياة، أباح لهم ما تقتضيه الضرورة. لكن ما صلة هذا الابتلاء بالعملية التي سيقبلون عليها؟

إن العملية الحربية التي سيدخلونها سيقابلون فيها الويل وسيعرضون لنفاذ الزاد وهم أيضا عرضة لأن يحاصرهم عدوهم، وعلى الإنسان المقاتل في مثل هذه الأمور أن يقوى على شهوته ويأخذ من زاده ومائه على قدر ضرورة استبقاء الحياة، لذلك تكفي غرفة واحدة لاستبقاء الحياة. كأن التدريب هنا ضرورة للمهمة. فهل فعلوا ذلك؟
يأتينا الخبر من الحق {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ}. وهكذا تتم التصفية، ففي البداية سبق لهم أن تولوا وأعرضوا عن القتال إلا قليلا، وهنا امتنع عن الشرب قليل من القليل، وهذه غرابيل الاصطفاء أو مصافي الاختبار، فقد يقوى واحد على نصف المشقة، ويقوى آخر على ثلث المشقة، ويقوى ثالث على ربعها. لقد بقي منهم القليل، لكنه القليل الذي يصلح للمهمة؛ إنّه الذي ظل على الإيمان.

وانظر كيف تكون مصافي الابتلاء في الجهاد في سبيل الله؟ حتى لا يحمل راية الجهاد إلا المأمون عليها الذي يعرف حقها. {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي عندما عبروا النهر واجتازوا كل الاختبارات السابقة قال بعضهم: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد خاف بعض منهم من الاختبار الأخير، ولكن الذين آمنوا بالله لم يخافوا، ويقول الحق: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}.

لقد اختلفت المواجيد وإن اتحدت المرائي. فالذين جاوزوا النهر انقسموا قسمين، قسم رأى جالوت وجنوده، والقسم الآخر رأوه أيضا، ولم ينقسموا عند الرؤية لكنهم انقسموا عند المواجيد التابعة للرؤية، فقسم خاف وقسم لم يخف، والذين خافوا قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} لقد وجد الخوف من جالوت وجنوده في نفوسهم فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، لقد مروا بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: هي إدراك لجالوت وجنوده، والثانية: هي وجدان متوجس من قوة جالوت وجنوده، والأخيرة: هي نزوع إلى الخوف من جالوت وجنوده، لكن القسم الذي لم يخف رأوا المشهد أيضا وجاء فيهم قول الله: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}.

كأنهم أدخلوا ربهم في حسابهم فاستهانوا بعدوهم، لكن الفئة السابقة عزلت نفسها عن ربها فرأوا أنفسهم قلة فخافوا. لقد كان مجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقو الله قد جعل لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}. ونعرف أن هناك معارك يفوز فيها الأقدر على الصبر، ودليلنا على ذلك قول الحق: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124].

هذا هو الوعد لكن إذا صبرتم كم يكون المدد؟ يقول الحق: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].

فكأن البدء بثلاثة آلاف لمساندة أهل الإيمان ويزيد العدد في المدد إلى خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. إذن فالمدد يأتي على قدر الصبر؛ لأن حنان القدرة الإلهية عليك يزداد ساعة يجدك تتحمل المشقة فيحن عليك ويعطيك جزءا أكبر. فالله يريد من عبده أن يستنفد أسباب قوته الخاصة، وحين تستنفد الأسباب برجولة وثبات، تأتيك معونة الله، ويقول الله لملائكته: هذا يستحق أن يعان فأعينوه. ولذلك جاء قوله الحق على ألسنة المؤمنين: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين}. ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً}.