شيماء أحمد تكتب: فلسطين عربية لأجل عيونك يا صديقتي

مقالات الرأي

بوابة الفجر


منذ نعومة أظافري وأنا أسمع من حولي يتحدثون عن بلدة عربية تُسمى "فلسطين" ولكنهم يتبعونها دائماً بكلمة المحتلة "فلسطين المحتلة"، لم أفهم حينها ما معنى الاحتلال وكيف أناسُ يغتصبون أرضاً ويطردون شعباً، وما هو حال هذا الشعب الآن؟ وكيف يقف الجميع ليشاهد ما يحدث في صمت؟ وإذا كانت فلسطين عربية لماذا أسمع دائماً جملة "الفلسطينيون خونة وغدارون باعوا أراضيهم ويأتون الآن ليطالبون بها"؟ هذه الجملة ظلت تتردد على مسامعي حتى كبرت، فإذا كانوا باعوها بالفعل فلماذا يطالبون بها الآن ولماذا يقولون أنها أرض عربية مغتصبة.

 

وسط كل هذا الزخم لم أجد ما يجيب على تساؤلاتي إلا مكتبة والدي، المكتبة التي تحوي بين رفوفها كتباً تشتم فيها رائحة التاريخ وتنهل منها العلم والمعرفة، في الحقيقة أنني ورثت عادة القراءة والإطلاع من والدي الدرعمي الذي دائماً ماكان يصحبني لشراء الكتب ولم يعترض يوماً على شرائي للكتب التي تتحدث عن القضية الفلسطينية، هذه الكتب فهمت منها أغلب التعقيدات الخاصة بالقضية والباقي جاء بالبحث على الإنترنت والحديث مع الأصدقاء.

 

ولكن بقيت الجملة المشئومة أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم، لم يكن لدي اقتناع داخلي بها إيماني بالقضية كان أقوى من أي شئ، ولكن لماذا دائماً يرددونها لماذا يُصر من حولي حتى أغلب أفراد عائلتي بأنهم أسوأ الشعوب العربية وأنهم غدارون باعوا أراضيهم وأصبحوا أغنياء ويدعون الفقر والمعاناة لكسب التعاطف على حساب القضية.

 

منذ عامين قابلت صديقتي "ميرنا" الصحفية بإحدى الجرائد المصرية، تلك الفتاة الفلسطينية التي يتحدث الجميع عن كفاءتها في العمل وثقافتها الشديدة وأسلوبها في الكتابة الذي يحمل بين طياته لألئ تشع نوراً من كثرة حلاوته، وعلى الرغم من أننا نتنافس في العمل إلا أنني لم أشعر بالغيرة يوماً نحوها وسرعان ما أصبحنا أصدقاء وتوطدت بيننا العلاقة لدرجة أن الجميع أطلق علينا "التوأم الملتصق".

 

بحثت فيها عن الغدر والخيانة فلم أجد فيها غير الصدق في حب الوطن، رأيت فلسطين بعيون "ميرنا" التي لم تراها أبداً كونها لاجئة منذ ولادتها، عشت بين جنين وبيسان والناصرة ونابلس، تنقلت بين أزقة بلدة القدس القديمة، صليت في الأقصى وأشعلت الشموع في القيامة، أحببت لهجة أهل الخليل وخفة ظلهم، عشقت غزة أرض المقاومة والمجد والعزة، تعلق قلبي ببحرها وتنفست هوائها  فنسيت همومي كلها، عشت بين مخيمات اللاجئين رأيت المعاناة، شاهدت الكبار والصغار الرجال والنساء والعجائز يقاومون رغم الحصار، كل هذا رأيته بعيون صديقتي التي كانت ولا تزال تحلم برؤية وطنها.

 

قالوا عن الفلسطينيين أنهم بخلاء ولكني لم أجد أكرم من صديقتي، قالوا عنهم غدارين والخيانة في نفوسهم طبع أصيل ولكن لم أجد أصدق من صديقتي حباً ودفاعاً عن وطنها، لم تكل ولم تتعب يوماً رغم كل الإهانات والمذلة والاتهامات التي تتعرض لها بسبب هويتها، وقالوا أنهم لا يصادقون أحد إلا لمصلحتهم ولكن لم أجد في نفسي مايستحق لمصادقتي غير الحب المتأصل في نفوسنا نحن الإثنتين.

 

لم أجد يوماً أحداً حريصاً على عملي وطموحي ونجاحي مثلها، وعلى الرغم من تنافسنا إلا أنها دائماً تدفعني للأمام، تحثني على الاجتهاد في العمل، شجعتني على العودة للقراءة بعدما توقفت لأعوام، ليس صديقتي فقط هي من تحمل هذه الصفات الطيبة فمعظم الفلسطينيين الذي قابلتهم لم أجد فيهم غير المودة والمحبة والعلاقة الطيبة رغم أنه لاتربطنا أي مصلحة مشتركة، كلامي ليس معناه أنهم ملائكة مُنزلين ولكن كل شعب فيه الصالح والطالح مثل كل شعوبنا ولكني أرفض التعميم، تعميم أنهم باعوا أراضيهم، هذه الجملة التي يتوارثها الأجيال، الجملة التي بسببها سيضيع الحق ويتناسى الأجيال القادمة حق العرب في أرض فلسطين.

 

بحثت كثيراً لأعلم أصل البيع وكيف حدثت عملية التهجير، كيف سلم الانتداب البريطاني أرض فلسطين للمستوطنين اليهود جاهزة، كيف وضعوا أيديهم على الأرض المشاع واغتصبوها دون وجه حق، كيف عانى أهلنا في الأراضي المحتلة وفي الشتات من عذاب الاحتلال والحصار وتضييق الخناق ومن كلمة لاجئ التي أصبحت رمزاً لهويته؟

 

ورغم كل هذه الإجابات إلا أن الجملة أصبحت أنني أدافع عن فلسطين لأنها موطن صديقتي، ومللت من الكلام أنني أدافع لأجل القضية نفسها، لأجل شعب حيرني منذ سنين، يقاوم ويعاني ورُغم هذا يأكل ويشرب ويتزوج وينجب أطفالاً من رحم المقاومة، أطفالاً يحملون الحجارة ويقذفونها بدلاً من الألعاب، يستمعون للموسيقى والغناء ويشاهدون المباريات، يتعلمون ويتثقفون.

 

هذا الشعب الذي يعاشر اليهود من أكثر شعوب العرب حفاظاً على اللغة العربية وحفظةً للقرآن الكريم، من أكثر شعوب العرب ثقافةً وعلماً، فكيف لبلدة تحتضن الأقصى والقيامة أن يكون شعبها غدار، وكيف لبلدة سارت عليها أقدام أنبياء الله أن توصف بالخيانة.

 

وإذا كان الجميع يرفض أن يستمع لكل هذه الأدلة، وإذا كان الجميع يتهمني بأنني أدافع فقط لأجل صديقتي، إذا كانت هذه حجتكم لتبرير دفاعي عن القضية التي أصبحت محوراً ندور حولها ولا نخوضها فنعم أدافع من أجلها.

 

لأجل كل ما مررنا به سوياً ولم تخذليني يوماً

لأجل دموعك عندما تشتاقين لرؤية بلدتك

لأجل وقفتك على معبر رفح لتشتمي نسيم هواء وطنك

لأجل جدتك التي عشقت حكاياتها عن فلسطين وحفظت أغاني الأعراس والمهاهاة لأجلها رُغم أني لم أراها إلا على فراش الموت

لأجل كل ما مررتي به من إهانة وذل واتهامات فقط لكونك لاجئة شريدة مجبرة على العيش بعيداً عن موطنك

لأجلك فقط أكتب: "فلسطين عربية لأجل عيونك ياصديقتي"...