د نصار عبدالله يكتب: جاوزت السبعين شتاء!

مقالات الرأي



أحسب عمرى بالشتاءات، ربما لأننى ولدت فى الشتاء، ومن الطبيعى أن يكون الاحتفال بهذه المناسبة «إذا ما حدث» فى الشتاء أيضا!!، .. ما بين 24ديسمبر 1945، و24 ديسمبر 2015 تعاقبت على شتاءات كثيرة بعضها كان شديد القسوة، لا بمعايير درجات الحرارة المنخفضة، ولا بصقيعها المادى، ولكن بصقيعها النفسى، كلما حل شتاء غاب فيه واحد من الأحباء أو الأصدقاء الحميمين «الذين هم بطبيعتهم قليلون أصلا!!».. من أقسى هذه الشتاءات كان عام1981الذى رحل فيه أستاذى وصديقى الشاعر والمثقف الكبير صلاح عبدالصبور، وعام 1982 الذى رحل فيه شقيقى الجراح العبقرى الدكتورعبدالحق نصار الذى كان من أحب أشقائى إلى نفسى، ثم عام 1995الذى رحلت فيه والدتى رحمها الله وأثابها عما كل ما بذلت خيرا، ثم شتاء 1997الذى رحل فيه أعز من كان لى من الأصدقاء على مدى عمرى كله وأعنى به عالم الآثار الإسلامية وعاشق الفن والثقافة الدكتور محمد السيد غيطاس رحمه الله رحمة واسعة، ثم عام 2007الذى رحل فيه الصديق العزيز الناقد الكبير عزالدين إسماعيل.. ثم عام 2011 الذى فقدت فيه ستة من الأصدقاء دفعة واحدة، كان أشدهم إيجاعا على نفسى رحيل خيرى شلبى، وقد اتصلت بى منذ أيام الحاجة أم زين زوجته وأم أولاده كما كان يفعل خيرى فى مثل هذه الأيام لكى تشعرنى بأنه ما زال باقيا وأنه ما زال حريصا على أن يوجه التحية إلى أصدقائه الذين تعلم هى بحكم طول عشرتها معه كم كانوا حميمين وقريبين منه، فكانت لمسة كريمة طيبة منها أطال الله عمرها وبارك لها فى أبنائها الذين تشرف بهم أى أم مصرية، وفى عام 2015 افقدت جمال الغيطانى وعبدالرحمن الأبنودى وقد كانا كلاهما حتى آخر لحظة فى حياتهما مؤنسين دائمين لى وأنا مقيم بشكل دائم فى سوهاج خاصة عبدالرحمن الذى لم يكن يمضى يوم دون مكالمة تليفونية طويلة بيننا، ثم كان الفقد الثالث الموجع وربما الأكثر إيجاعا هو فقد محمد إبراهيم منصور الذى كان فقدا صادما لى تماما، إذ أنه كان قد اتصل بى قبل رحيله بيومين فقط يسألنى عن صحة بيت من الشعر العربى، وقد كان رحمه الله وهو أستاذ الاقتصاد المتميز فى كلية التجارة جامعة أسيوط، ومؤسس مركز دراسات المستقبل بها.. كان رغم ذلك عاشقا لقراءة الشعر العربى الكلاسيكى بشكل خاص، وكان متمكنا شديد التمكن من اللغة العربية ممتلكا لناصيتها على نحو لم أعهده فى أستاذ آخر للاقتصاد «باستثناء رفعت المجوب رحمه الله وجلال أمين أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية».. صدمنى الخبر الذى عرفته من خلال مقال قرأته للأستاذ علاء الغطريفى فى المصرى اليوم بعنوان «ورحل إبراهيم منصور» .. قرأته وأنا مشدوه لا أكاد أصدق، ثم استجمعت شجاعتى واتصلت بأبنائه وقدمت لهم العزاء الحار، مؤكدا لهم أنى مثلهم تماما مستوجب للعزاء لأنى فقدت بفقده صديقا لا يعوض. فى هذا العام وفى يوم 24 ديسمبر أكملت السبعين شتاء، وقد روت لى والدتى رحمها الله أن التاريخ المكتوب فى شهادة ميلادى هو يوم ولادتى بالفعل لم يتأخر تسجيله يوما أو أياما أو شهور كما يحدث عادة فى الصعيد، والسبب هو خلاف نشب بين جدى لوالدى وجدتى لوالدتى حول تسميتى، ورغم أن الجدين شقيقان (كان والدى رحمه الله متزوجا من ابنة عمته) فقد استعر الخلاف بينهما: جدى «عبدالله» يريد أن يسمينى عبدالله بحجة أن هذا الاسم هو اسم جدهما المشترك، فقد كان اسمه عبدالله نصار عبدالله، أما جدتى : «نجية نصار عبدالله» فقد كانت تريد تسميتى «نصار» بحجة أن هذا هو اسم أبيهما الذى كان يحبها ويدللها كثيرا، ...ظل أبى صامتا يتابع النزاع المستعر حول الاسم الذى لم يستشره فى شأنه أحد، ثم أعلن فى النهاية أنه سوف يتوجه غدا إلى مكتب المواليد ليسمينى: «بطرس» لأنه يحب هذا الاسم كثيرا !!.. عندئذ هرعت جدتى إلى مكتب المواليد فى نفس اليوم وقامت بتسميتى نصار لكى تضع الجميع فى الأمر الواقع.. وهو ما حدث بالفعل!.. فى عيد ميلادى الخمسين كتبت قائلا: كان الليل يطارد طفلا يرعبه الليل..، وكان الطفل التائة يركض كى لا يدركه الليل،//الريح تحاصره والمطر الهاطل والتيه// وعيون الناس المجهوله حين تحدق فيه// ومازال الطفل التائه يبحث عن بيت ابيه وعن صدر أبيه، ومازال التيه هو التيه // جاوزت الخمسين شتاء من عمرى، لكنى ما زلت الطفل العريان المبتل، الراكض رعبا كى لا يدركه الليل، هأنذا فى عيد ميلادى السبعين أتذكر هذه القصيدة التى مازلت صالحة لأن أرددها رغم أن الخمسين قد أصبحت سبعين، أردد إلى جانبها بعد أن رحلت كل تلك الوجوه التى كانت حبيبة إلى نفسى أبيات صلاح عبدالصبور: ينبئنى شتاء هذا العام / أنى أموت وحدى / ذات شتاء مثله ذات شتاء.