عادل حمودة يكتب: أنا ومرشد الرئيس

مقالات الرأي



■ كنت أول من قدمته إلى الناس وأول من شهد تخلص شلة جمال مبارك منه 

■ رفض عرضًا من جامعة بوسطن لكتابة مذكراته مقابل 60 ألف دولار شهريا وبيت مريح لمدة عشر سنوات 

■ قال لى: إنه لن يكتب مذكراته وسيكتفى بكتيبات دراسية لطلاب المعهد الدبلوماسى

لم يكتب أسامة الباز مذكراته.. ولم يفكر فى كتابتها.. ولم يتحدث عن ذكرياته.. ولم يفكر فى البوح بها.

كان كتوما إلى حد النسيان.. وكأن ما شهد لم يحدث.. وما عرف لم يكن.. وما عاش لم يولد.

ويمكن وصفه بالمناور.. أو المراوغ.. فقد كان قادرًا على الحديث ساعات طوالاً دون أن يصل بمستمعيه إلى بر الأمان.. فلا هو كشف سرًا.. ولا هم حققوا إشباعًا.

«يأخذك إلى البحر ويعيدك عطشانا».

طالبه أنيس منصور بالكشف عما فى بطن القضية الفلسطينية التى يعرف عن خباياها مئات الصفحات.. لكنه.. صمت.

ووضع إبراهيم سعدة مسئولية رواية ما جرى فى مفاوضات « كامب ديفيد» قبل إقرار معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل فى عنقه.. لكنه.. صمت.

وكرر سليمان جودة المحاولة أكثر من مرة.. لكنه.. وجد نفسه أمام نفس حائط الصد الصلد.

وسبق أن عرض عليه البروفيسور روجر شيفر عندما كان مديرًا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى جامعة بوسطن ستين ألف دولار شهريا وبيتًا مريحًا وعددًا من الباحثين المساعدين لكتابة مذكراته السياسية.. ولو ظل يكتبها عشر سنوات.. لكنه.. رفض.

وعندما وهنت ذاكرته وبدأت تخذله سألته بكلمات واضحة صريحة عن مذكراته فأجاب بنفس الكلمات الواضحة والصريحة: «لن أكتب مذكرات سياسية ولا شخصية».. واستطرد: «وأقصى ما سأفعل إعداد كتيبات أو مذكرات مهنية لتدريب الدبلوماسيين الجدد».. بغرض نقل خبراته وتجاربه «دون التطرق إلى وقائع أو أحداث أو شخصيات بعينها».

ونشرت ما قال فى «الفجر» ونقله عنى هانى خلاف فى كتابه عنه.. وهانى خلاف كان «دفعتى» فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. واصل مشواره الدبلوماسى حتى أصبح مساعدا لوزير الخارجية.. وهو أيضا زوج صفاء، صغرى شقيقات أسامة الباز.

وفور رحيله فتش ابن أسامة الباز الوحيد «باسل» وشقيقه فاروق، مكتبه ومكتبته فلم يجد ورقة واحدة توصف بالمذكرات.

وفاروق الباز الشقيق الثالث فى قائمة أشقاء وشقيقات أسامة الباز الثمانية.. وكان الأقرب إليه فى سنواته الأخيرة.

ويشهد هانى خلاف فى كتابه عن أسامة الباز بأنى «أكثر الصحفيين متابعة» لحياته وشخصه.. دون أن يضيف: «وواحد من أقرب الأصدقاء إليه».. أتيح له أن يشهد ويعرف عنه ما لم يتح لغيره.. وهناك وقائع وشهود على ذلك.

كنت أول من اكتشفته وكتبت عنه فى «روزاليوسف» عام 1971 حين تغيرت قيادات أمانة منظمة الشباب الاشتراكى وعين أسامة الباز مسئولا عن العلاقات الخارجية.. وهو نفسه اعترف بأننى أول من حاوره صحفيا.

عرفته وتقربت منه وتنبأت بما سيصل إليه قبل غيرى.

وفى كواليس حياته الشخصية والعاطفية أسرار وحكايات يعرفها أصدقاء مقربون منه، غالبيتهم ليسوا فى مجاله السياسى والدبلوماسى، لعلى واحد منهم.

وكان مبارك يعرف صداقتنا المتينة.. ويعرف أننى لا أرد له طلبا.. فكان واسطة التفاهم الرسمية بينى وبينه.. إذا كانت لمبارك ملاحظات سلبية عما تنشر «روزاليوسف» التى توليت مسئولية تحريرها من فبراير 1992 إلى إبريل 1998 طلب من أسامة الباز - وكان مستشاره السياسى - أن يتدخل فى هدوء ودون صخب.

كانت هذه طريقة مبارك فى توصيل الرسائل.. وسطاء يثق فيهما الطرفان.. فبعد أسامة الباز تولى نفس المهمة بينى وبين الرئيس سكرتيره الخاص أبوالوفا رشوان.. وقبل ذلك كان مصطفى الفقى وقت أن كان سكرتير الرئيس للمعلومات.

لكن.. بحكم السنوات الطوال التى قضاها أسامة الباز فى الرئاسة كانت الأحداث والوقائع التى تدخَّل فيها أصعب وأخطر وأشد.

أولى تلك الوقائع تتعلق بوزير الداخلية الأسبق اللواء حسن الألفى.

عين الألفى وزيرا للداخلية «من 18 إبريل 1993 إلى 18 نوفمبر 1977» خلفا للواء عبد الحليم موسى «يناير 1990 إلى إبريل 1993» الذى كنا فى «روزاليوسف» سببا فى الإطاحة به بعد أن كشفنا مبادرة الصلح بينه وبين التنظيمات الإرهابية التى قام بها الشيخان متولى الشعراوى ومحمد الغزالى، وتقضى بإيقاف العنف مقابل تغييرات فى الإعلام والتعليم.. ووصلت المبادرة إلى أقصاها بإخراج عبود الزمر من السجن ليلتقى وزير الداخلية فى شقة خاصة للتفاهم.

نشرت ««روزاليوسف»» ما عرفت عن المبادرة وهاجمتها بضراوة مؤكدًا أن الذين تصدوا للإرهاب بصدورهم العارية هم أول ضحاياه.. وفى اليوم التالى صرح رئيس الحكومة الدكتور عاطف صدقى بأن ما نشرته «روزاليوسف» غير صحيح.. لكن.. بعد أن أكد مدير المخابرات العامة عمر سليمان صحة ما نشرنا أجبر موسى على الاستقالة.

استقبلنا الألفى بترحاب واستقبله الإرهاب بالرصاص أمام قاعة إيورت التذكارية «الجامعة الأمريكية» وهو فى طريقه إلى مكتبه، وليلتها كنت أجلس فى مكان الحادث أنا وعادل إمام وسمعت منه تفاصيل مسرحيته الجديدة «الزعيم» التى كان يجرى بروفاتها على خشبة المسرح القريب.

نجا الألفى بمعجزة.. ونجح بمساعدة مدير مباحث أمن الدولة اللواء أحمد العادلى فى انحسار موجات الإرهاب.. لكن.. سيطرة مساعديه الذين وصفوا بعصابة الأربعة - وعلى رأسهم مسئول العلاقات العامة رؤوف المناوى - عليه أصابته بالغرور، فتخلص من أحمد العادلى بعد ادعائه بأنه يسجل مكالمات علاء وجمال مبارك.. ولم يكن ذلك صحيحا.. وبدأ يعيش حياة خاصة ممتعة مهملا عمله ووظيفته.. فكسب الإرهاب أرضا جديدة.. ووقعت أحداث هائلة فى فندق سميراميس والمتحف المصرى وفندق أوروبا بالهرم.. وكل ما كسبناه فى سنوات خسرناه فى أسابيع.

هنا.. فتحت ««روزاليوسف» »بجرأة لم تحدث من قبل النار على الألفى.. وطالبت بإقالته.. وتعجب محمد حسنين هيكل قائلا: «المجنون وحده هو من يهاجم وزير داخلية فى الخدمة».. «إنهم يملكون من وسائل التلفيق والأذى ما لا يخطر على بالك».. وأعترف بأن ذلك ما حدث.. فقد وضعت تليفوناتنا تحت المراقبة.. وجند رؤوف المناوى صحفيين وشعراء وسياسيين للتشهير بنا.. وعلى ولائم الجمبرى والإستاكوزا فى مطعم أسماك عند دوران شبرا وضعت المؤامرات ووزعت التكليفات ضدنا.. ولا أريد أن أحرج أحدا بنشر الأسماء.. فقد أصبحوا نجوما سمانًا بأكل لحمنا.. ولو كان فيهم شخص شجاع لخرج معتذرا لنا.

هنا.. وجدت أسامة الباز فى مكتبى.

كانت إجازة عيد الأضحى على وشك أن تبدأ بما يفرض علينا تجهيز عدد من المجلة مبكرا عن موعده بأيام عندما وجدته دون موعد أمامى.

قال لى: «الرئيس يبلغك: رسالتك عن وزير الداخلية وصلت.. ولكن الوقت غير مناسب لإقالته.. كف عن النشر قبل أن يتهور ضابط شرطة ويعتدى عليك كما حدث مع جمال بدوى «رئيس تحرير الوفد» فلن يقبل بأن يمسك أحد ولو قطعنا رقبته فيما بعد».

«كان جمال بدوى قد ضرب وهو عائد إلى بيته إثر نشر مقال بعنوان «أصابت امرأة وأخطأ الرئيس تعليقا عن وصف مبارك الصحفيين المصريين بالابتزاز فى لقاء مع وفد نسائى كويتى بعد محاولة اغتياله فى أديس أبابا يونيو 1995.. وطلب منى وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف لأول وآخر مرة أن أرد عليه.. لكننى.. رفضت مبديا إعجابى بالمقال وبراعة الكاتب».

قلت: أنت ابن حلال يا دكتور.. جئت على غفلة.. لقد طبعنا العدد الجديد من «روزاليوسف».. ولا حيلة لنا فى تغييره.. ليس فقط بسبب تكلفة طباعة 120 ألف نسخة.. وإنما لغياب المحررين فى إجازات أيضا.

قال: نترك العدد يأخذ طريقه إلى القارئ ولنوقف الحملة على الوزير من العدد القادم.. هذه سياسة عليا فى وقت حرج أمنيا.. لا صلة له بحرية الرأى.

وسكت.. دون تعليق.

وبعد عشرة أيام تلقيت منه اتصالا تليفونيا يسألنى:

- هل دعيت لعشاء الرئيس السنغالى عبده ضيوف فى الرئاسة الليلة؟

- كلا، لست مدعوًا.

- أنا بصفتى مستشارًا سياسيًا للرئيس أدعوك على العشاء.

- قل لى يا دكتور إيه الحكاية.

- سنلتقى قبل موعد العشاء بساعة.. لا مفر من حضورك.. هذه تعليمات الرئيس.

فى الرئاسة سمعت منه: الرئيس كان يريد أن يراك لكنه تلقى مكالمة تليفونية من الرئيس الأمريكى بيل كلينتون فرضت عليه مشاغل أخرى قبل العشاء.. لكنه.. يكرر حرصًا عليك ألا تهاجم من جديد وزير الداخلية.

بعد أسابيع كان اللقاء السنوى الذى يعقده الرئيس مع المثقفين بمناسبة معرض الكتاب.. وعقد اللقاء هذه المرة فى إحدى قاعات مكتبة مبارك العامة بحى الزمالك.. وقبل نهاية اللقاء.. طلب الرئيس إغلاق الكاميرات فما سيقوله يحظر نشره.. وفجأة سأل عنى محذرا من النشر وأضاف مازحا: «وإلا سأرسل إليك خمسة يضربونك».. وضحك الحضور دون أن يفهموا خلفية العبارة.. لكننى.. خشيت أن تفهم خطأ من وزير الداخلية ورجاله فى القاعة ويعتبرونها أمرًا بضربى فكتبت ورقة للرئيس أعبر فيها عن مخاوفى.. وأرسلتها إليه.. فعلق عليها قائلا: «محدش يقدر يضربك».

وبعد هدنة استمرت شهورا.. بدأت حرب أهلية خفية داخل السلطة.. رئيس الحكومة كمال الجنزورى بدأ فى التحريض على عدد من الوزراء غير التابعين له.. مثل وزراء الإسكان والتعليم والصحة والداخلية.. وبدأ فى تسريب أخبار ومستندات ضدهم.. نشرتها صحيفة «الشعب» وكان رئيس تحريرها عادل حسين.

وفى المقابل أطلق مستشارو الألفى قنبلة دخان كثيفة للتغطية على ما يجرى له.. فدبرت قضية آداب اتهمت فيها حنان ترك ووفاء عامر.. وبدا من ملابسات القضية أنها أعدت على عجل ودون إتقان فكانت الثغرات فيها واضحة لأقل الصحفيين خبرة.. فكتبت مقالاً افتتاحيًا فى ««روزاليوسف»» أفضح فيه ما فعلت الداخلية دون أن أنسى إنصاف الفنانتين اللتين لم أكن أعرفهما من قبل.. وجاء زوج حنان ترك وأمه يحملان الزهور والشكر.. وكررت وفاء عامر ذلك علنا فى أكثر من برنامج تليفزيونى فيما بعد.

وتدخل رئيس الحكومة طالبا من النائب العام إغلاق القضية، وعندما اعترف بذلك بعد حادث الأقصر «19 نوفمبر 1977» الذى راح ضحيته سياح يابانيون وسويسريين فى لقاء بينه وبين رؤساء تحرير الصحف وقعت فيه مناقشة سياسية حادة بينى وبينه انتقدت فيها تدخله لدى النيابة العامة فى القضية.

وقبل ذلك بأيام قليلة أطاح مبارك بالألفى واصفًا ما حدث بالتهريج الأمنى.. ويومها سمعت من أسامة الباز ما يشبه الاعتذار عن تأخر قرار إقالة الوزير قائلا: «يصعب وجود حاكم واحد فى مصر يصدق الصحافة وينفذ مشيئتها فى الوقت المناسب.. لو حدث ذلك لوفرنا على البلاد الكثير».

لكن.. لم تمر سوى شهور قليلة حتى فوجئت بأسامة الباز يطلب أن نلتقى فى مكتبه الرئاسى.. وهناك ألقى فى وجهى بقنبلة سريعة الانفجار: «الرئيس سوف يرفع ضدك قضية فى محكمة الجنايات بتهمة إهانة رئيس دولة صديقة».. من هو ذلك الرئيس؟.. ما السبب؟ وهل كان مبارك يستمع للحوار؟ الإجابة فى العدد القادم.