الإسلام السياسـي بين الواقع والخرافة

عربي ودولي

بوابة الفجر



أصدر مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الدكتور جمال سند السويدي، مؤخراً كتاب "السراب"، وتتمحور فكرته الأساسية حول "السراب السياسي" الذي يترتب على الوهم الذي تسوقه الجماعات الدينية السياسية لشعوب العالمين العربي والإسلامي.

ويكشف الكتاب، عبر فصوله السبعة، حجم التضارب القائم بين فكر الجماعات الدينية السياسية وواقع التطور الحاصل في النظم السياسية والدولية المعاصرة، خاصة فيما يتعلق بمسألة التنافر بين واقع الأوطان والدول وسيادتها القانونية والدولية من ناحية، ومفهوم الخلافة الذي تتبناه هذه الجماعات من ناحية ثانية، كما يكشف هذا الكتاب علاقة الترابط الفكرية القائمة بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات المتطرفة التي ولدت في مجملها من رحم هذه الجماعة، وفي مقدمتها القاعدة وداعش.

24 ينفرد بنشر كتاب "السراب" على حلقات:

الحلقة الأولى

الباب الأول: إطار نظري ومنهجي
الفصل الأول: الإسلام السياسـي بين الواقع والخرافة

النشأة والأصول
ظهر الإسلام السياسـي بأيديولوجيته الدينية وأجندته السياسية وتنظيماته في بيئات ومجتمعات عربية وإسلامية منذ بدايات القرن العشـرين الميلادي، وجاء تشكيله بشكل عام رداً على تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأمتين العربية والإسلامية، بعد فترات من الاستعمار التي اختلفت في طولها الزمني بين كيان سياسـي وآخر، وفي تطبيقها العملي اعتماداً على هذه القوة المستعمِرة أو تلك، وبعد إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك.

وقد أدت ظروف استمرار الاستعمار في سائر البلدان، وبروز دولة علمانية متشددة في تركيا، إلى إحساسات ساخطة لدى فئات من المتدينين المسلمين، فظهرت بالتدريج جماعات دينية للحفاظ على الهوية من النواحي التربوية والثقافية والفكرية والدينية، ومع الوقت تطورت هذه الجماعات إلى حركات تنظيمية، ودخلت عليها أفكار جديدة، كان أهمها وجود نظام كامل في الدين لكل مسائل الحياة، ومنها الجانب السياسـي. وكان من ضمن الوسائل التي قاتلت بها تلك التنظيمات لإقامة الدولة الإسلامية، بحسب نظرية الحاكمية: الجهاد في مواجهة العالم، وبالداخل الإسلامي أيضاً. واستمرت تلك الموجة بمرور الحقب والسنوات، حتى أفضت إلى ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في نهاية يونيو 2014م، حينما أعلن قيام ما سماه "الخلافة الإسلامية" ومعلناً أبا بكر البغدادي خليفة للمسلمين جميعهم في مختلف أرجاء العالم ومطالباً هؤلاء المسلمين بمبايعته خليفة لهم. ومنذ بدء الاحتجاجات الشعبية وما تلاها من تحولات سياسية في أنظمة الحكم في بعض الدول العربية منذ بداية عام 2011م، وما ترافق مع ذلك من تراجع لنفوذ الدول وسيادتها التقليدية واضطراب الأوضاع الأمنية بدرجات متفاوتة في دول عدة، مثل: جمهورية مصـر العربية والجمهورية التونسية والجمهورية اليمنية ودولة ليبيا وجمهورية العراق والجمهورية العربية السورية وبعض الدول الأخرى التي تضم سكاناً مسلمين، مثل نيجيريا ومالي وغيرهما، وجدت الجماعات الدينية السياسية لنفسها مجالاً للتوسع والتمدد والحشد والتعبئة والعمل العلني، واستطاعت هذه الجماعات استغلال الظروف القائمة في دول التغيير العربي للصعود إلى كرسـي الحكم وتولي السلطة.
ويسعى هذا الفصل إلى فهم مبادئ الجماعات الدينية السياسية وآليات عملها، كتيار واسع يستخدم الدين لتحقيق أغراض سياسية ومصلحية، لأن هذه الجماعات بطبيعة عملها كانت دائماً - ولا تزال - تسعى إلى الحكم أو السلطة.
ويركز القسم الأول على تعريف الظاهرة وخصائصها، ثم ينتقل في القسم الثاني إلى تحليل أسباب انتشار الجماعات الدينية السياسية وعوامل بقائها، مستفيدة من الخلط الأيديولوجي والمجتمعي في الدول العربية والإسلامية بين الدين والدولة، وهو الخلط الذي نجح الغرب المسيحي منذ قرون في إنهائه، من خلال فصل الديني عن السياسـي وتشكّل طبقات سياسية واقتصادية واجتماعية مستقلة. وفي القسم الثالث، سيتم عرض أنماط الفكر الإسلامي السياسـي، ومظاهر عمله وأجندات فصائله المختلفة. أما القسم الرابع، فسيركز على الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الجماعات الدينية السياسية وفكرها وأدائها في البلدان التي استطاعت الوصول فيها إلى الحكم. وسينتهي الفصل بخلاصة تبحث مستقبل هذه الجماعات على المديين القريب والبعيد.

أولاً: ماهيـة الإسـلام السياسي
قد يكون من المهم في بداية هذا التعريف التمييز بين نموذجين إسلاميين: الأول، هو ذلك النموذج التقليدي الذي تعتنقه الأغلبية الساحقة من المسلمين حول العالم، والمشتمل على الالتزام بالأركان والعبادات المفروضة مثل الشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج والالتزام بقيم الحياة الفاضلة والتسامح الديني، وغير ذلك من الخصائص العامة لحياة المسلم العادي، والثاني، هو ذلك النموذج الذي تنتهجه بعض التنظيمات والجماعات الدينية السياسية التي سعت - ولا تزال - إلى تغيير الوضع السياسـي القائم؛ ومن ثم تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،... إلخ، من خلال توظيف مقدرتها على التأثير في الممارسات والأيديولوجيات والتطورات السياسية للمجتمعات الإسلامية. 
وهذا النوع الثاني هو ما يمكن وصفه بشكل عام بالإسلام السياسـي الذي يتجلى تطبيقياً في الجماعات الدينية السياسية بشتى مسمياتها وعلى اختلاف نهجها وفكرها العقائدي والسياسـي، فالمسلم رب العائلة الذي يستيقظ باكراً ليلحق بالصلاة في المسجد، ويكد بحثاً عن لقمة العيش، يختلف عن المسلم المهتم فقط بتغيير ما يعتبره مخالفاً للشـرائع والمبادئ الدينية المعلنة، التي يفسـرها بحسب آرائه ومصالحه وأهدافه الذاتية السياسية والتنظيمية، إذا صح التعبير، على أنها بعيدة عن تعاليم الدين الحنيف وصـراطه المستقيم ولا تخدم حياة المسلمين في الدنيا والآخرة، ولا تترجم برأيه المقصود الأساسـي من الدين الإسلامي المنزل معتمداً في ذلك على تفسيرات ضيقة لبعض آيات القرآن الكريم، ومن ذلك الآيات التي يخرجها أتباع الجماعات الدينية السياسية من سياقها الصحيح ويتم توظيفها لتبرير أعمال العنف والقتل بحق المخالفين في الرأي والعقيدة، مثل قوله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ﴾، والآيات التي يتم الاستناد إليها في الدعوة إلى تطبيق شـرع الله في الأرض (مبدأ الحاكمية)، منصبين أنفسهم أوصياء على المجتمعات الإسلامية في تطبيق الشـرع الحنيف، مثل قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾؛ وهي من الآيات التي يتطلب تفسيرها والالتزام بنصها علماً فقهياً عميقاً، ففي تفسيرها لأهل العلم تفصيلات وأقوال تخص تحديد الحكم بغير ما أنزل الله، ومنها أنه من حكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن ما أنزله الله هو الحق والخير والصواب ولكنه حكم بغير ما أنزل الله لغرض دنيوي، أو لهوى النفس، فهذا لا يكفر كفراً مخرجاً من الملة، ومنها أن من حكم بغير ما أنزل الله مستحلاً له، أو مفضلاً له على حكم الله، عزّ وجلّ، فقد كفر كفراً مخرجاً من الإسلام. وكذا من استهزأ بأحكام الله، عزّ وجلّ، وأن من جحد حكم الله، عزّ وجلّ، المنزل على رسله وأظهر خلافه وزعم أنه من عند الله وحكم به فهو كافر كفراً مخرجاً من الإسلام، ويضـرب المتطرفون الإسلاميون في هذا الإطار مثلاً باليهود الذين بدلوا حكم الله في الزاني الذي هو الرجم. ومن حالات ذلك أيضاً أن المكره على الحكم بغير ما أنزل الله والمجبر على فعل ذلك لا ينسحب عليه الحكم بالكفر، تبعاً لقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ﴾. 
وهنا يتعين التمييز بشكل واضح لا لبس فيه بين الإسلام كدين سماوي حنيف يحض على التسامح والمحبة ونشـر الفضيلة وعمارة الأرض، والجماعات الدينية السياسية التي تحاول توظيف هذا الدين لخدمة أهدافها ومصالحها الذاتية والتنظيمية.

ولقد درجت الدراسات العلمية، والتصـريحات الرسمية، وكتابات المتخصصين وأحاديث الإعلاميين،... إلخ، على استخدام مصطلح "الإسلام السياسـي" ليشمل كل التنظيمات والجماعات العاملة على تحقيق الفكرة الأساسية من "تسييس" الإسلام؛ أي وضعه في خدمة مشـروع سياسـي معين يصل بالمؤيدين لأفكار هذه التنظيمات والجماعات إلى الحكم. كما درج استخدام مصطلحات مشتقة من المصطلح الأوسع، مثل الإسلام التقليدي والمتشدد والأصولي والمتطرف والثوري وغيرها. ولكن لكل من هذه المشتقات خصائص معينة تنطبق بدرجات مختلفة على هذا التنظيم أو ذاك، ولكن ما يجمعها بالفعل هو المأرب الأساسـي في الوصول إلى الحكم والسيطرة على الدولة والمؤسسات بغية إقامة ما يزعمون أنه "الدولة الإسلامية الفضلى [الفاضلة أو المثالية من وجهة نظرهم]"، ما يعكس ضيق أفق هذه الجماعات ونظرتها الإقصائية للآخرين حتى من المسلمين ذاتهم، باعتبار أن الدين الإسلامي ليس حكراً على هذه الجماعات فقط، وأن تطبيقه في مختلف شؤون الحياة مسؤولية المسلمين قاطبة وهدفهم وليس لفئة أو جماعة دون أخرى.

وللتوصل إلى تعريف جيد لمصطلح "الإسلام السياسـي" يتعين الإشارة بداية إلى مجموعة من الملاحظات، التي يمكن استنباطها من ممارسات المنتمين إلى الجماعات الدينية السياسية المتعددة، التي تتدرج من التقليدية إلى المتشددة، ومن القديمة إلى حديثة العهد، كما تختلف بالتبعية آراء المفكرين والفقهاء البارزين بشأنها، ومن ذلك:

المصطلح
أولاً، أن الإسلام السياسـي هو مصطلح يطلق على التنظيمات والجماعات الدينية السياسية التي تعتقد أن الدين يتسم بالشمول ويحتوي على جميع العقائد والمبادئ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكافية للحياة العامة والخاصة، والواجب على كل مسلم اتباعها في كل ما يقوم به، سواء في حياته الشخصية أو ممارسته للعمل السياسـي. وبهذا يصبح الإسلام السياسـي عبارة عن نزعة إلى الشمولية المرتكزة على ما يعتبر في الحيز العام مبادئ لا شائبة فيها، لأنها مستقاة من مصادر الدين الحنيف؛ أي القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشـريفة والإجماع. ويرى أحد الباحثين أن الإسلام السياسـي هو بالفعل شكل من أشكال "قولبة" الدين الإسلامي على يد أفراد وجماعات، من أجل تقديم ردود سياسية على التحديات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، ومن خلال تخيُّل مستقبل أساسه مفاهيم أُعيد تصورها من التراث الإسلامي. وأعتبر، من وجهة نظري، أن الإسلاميين الأصوليين والمتشددين والتقليديين على حد سواء، يعتبرون أن الدين يحتوي على كل ما يحتاجه الإنسان في حياته، ولكن الاختلاف بينهم يكمن في كيفية استخدام الدين وتوظيفه سياسياً. 

ويرى فرانسوا بورجا أن الإسلام السياسـي هو "اللجوء إلى مفردات الإسلام الذي تقوم به في بداية الأمر الطبقات الاجتماعية التي لم تستفد من مظاهر التحديث الإيجابية". مشيراً إلى أن الإطار المرجعي للإسلام السياسـي يساعد على ظهور آراء وتأويلات تؤيد السلوكيات الاستبدادية والشمولية، وذلك لأن عدداً كبيراً من منظّري هذا التيار أعلن منذ البداية أن استخدام القوة ورفع السلاح في وجه الدولة أمر شـرعي. 

أما جيل كيبل فيرى أن حركات الإسلام السياسـي وصلت إلى قمتها في العالم الإسلامي مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979م، وأن هناك عوامل متعددة أدت إلى انتشارها، من أهمها الاستياء الاجتماعي والسياسـي، خاصة بين أوساط الشباب والطلبة. التعبير المؤسسي
ثانياً، التعبير المؤسسـي للإسلام السياسـي يأخذ أشكالاً متنوعة، منها ما يأخذ طابعاً سـرياً وغير قانوني، مثل التنظيمات السياسية الجهادية المتشددة التي تسعى إلى تغيير المجتمعات بالعنف، ومنها ما يأخذ طابعاً سياسياً، مثل تشكيل جماعات وتنظيمات وأحزاب سياسية، تسعى إلى الوصول إلى الحكم والسيطرة على السلطة والبقاء فيها، مهما كانت وسيلة الوصول تلك، عبر حرب أهلية ("طالبان" أفغانستان على سبيل المثال)، أو انقلاب عسكري (جمهورية السودان)، أو الثورة الشعبية السلمية التي تبعتها تصفية الحلفاء من أنصار التيار المدني والوطني (الثورة الإيرانية عام 1979م)، أو بالطرق البرلمانية الانتخابية (الجمهورية التركية بعد الثمانينيات وبالتحديد بعد عام 2002م، والمملكة المغربية بعد الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات التشـريعية التي جرت في الخامس والعشـرين من نوفمبر 2011م وتولى إثرها تشكيل الحكومة، أو عن طريق الحشد والتظاهرات والاحتجاجات التي توظف الدين في الحشد السياسـي بهدف الضغط على الأنظمة الحاكمة بغية إسقاطها وتغيير المشهد السياسـي بأكمله، كما حـدث في جمهوريـة مصـر العربيـة والجمهورية التونسية بعد عام 2011م).

وبينما كانت الجماعات الدينية السياسية في العالم العربي تمتلك توجهات أكثرها دينية واجتماعية، أصبحت بعد موجة التغيير التي بدأت في أوائل عام 2011م، أحزاباً سياسية يعتمد مصيرها على أدائها السياسـي، وأيضاً على تعامل الدول العربية والإسلامية معها، ومن هنا جاء انكشاف واقعها المهترئ وبنيتها وهياكلها الفكرية والتخطيطية والقيادية الضعيفة. فعلى سبيل المثال، قامت جماعة الإخوان المسلمين المصـرية بتشكيل "حزب الحرية والعدالة" بعد إطاحة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك عام 2011م، وقامت الحركة السلفية المصـرية بتشكيل "حزب النور"، كما أسست "حركة النهضة" التونسية "حزب حركة النهضة"، وقام التيار الإسلامي في المملكة المغربية بتشكيل "حزب العدالة والتنمية". ولكل من هذه الأحزاب آلياته في العمل، ولكنها تتقاسم الهدف السياسـي الخاص بالوصول إلى السلطة في نهاية المطاف. الاستطراد الحتمي
ثالثاً، الاستطراد الحتمي للصفة الثانية، هو أن الإسلام السياسـي يقحم الدين في السياسة ويسيّس الدين، ويجعله معياراً للعمل السياسـي، حسب رؤيته. وفي هذا يعد التيار الإسلامي السياسـي أو الجماعات الدينية السياسية هي المستفيد الرئيسـي من الوضع السياسـي والاجتماعي والاقتصادي الراهن في العالَمين العربي والإسلامي بشكل عام، وبالتحديد من حقيقة عدم فصل الدين عن الدولة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الفصل قد نجح في الغرب بين الفترة من القرن السابع عشـر إلى القرن التاسع عشـر الميلاديين، بدءاً بفترة ما بعد "معاهدة وستفاليا" عام 1648م، التي تبعت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، وانتهاءً بانتصار أفكار الثورتين الأمريكية عام 1776م والفرنسية عام 1789م، وترسخ بالثورة الصناعية الغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشـر الميلادي. وساعدت كل هذه التطورات السياسية والاقتصادية على بروز طبقات اجتماعية جديدة أرادت الهروب من سيطرة الكنيسة والدين على المجتمع. 

أما في العالَمين العربي والإسلامي، فلقد اصطدم مبدأ فصل الدين عن الدولة بحقيقة أن الدين الإسلامي قد جمع منذ الدولة الإسلامية الأولى بين الممارستين والقيادتين الدينية والسياسية في شخص النبي محمد ﷺ، الذي أسس هذه الدولة في المدينة. وبعده جاءت دولة الخلفاء الراشدين لتجمع أيضاً شقَّيْ القيادة وأوجه ممارستها. ولكن الحقيقة هي أن هذا الوضع كان استثنائياً، عندما كانت الدولة الإسلامية قيد التشكل، ولكنها لم تعد كذلك منذ انتهاء حقبة الخلفاء الراشدين. وهو ما يلخصه خالد الدخيل في رؤيته القائلة إن شعار "الإسلام دين ودولة" الذي أطلقته جماعة الإخوان المسلمين منذ تأسيسها ولم يقل به أحد من قبل، يعد بالفعل "شعاراً سياسياً مؤدلجاً" لخدمة الأغراض السياسية للجماعة، بدليل قبول الإخوان المسلمين متطلبات العمل السياسـي في جمهورية مصـر العربية عقب تنحي الرئيس المصـري الأسبق محمد حسني مبارك، وحسب ما يرى الدخيل، فإن قبول الجماعة مبادئ الدولة المدنية، مثل التداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات، وغير ذلك يعني التخلي عن الشعار ومقتضياته، وتسليماً بما تؤسس له تلك المبادئ المدنية من قواعد تجافي في حقيقتها الفكر المعلن للجماعة، مثل قاعدة فصل الدين عن الدولة. وبرغم أن أدبيات الجماعات الدينية السياسية تحاجج بأنه لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة في الحقب الأولى من الإسلام، فإن دراسة التاريخ الإسلامي تشير إلى وجود فصل بين الفقه والسياسة منذ محنة الإمام أحمد بن حنبل على الأقل. كما أن المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين كان بسيطاً ومتجانساً، وبالتالي لم تكن هناك حاجة ضـرورية إلى ذلك الفصل بين الدين والدولة، لكن واقع العالَمين العربي والإسلامي الآن يختلف بشكل كبير عن ذلك الوضع من ناحية تطور المجتمعات وتعقد بنيتها السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية، الأمر الذي يفرض تطوير النظرة لحدود العلاقة بين ما هو ديني وما هو سياسـي، وهذا يستوجب الوقوف على حدود التغير الذي طرأ في المرحلة الأخيرة على هذه العلاقة التي تأثرت جدياً بفشل الجماعات الدينية السياسية في الحكم، وهذا الأمر تم رصده علمياً بدقة من خلال الدراسة الميدانية التي قمت بها، وأوردت نتائجها في الفصل السابع من هذا الكتاب.

ولا شك في أن الموضوعية تقتضـي القول إن الإشكالية الأساسية في معظم دول العالَمين العربي والإسلامي لا تكمن في العلاقة بين الدين والسياسة، ولا في انفصالهما أو ارتباطهما، بل هي بالأساس في توظيف الدين لخدمة السياسة؛ أي توظيف الثابت لخدمة المتغير، وارتهان الدين بكل ما يمتلك من قوة روحية هائلة إلى عالم السياسة بكل ما يتسم به من مناورات ومساومات وصفقات، وفي ذلك إساءة إلى الدين وإرباك للسياسة بحكم ارتهانها لثوابت يصعب الالتفاف حولها أو الفكاك منها، وهي التي تتسم بالتغير المستمر وتتطلب قدراً كبيراً من المرونة. 

رد فعل
رابعاً، إن الإسلام السياسـي جاء كرد فعل على حال التهميش والاغتراب في العالَمين العربي والإسلامي، بعد قرون من استعمار بعض الدول العربية والإسلامية على يد الدول الغربية، وهذا الأمر كان أيضاً سبباً لقيام حركات التحرر الوطني والقومي العربي. وفي حالة الإسلام السياسـي بالتحديد، كان إلغاء الخلافة العثمانية، على يد مصطفى كمال (أتاتورك) عام 1924م، وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، حدثاً في غاية الأهمية؛ لأن الجماعات الدينية السياسية رأت في هذه الخطوة نهاية لما اعتبروه خلافة إسلامية كانت تشكل تعبيراً سياسياً عن الأمة والدين والتاريخ الإسلامي. 

بالإضافة إلى هذا، رأت الجماعات الدينية السياسية التراجع والانحطاط المجتمعي المتأتي من ظروف الاستعمار، ورأت أن المسلمين ابتعدوا عن الدين، معتبرة أن ذلك قد تسبب بمشكلات صعبة لا يمكن التخلص منها إلا بالعودة إليه. ويغيب عن الجماعات الدينية السياسية في هذا الصدد، أن الخلافة العثمانية لم تكن في الحقيقة مثالاً جيداً لدولة الخلافة الإسلامية التي يريدونها، فقد اشتملت على كثير من المظاهر والممارسات السلبية التي تجافي الخلافة في نقائها الراشدي، ولم يكن الدين الحنيف سبيل السلاطين العثمانيين في الحكم، وهناك ما يكفي من الأمثلة التاريخية للبرهنة على ذلك بوضوح، وأعتقد أن المجال لا يتسع لمناقشة هذه التفاصيل كي لا أحيد عن الهدف الرئيسـي للكتاب.

وتؤكد الجماعات الدينية السياسية ضـرورة العودة إلى السلف الصالح متمثلاً بالخلفاء الراشدين، كقدوة سياسية واجتماعية واقتصادية، وبالتحديد إعادة بناء نموذج الخلافة كما كانت في العقود الأولى من الدولة الإسلامية؛ أي في عهد الخلفاء الراشدين. والأساس في هذه الفكرة هو أن الدولة الإسلامية في ذلك الوقت كانت الأقرب زمنياً إلى الدين الحنيف وتطبيقه الأول، وفيها تم جمع السلطات في شخص خليفة واحد استمد شـرعيته من صحابته للنبي محمد ﷺ، ويقول أحد الباحثين إن الإسلام السياسـي جمع في هذه الجزئية، بين انتقاده للغرب كمصدر للتصـرفات غير الأخلاقية، ومنبع إلهام لفكرة الدولة المدنية الحديثة التي أبعدت الدين عن الحياة العامة اليومية، واعتباره أيضاً مصدراً للحداثة التي أزاحت الحياة الدينية النقية لتحل محلها الحياة الحافلة بالملذات والماديات. وقد استخدم الإسلام السياسـي - ولا يزال - في انتقاده لكل ما سبق، خطاباً دينياً ووعظياً لاستنهاض الشعوب وتسويق فكرة خيالية بشأن ما يمكن أن يكون عليه الوضع إذا سُمِح للتيار الإسلامي السياسـي بتأسيس ما يسميه الدولة الفاضلة، كما ذكرت آنفاً. والخلاصة هنا، أن المبادئ العامة التي تربط الجماعات الدينية السياسية في العالَمين العربي والإسلامي هي ثلاثة: الاقتداء بالسلف الصالح، والإيمان بالشـريعة الإسلامية منهجاً للحياة، والإيمان بأن إعادة تأسيس الخلافة هي الطريق للحياة الصالحة أو الفاضلة. لكن ما حدث في جمهورية مصـر العربية بعد تولي جماعة الإخوان المسلمين الحكم عام 2012م، يعد مثالاً على فشل الجماعات الدينية السياسية في ترجمة هذه القناعات إلى خطط ملموسة وواقع عملي، بل إن ما فعلته جماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكمها تلك، يفوق في تأثيراته السلبية في نسيج المجتمعين المصـري والعربي، هزيمة يونيو 1967م وما خلفته من آثار وندوب عميقة في نفوس المصـريين والعرب.

الدمج
خامساً، يحاول الإسلام السياسـي الدمج بين الفكر السياسـي الذي يحمله، والإرث القيمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي للإسلام، ويعتبر نفسه المعبر الأول عن الإسلام بشموليته؛ بمعنى أنه يأخذ ما في الدين الإسلامي من مبادئ مجتمعية وثقافية وحضارية، ويضعها في خدمة مشـروعه السياسـي، مغيباً حركات وتيارات ثقافية ومجتمعية ودينية لم تكن يوماً مهتمة بالواقع السياسـي، بل ركزت على عملها الدعوي، ساعياً إلى محاصـرة الأحزاب والتيارات السياسية التي تسعى إلى تحقيق هدف الوصول إلى الحكم من دون خلط للدين بالسياسة أو توظيف له، وفي هذا يشبه الإسلام السياسـي الحركات الفاشية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى وعـبرت عـن نفسهـا في إيطاليـا الفـاشيـة وألمانيا النازية، كمـا أن الإسلام السياسـي يشبه الحكم الشيوعي في الاتحاد السوفيتي السابق أو جمهورية الصين الشعبية أو جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية (كوريا الشماليـة)،... إلـخ.

الظروف الداخلية 
سادساً، يرى الإسلام السياسـي أن ما يجمع المسلمين هو انتماؤهم إلى الدين الإسلامي بجملته، متجاهلاً قدر المستطاع الظروف الداخلية المختلفة في الدول الإسلامية التي يعمل فيها؛ بمعنى أن الإسلام السياسـي هو ذلك الفكر الشمولي المؤمن أنه بالإمكان العمل على تطبيق أسس الدولة، والاقتصاد والثقافة الإسلامية بمعزل عن الظروف الموضوعية الموجودة في كل مجتمع على حدة. 

واستطراداً - وهذا بديهي - يعمل الإسلام السياسـي على "تثبيت" الهوية الدينية للمجتمع، ليس في المبادئ العامة للحكم وممارساته وفي الاقتصاد وتفرعاته وتطبيقاته فحسب، بل أيضاً في جميع المظاهر العامة من لباس إلى طعام إلى منابر وحياة فنية (الأرجح تغييبها أو تقليص حرياتها)،...إلخ، ويتجاهل في ذلك التعددية الثقافية والإثنية والدينية التي تتسم بها الدول العربية والإسلامية ويقفز على مبادئ المواطنة، وما تستوجبه من مساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وهي قواعد لا تتعارض مع جوهر الدين الحنيف.

وخطاب الجماعات الدينية السياسية متشابه في هذا الصدد، وحاملو رايته يؤمنون بقدرتهم على تطبيقه بالطريقة نفسها أينما كان، وما يحتاجون إليه هو الفرصة للوصول إلى الحكم، بوساطة الظروف العادية أو الاستثنائية، وإذا نجحوا عملوا على تطبيق الفكر الشمولي بجميع نواحيه ومبادئه حتى لو خالف هذا الدين الذي يتشدقون بالدفاع عنه. ويظهر هذا واضحاً في مختلف الدول والمناطق الإسلامية؛ حيث نضجت حركات تؤمن بالفكر العام للإسلام السياسـي، سواء في العالم العربي أو في أي دولة من دول العالم الإسلامي، وحيث يسكن مسلمون في دول الغرب.

وتعد قضية الحجاب في الجمهورية الفرنسية والدول الإسكندنافية، ومنع الأذان في سويسـرا، ومنع الذبح على الطريقة الإسلامية في بعض الدول الإسكندنافية، مثالاً على استغلال الجماعات الدينية السياسية للدين في تحقيق أهدافها ومصالحها من خلال استغلال مثل هذه القضايا ذات الأبعاد المختلطة، سياسياً ودينياً وقانونياً، في تأليب المسلمين على دول يعيشون فيها أو يحملون جنسياتها، وابتزاز هذه الدول سياسياً كي تخضع لإرادة هذه الجماعات وأهدافها.
ظاهرة حديثة 
سابعاً، الإسلام السياسـي ظاهرة حديثة جاءت كرد فعل على ظروف موضوعية معاصـرة، من قضية التراجع السياسـي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي، إلى سقوط الخلافة العثمانية، إلى التغريب والاختراق غير الإسلامي للمناطق المسلمة. ثم توسعت فيما بعد وكان الاحتلال الإسـرائيلي للأراضـي الفلسطينية إحدى ذرائع انتشار الإسلام السياسـي وتنظيماته. ويقدر أحد الباحثين عمر ظاهرة الإسلام السياسـي بنحو مئة عام، مشيراً إلى أن الإسلام السياسـي في أساسه جماعات إحيائية للرد على ظروف الضعف والوهن في العالَمين العربي والإسلامي، من خلال استخدام الرموز الإسلامية القديمة. كما يرى باحث آخر أن الإسلام السياسـي أيديولوجية سياسية وليس منظومة دينية، وهو شيئان في شـيء واحد؛ ونتاج الحداثة بقدر ما هو رد عليها. 

وهكذا، يمكن تعريف الإسلام السياسـي بأنه ذلك المشـروع الديني الساعي إلى السلطة السياسية ليتمكن من إعادة بناء الخلافة الإسلامية، مستخدماً الدين الإسلامي أرضية عقائدية لطرحه السياسـي والاقتصادي والاجتماعي، ولفرض طريقة حياة معينة على جميع المسلمين وغير المسلمين، متجاهلاً الظروف الموضوعية الموجودة في السياقات المحلية، ومحاولاً العودة إلى ماضٍ جميل متخَيَّل ومُستَعار من التاريخ الإسلامي، ما يعطي الجماعات الدينية السياسية المعبرة عن الإسلام السياسـي صفة الجمود والهروب من الواقع. وهذا التعريف جامع وعام، ولكنه في عموميته ينطبق على الجماعات الدينية السياسية في جميع البلدان العربية والإسلامية وغيرها.