مي سمير تكتب: ليالى أجاثا كريستى فى مصر والعراق

مقالات الرأي

مي سمير
مي سمير

أجاثا كريستى مشهورة عالميا بكتابتها عن الجريمة، تمتلئ قصصها الغامضة التى لا تعد ولا تحصى بغرف مقفلة ومرايا متصدعة وساعات غير جديرة بالثقة، تبنى أحداث رواياتها بين أرجاء القطارات والقوارب والجزر التى يكون فيها أحد الشخصيات هو القاتل حتما، توفر ألعاب الورق وحفلات الصيد والإجازات غير الرسمية خلفية مثالية لسلسلة معقدة من عمليات القتل التى يبدو أنها تحدث على مرأى من الجميع، عادة ما تكون الزجاجة المكسورة أو دبوس الشعر المفقود أو ملاحظة عابرة من قبل أحد المارة الأبرياء هى مفتاح حل لغز.

تعد الروائية البريطانية الراحلة أجاثا كريستى - المعروفة باسم «ملكة الجريمة» - امرأة ذات موهبة غير عادية، على الرغم من عدم حصولها على تعليم رسمى، عندما كانت طفلة، علمت نفسها القراءة، وبحلول وفاتها، عن عمر يناهز ٨٥ عاما فى عام ١٩٧٦، كانت قد كتبت ٦٦ رواية بوليسية، بما فى ذلك روايتها الشهيرة «جريمة قتل فى قطار الشرق السريع» و«الموت على النيل»، أدرجت موسوعة جينيس للأرقام القياسية أجاثا على أنها أكثر كاتبة للروايات الأكثر مبيعا على الإطلاق، حيث تم بيع أكثر من مليارى نسخة من رواياتها.

كعادة المشاهير من الكتاب، كانت أجاثا فى البداية كاتبة غير ناجحة مع ست روايات تم رفض نشرها، لكن هذا تغير فى عام ١٩٢٠ عندما تم نشر رواية «قضية ستايلز الغامضة»، التى كانت تضم المحقق هرقل بوارو الشهير، اعترفت الكاتبة الشهيرة، التى اشتهرت بإنتاجها الغزير، بأنها كانت تستغرق حوالى ثلاثة إلى أربعة أشهر لكتابة رواية، قالت ذات مرة: «لا يوجد شيء مثل الملل يجعلك تكتب اقتباسًا غريبًا من شخص كانت حياته - المليئة بالمغامرة والتقلبات العاطفية - غير مملة».

 

كان الشرق يحمل مكانة خاصة لديها، حدث أول لقاء لها بالعالم السحرى للشرق مع مصر فى عام ١٩١٠، التى كانت محمية بريطانية فى ذلك الوقت، فى زيارتها الأولى لمصر لم تقع فى حب الأجواء الشرقية، كانت زيارتها للقاهرة من أجل المشاركة فى حفل رسمى لتقديمها للمجتمع حيث كانت فى التاسعة عشرة من عمرها، فى تلك الرحلة رفضت أجاثا اكتشاف الكنوز التاريخية لمصر مفضلة الرقصات والنزهات.

وكتبت فى سيرتها الذاتية، التى حملت عنوان «أجاثا كريستى»، التى نشرت عام ١٩٧٦، بعد عام من وفاتها: «حاولت أمى توسيع ذهنى من خلال اصطحابى إلى المتحف المصرى، واقترحت أيضا القيام برحلة عبر النيل من أجل رؤية آثار الأقصر التاريخية»، واعترفت أجاثا: «عبرت عن احتجاجى بحماس ولم أتردد فى استخدام دموعى للتعبير عن الرفض حيث كانت عجائب العصور القديمة آخر شيء اهتممت برؤيته».

لكن القاهرة تركت انطباعا لا ينسى فى ذاكرة الكاتبة وشكلت نقطة فاصلة فى حياتها، بعد فترة وجيزة من عودتها إلى إنجلترا، صاغت روايتها الأولى والتى دارت أحداثها فى القاهرة وحملت عنوان «الثلج على الصحراء»، لم تُنشر هذه الرواية مثل غيرها من الروايات الأولى لأجاثا، ولكنها كانت تمثل تجسيدًا لمدى تأثر الكاتبة البريطانية الشهيرة بالقاهرة التى كانت بوابتها الأولى لعالم الشرق.

زارت أجاثا مصر بعد ذلك أكثر من مرة، وعلى متن مركب «السودان» الذى تم إهداؤه للملك فؤاد عام ١٨٨٥ قامت بواحدة من أشهر الرحلات على مدار التاريخ، فى عام ١٩٣٣ قامت برحلة نيلية على ظهر هذا المركب التاريخى واستخدمته فى روايتها الشهيرة «الموت على النيل»، لا يزال القارب يبحر حتى يومنا هذا ويحتل مكانة خاصة لدى كل عشاق السفر، يمكن للسائح حتى البقاء فى جناح يحمل اسم «أجاثا كريستى».

 

تغيرت ظروف أجاثا بشكل كبير بحلول عام ١٩٢٨، عندما عادت إلى الشرق الأوسط، وهذه المرة إلى العراق، كانت فى ذلك الوقت كانت كاتبة جريمة ناجحة، مع تسعة كتب شهيرة، لكنها كانت وحيدة هذه المرة وتحمل ذكريات قصة زواج فاشلة. كان زوجها الأول هو أرشيبالد كريستى، الذى كان يعمل فى السلك الدبلوماسى، تزوجا فى عام ١٩١٤ ورزقا بطفل واحد قبل الطلاق فى أعقاب خيانة زوجها لها فى عام ١٩٢٨.

لم تكن رحلة أجاثا إلى بغداد مخططة حتى اللحظة الأخيرة، فى الحقيقة، كان لدى أجاثا بالفعل تذاكر للإبحار إلى منطقة البحر الكاريبى عندما غيرت اتجاهها بعد تناول الطعام مع زوجين عادوا للتو من العراق، كانت تشعر بالحماس بشكل خاص عندما اكتشفت أنها يمكن أن تسافر فى قطار الشرق السريع، عندما وصلت إلى دمشق، سافرت فى حافلة صغيرة لمدة ٤٨ ساعة عبر الصحراء إلى بغداد، كانت هذه الرحلة مصدر إلهام للعديد من القصص بما فى ذلك «جريمة قتل فى قطار الشرق السريع»، و«بوابة بغداد».

فى العراق، التقت الكاتبة مع ماكس مالوان، مساعد بعثة أثرية، كانت مفتونة بما قاله لها عن عمله وبسرعة وقعت فى غرامه وقررت الزواج منه، وبالفعل وتزوجا بسرعة فى عام ١٩٣٠، بعد زواجهما، عملا فى سوريا والعراق فى أماكن مثل نينوى ونمرود وتل براك، زاد زواجها الثانى والأخير من مالوان الذى كان يصغرها بـ١٤ عاما من اهتمامها بالعالم العربى.

شاركت  الكاتبة فى العمل الأثرى وكانت تشارك فى عمليات تنظيف وحفظ الأشياء والتقاط الصور والملاحظات الميدانية، أصبحت المواقع التى زارتها مصدر إلهام رومانسى للعديد من قصصها البوليسية، دفعها عشقها للآثار لكتابة رواية عن مصر القديمة (الموت يأتى فى النهاية)، بمساعدة صديقها وعالم المصريات ستيفن جلانفيل الذى قدم لها كل المعلومات والتفاصيل عن حياة المصريين القدماء، تعد هذه أول رواية من روايات أجاثا كريستى التى لا تدور أحداثها فى القرن العشرين، وتحوى شخصيات غير أوروبية، خلافا لعادتها، تجرى أحداث الرواية فى مدينة طيبة المصرية فى عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، وتتناول حكاية دسائس وقتل داخل عائلة مسئول ثانوى فى مصر منذ ما يقرب من ٤٠٠٠ عام، حققت هذه الرواية نجاحا كبيرا عندما ظهرت فى عام ١٩٤٥، كتبت صحيفة نيويورك تايمز فى ذلك الوقت: «إلى جانب منحنا قصة غامضة ترقى إلى مستوى عالى تماما، لقد نجحت بشكل مثير للإعجاب فى تصوير شعب مصر القديمة كأشخاص أحياء وليس كمومياوات».

فى أعقاب العراق، انتقل الزوجان إلى إيران، وصفت الكاتبة أصفهان بأنها «أجمل مدينة فى العالم»، لكنها اختارت مدينة إيرانية أخرى لقصتها القصيرة «المنزل فى شيراز»، لم تبق أجاثا كثيرا فى إيران وسرعان ما عادت مع زوجها إلى العراق من جديد.

بحلول عام ١٩٣٨، كان مالوان قد صنع لنفسه أيضا اسما كقائد لعمليات التنقيب الناجحة فى العراق وسوريا، لكن شهرة زوجته كانت دائما أكبر من شهرته، فى عام ١٩٣٣، على سبيل المثال، عندما شرع مالوان فى أول رحلة استكشافية مستقلة بالقرب من مدينة نينوى بالعراق، كان عنوان إحدى الصحف اللندنية «الروائية فى رحلة مثيرة، أجاثا كريستى تبحث عن الكنوز الضائعة».

وصفت أجاثا فترة الثلاثينيات بأنها «مرضية بشكل خاص»، وقالت فى أحد لقاءاتها الصحفية: «أستمتع بتأليف الكتب أثناء وجودى فى الصحراء، لا توجد عوامل تشتيت للانتباه مثل الهواتف والمسارح والأوبرا والمنازل والحدائق».

جلبت الحرب العالمية الثانية أجاثا إلى موطنها فى إنجلترا، انضم مالوان إلى سلاح الجو الملكى وأرسل إلى شمال إفريقيا، فى لندن، حيث شاركت فى المجهود الحربى بالعمل فى مستوصف، نشرت كتاب السيرة الذاتية «تعال أخبرنى كيف تعيش» كطريقة للبقاء على اتصال مع حياتها فى العراق وسوريا قبل الحرب.

 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عاد مالوان إلى بغداد مديرا للمدرسة البريطانية للآثار فى العراق، من جديد عادت أجاثا للشرق وشاركت فى الحملات الاستكشافية حيث كانت مسئولة فى البداية عن التصوير، وشاركت فى تنظيف القطع الأثرية العاجية التى اكتشفتها البعثة، وكانت تساعد فى طهى الطعام لأعضاء البعثة.

على الرغم من أنها كانت تقترب من الستينيات من عمرها وتعانى من التهاب المفاصل، إلا أن أجاثا واصلت مواكبة زملائها الأصغر سنا فى عمليات الاستكشاف، كانت تحب المزاح، وكتبت قصائد ساخرة عن زملائها، لقد دفعت أيضا مقابل بعض الرحلات إلى المناطق الريفية المحيطة، ولايزال سكان القرى الصغيرة المطلة على نهر الزاب الكبير، ثانى روافد نهر دجلة، يتذكرون قصة السيدة البريطانية التى كانت تحرص على الاستحمام فى مياه النهر فى الخمسينات من القرن الماضى وهى ترتدى بدلة السباحة بصحبة عدد من صديقاتها.

فى عام ١٩٦٠، غادر عالم الآثار والكاتبة الشرق للمرة الأخيرة عن عمله، حصل مالوان على لقب فارس فى عام ١٩٦٨، بالنسبة لها، أصبحت أجاثا سيدة الإمبراطورية البريطانية غير المتوجة، وعلى الرغم من اختلاف حياتهما المهنية فى نواح عديدة، فقد وجد الزوجان أرضية مشتركة فى بهجة البحث عن كنوز الشرق، لقد عبرت أجاثا عن حبها للشرق وبالتحديد سوريا فى لقاء صحفى: «السلام المطلق عجيب، تغمرنى موجة كبيرة من السعادة، وأدرك كم أحب هذا البلد وكم هى كاملة ومرضية هذه الحياة».