عبد الحفيظ سعد يكتب: قصة الثورة البرتقالية.. كيف سقطت أوكرانيا فى الكابوس الأسود؟

مقالات الرأي

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

استغلها الغرب لمصالحه فى خلق العداء لروسيا مع حليفها القديم

فكرة الألوان والزهور نجحت فى جذب التعاطف مع الثورات لكنها لم تجنبها ويلات الدمار والحرب

 

السياسة فن الممكن.. وهناك أحداث ووقائع لعبت دورا فى حياة الشعوب ومصير الأمم، فأحدات رفعت أممًا.. وأخرى خسفت بها لتخرج من التاريخ. هكذا أوكرانيا.. البلد الذى تحول لمحط أنظار الكرة الأرضية الآن بعد تحوله لساحة حرب شاملة مع روسيا، ليواجه مصيرا غامضا لا يعرف حدوده للآن، لدرجة أنها يمكن أن تتحول لنقطة البداية لحرب عالمية ثالثة قد تمحو من خريطة العالم اسم أوكرانيا..

من العجيب أن أوكرانيا التى نتحدث عنها اليوم، كانت حاضرة فى الصراع الدولى الضخم والممتد منذ بداية الحرب العالمية الثانية، والتى تمخض عنها نظام دولى ثنائى القطبية بين الغرب ممثلا فى أمريكا ودول غرب أوروبا، وفى الطرف الثانى الاتحاد السوفيتى، باعتبارها إحدى ركائز السوفيتى أو روسيا العظمى فى مواجهة الغرب، بل نجد أن أبرز زعماء الاتحاد السوفيت مثل خرتشوف وجورباتشوف من أصول أوكرانية.

وعقب تفتت الاتحاد السوفيتى خرجت أوكرانيا من هذا التحالف فى مطلع تسعينيات القرن العشرين، مثل العديد من أعضاء الاتحاد، ولكنها بقيت طوال تلك الفترة محافظة على مساحة الود والتعاون مع روسيا، الوريث التقليدى للاتحاد السوفيتى، ولم تنحرف كييف كثيرا تجاه الغرب والسعى للانضمام لحلف الناتو الذى تعتبره روسيا عدوها التقليدى على حدودها الغربية.

وكانت تنظر روسيا لأوكرانيا نظرة مختلفة، ليس لأنها بوابة المواجهة مع دول الاتحاد الأوروبى أو الناتو فقط، بل يضاف لذلك عدة عوامل أخرى منها أن جزءا كبيرا من سكانها ينتمى قوميًا وعرقيا لروسيا، وكذلك الأقاليم الشرقية من أوكرانيا خاصة جزيرة الكرم، وتعتبرها روسيا جزءا منها، حتى أعادت ضمها لها بالفعل.

ولذلك أخذت العلاقة بين أوكرانيا وروسيا منذ تفتت الاتحاد السوفيتى، شكلا مختلفا، حافظ فيه نظام كييف على مساحة ود وتعامل مع روسيا، سواء لعوامل عرقية أو جغرافية أو حتى اقتصادية باعتبار أوكرانيا بوابة العبور للبضائع الروسية وعلى رأسها البترول والغاز إلى أوروبا.

وظلت العلاقة بين موسكو وكييف بعد الاستقلال تعيش فى حالة استقرار نسبى، خاصة أن روسيا طوال العقد الأخير من القرن العشرين لم تكن فاقت من صدمة انهيار الاتحاد السوفيتى، وأصحبت دولة مترهلة فى ظل حكم رجلها المريض بوريس يلتسن الذى خرج من الحكم فى ١٩٩٩، وجاء بعده فلاديمير بوتين، الرجل الروسى القوى الذى كان محملا بأفكار إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، والتى سقطت مع انهيارها الاتحاد السوفيتى وسقوط جدار برلين.

 

وحتى بعد تولى بوتين الحكم، ظلت العلاقة بين روسيا وأوكرانيا تتسم بالهدوء والمصالح المشتركة، خاصة أن نظام الحكم فى كييف حافظ طوال تلك الفترة على مساحة القرب من روسيا الاتحادية، وصبغت توجهات حكامه بالولاء أو القرب من التوجه الروسى والذى كان آخرهم فيكتور يانوكوفيش.

لكن الأحداث لم تسر على نفس الوتيرة، ففى نوفمبر  ٢٠٠٤، ظهر فى أوكرانيا ما سمى بـ«الثورة البرتقالية»، والتى كانت يمكن اعتبارها بداية كرة الجليد التى تحركت وأوصلت الأمور للمواجهة الشاملة بين روسيا وأوكرانيا حاليا.

وجاء تطور الأحداث كالتالى بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتى أعلن فيها فوز يانوكوفيش على منافسه زعيم المعارضة وقتها فيكتور يوشينكو. ولم تقبل المعارضة الأوكرانية والتى كانت مدعومة وقتها من المعسكر الغربى بتلك النتيجة واتهمت القوى المسيطرة على أوكرانيا والمتحالف مع روسيا بتزوير النتائج حتى تحافظ على بقاء يانوكوفيتش حليف روسيا فى الحكم ومنع وصول يوشينكو حليف الغرب للحكم.

 

ولذلك خرج الآلاف من مؤيدى يوشينكو للمظاهرات، واعتصموا فى «ميدان الاستقلال» فى العاصمة كييف، ليتحولوا إلى عصيان مدنى شل مؤسسات الدولة، وهو ما يذكرنا بوقائع حدثت بعد ذلك فى ثورات الربيع العربى، والتى كانت يتم تشبيهها بالثورة الأوكرانية البرتقالية.

ونجد فى أوكرانيا وجرى وقتها حرب دعائية كبيرة قادتها الميديا الأوروبية والعالمية لتمجد فى ثورة أوكرانيا وتشيطن الطرف الآخر بقيادة يانوكوفيش، وأطلقت الميديا الغربية عليهم أصحاب الثورة البرتقالية، وربما استخدم فى ذلك «كتالوج» الثورات التى كانت تستخدمها الدعاية الأوروبية فى سقوط الأنظمة القريبة من روسيا، مثل الثورة الوردية فى جورجيا، والزهرية فى قيرغيزيا والبنفسجية فى يوغسلافيا.. وغيرها من الألوان التى كانت تطلق على التحركات الجماهيرية، لتكسبها مزيدا من التعاطف، وهو نفس الأسلوب الذى تم اتباعه مع الثورات فى البلدان العربية فى إطلاق أسماء الياسمين والورد وغيرها.

ونجد هنا أن فكرة الثورة البرتقالية حاول استغلالها أحد انتهازيين السياسة المصرية أيمن نور، وكان يرفع لونها البرتقالى فى دعايته عندما خاض الانتخابات الرئاسية فى ٢٠٠٥..! ونعود للثورة الأوكرانية، التى نجحت عبر الدعاية البرتقالية لها وجلب التعاطف الدولى مع الثوار وألغيت نتائج الانتخابات وتم تصعيد يوشينكو الموالى للتوجهات الغربية، والذى كان يسعى لضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبى وللناتو للحكم، وتم إزاحة يانوكوفيش، والذى لم تفعل له حليفته روسيا شيئا لضعفها فى تلك الفترة.

 

ورغم ذلك أن يانوكوفيش عاد لحكم أوكرانيا مرة أخرى بعد الثورة بست سنوات فى ٢٠١٠، مع فشل سياسات حلفاء الغرب فى كييف فى إدارة شئون البلاد وتدهورها اقتصاديا، ولم يأت الخير على يدها كما كان تردد الثورة فى بدايته، بل تسبب حكم «البرتقاليين» فى انخفاض إجمالي الناتج القومى الداخلى بنسبة ١٥٪، تضاعف عدد المواطنين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وتضاعفت أسعار المواد الغذائية مرات عديدة، ومن حيث الفساد حلت أوكرانيا فى مقدمة دول العالم بعد الصومال..

لكن رسخت الثورة البرتقالية فى أوكرانيا فكرة العداء لروسيا، ومحاولة التقرب من حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، وهو ما أدى لإعادة الكره مرة أخرى فى ٢٠١٤، لتظهر مظاهرات على حكم يانوكوفيش وتسقطه لرفضه توقيع اتفاقية للانضمام لحلف الناتو، خشية أن يؤدى ذلك لمواجهة مع روسيا التى كانت انتزعت بالفعل من كييف السيطرة على جزيرة القرم ونجحت فى إثارة النزاعات العرقية للروس الأوكران فى شرق البلاد والذين بدأوا بالمطالبة بالاستقلال فى إقليم دونيتسك ولوجانسك، اللذين يعتبران أنفسهما جزءا من القومية الروسية.

ونجد أن استمرار حالة العداء بين كييف وروسيا، رغم العلاقة الاقتصادية القوية التى تجمع بينهما وتوسع خطوط الغاز الروسى عبرها إلى أوروبا، لكن سيطرة الفكرة التى بثتها الثورة البرتقالية فى حالة العداء مع روسيا، لتزيد الفجوة والتى اتسعت مع وصول الممثل الكوميدى  فولوديمير زيلينسكى للحكم فى ٢٠١٩، والذى لم يتمكن فى اللعب بالأوراق السياسية باعتماده كليا على المعسكر الغربى فى ظل التوسع الذى تطمح إليه روسيا بإعادة نفوذها القديم، ومحاولة استغلال الأوضاع الدولية الحالية فى عدم قدرة الاتحاد الأوروبى على المواجهة معها، والانسحاب الجزئى لأمريكا ورفض فكرة التدخل المباشر فى مواجهة حربية مع روسيا، خشية أن يؤدى ذلك لزيادة نفوذ الصين الاقتصادى، وبين تدخلات المصالح والقوى الدولية دخلت أوكرانيا دوامة الحرب مع صديق وجار الأمس، وتحول معه حلمها البرتقالى لكابوس أسود لا أحد يعرف نتائجه بعد أن أدخلت فى أتون الحرب حتى لو تراجعت روسيا فإن أوكرانيا ستخسر الكثير بعد أن تحولت لساحة لصراع دولى لن يجني منه شعبها سوى الدمار.