تاريخ "مدفع رمضان" بدايات متضاربة واندثار لأسباب مختلفة

السعودية

بوابة الفجر


ما زال مدفع رمضان عالقًا في أذهان المسلمين في أصقاع العالم العربي والإسلامي، وبقي موروثًا اجتماعيًّا يُذكّرهم بالماضي العريق والأيام الجميلة؛ إلا أنه مع مر السنين والأيام توقف عن العمل في كثير من البلدان العربية والإسلامية.

ويستخدم مدفع رمضان كإعلان عن موعد الإفطار وإخبار العامة عن هذا الموعد، وهو تقليد متبع في العديد من الدول الإسلامية؛ بحيث يتم إطلاق قذيفة مدفعية صوتية لحظة مغيب الشمس؛ معلنًا فك الصوم خلال شهر رمضان.

مَن أول من استخدمه

في العصور الأولى للإسلام كان الأذان هو الوسيلة الوحيدة للإعلان عن الإفطار أو الإمساك في شهر رمضان، وكان يوجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أذانان قبيل الفجر؛ أحدهما للتنبيه للاستعداد للسحور وقيام الليل، والثاني للإمساك عن المفطرات والإعلام بدخول وقت صلاة الفجر، وربما لم تكن الحاجة داعيةً لاستخدام وسيلة أخرى لصِغَر المدن ومحدوديتها آنذاك.

وبعد اتساع المدن وتباعد المساجد، استُخدم المدفع في الإعلان عن وقت الإفطار والإمساك في رمضان.

واتفقت الروايات على أن أول مدينة استُخدم فيها المدفع في الإعلان عن وقت الإفطار والإمساك في رمضان هي مدينة القاهرة.

ولكن اختلفت الروايات في تاريخ استخدامه، وأول من استخدمه من القادة والولاة على عدة روايات هي:

الرواية الأولى:

تذكر أنه عند غروب شمس اليوم الأول من رمضان عام (865هـ- 1444م)، أراد "خوش قدم" والي مصر في العصر الإخشيدي، أن يجرب مدفعًا جديدًا أهداه له أحد الولاة وقت الغروب؛ فظن الناس أن السلطان تعمّد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان؛ فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم، تشكر السلطان على هذا العمل الحسن التي استحدثه، وعندما رأى السلطان سرورهم؛ قرّر المضيّ في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار، ثم أضاف بعد ذلك مدفعيْ السحور والإمساك.

الرواية الثانية:

تقول إن انطلاق مدفع الإفطار، جاء في عهد محمد علي الكبير عام 1805م، وجاء بمحض الصدفة؛ حيث كان محمد علي مهتمًا بتحديث الجيش المصري وبنائه بشكل قوي، يتيح له الدفاع عن مصالح البلاد، وأثناء تجربة قائد الجيش لأحد المدافع المستوردة من ألمانيا، انطلقت قذيفة المدفع مصادفة وقت أذان المغرب في شهر رمضان، وكان ذلك سببًا في إسعاد الناس، الذين اعتبروا ذلك أحد المظاهر المهمة للاحتفاء والاحتفال بهذا الشهر المبارك، واستُخدم المدفع بعد ذلك في التنبيه لوقتيْ الإفطار والسحور.

والرواية الثالثة: تقول: إن أول مدفع أُطلق للتنبيه للإفطار والإمساك في رمضان، كان في عهد الخديوي إسماعيل؛ مستدلين بوجود "مدفع الحاجة فاطمة" في قصر الأميرة فاطمة إسماعيل، ابنة الخديوي إسماعيل؛ إذ يوجد مدفع إفطار تاريخي يسمى "مدفع الحاجة فاطمة"، والذي تباينت روايات المؤرخين حول أسباب تسميته بهذا الاسم؛ ولكن الرواية الأشهر في هذا الصدد تُقِرّ بأن اسمه يقترن بالأميرة فاطمة إسماعيل ابنة الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من 18 يناير 1863 إلى 26 يونيو 1879.

الجمع بين تلك الروايات

يمكن الجمع بين تلك الروايات، بأن أول من استخدم المدفع في رمضان هو "خوش قدم" الإخشيدي عام (1444م- 865هـ)، ثم انقطع استخدامه مع مرور الزمن، وجدد استخدامه محمد علي الكبير عام 1805م، ثم انقطع استخدامه وجدد استخدامه الخديوي إسماعيل بطلب من ابنته فاطمة وقت حكم والدها الذي استمر من 18 يناير 1863 إلى 26 يونيو 1879.

ومما يؤيد هذا الرأي، ما أكدته إحدى الرويات في أنه في منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عهد الوالي "عباس حلمي الأول" عام 1853، كان ينطلق مدفعان للإفطار في القاهرة، الأول من القلعة، والثاني من سراي عباس باشا الأول بالعباسية، وبمضيّ الوقت، تَوَقف المدفع عن الانطلاق، وفي عهد الخديوي إسماعيل، ذهب العلماء والأعيان لمقابلة الخديوي؛ لطلب استمرار عمل المدفع في رمضان؛ ولكنه لم يكن موجودًا، فقابلوا الحاجة فاطمة ابنته التي أصدرت فرمانًا بانطلاق المدفع وقت الإفطار والسحور، وأضيف بعد ذلك في الأعياد؛ فأطلق عليه الأهالي اسم "الحاجة فاطمة"، ومنذ ذلك الوقت ومدفع رمضان ينطلق من قلعة صلاح الدين بالقاهرة، واستمر هذا حتى وقت قريب".

هكذا انطلق أول مدفع للإعلان عن الإفطار والصيام في القاهرة؛ ولكن المدفع توقف عن عمله لفترة، وأصبح الناس يُفطرون على صوته المسجل في الإذاعة فقط؛ إلا أنه عاد مرة أخرى بناء على أوامر وزير الداخلية آنذاك أحمد رشدي، الذي أمر بتشغيله ثانية، ومن المكان نفسه فوق سطح القلعة، طوال أيام شهر رمضان وخلال أيام عيد الفطر أيضًا.

ثم اعترضت هيئة الآثار المصرية على موقع المدفع؛ بحجة أن المدفع يهز جدران القلعة والمسجد والمتاحف الموجودة في المكان؛ فوافقت وزارة الداخلية على نقله مرة أخرى من القلعة إلى جبل المقطم القريب أعلى القاهرة؛ مما يتيح لكل أبناء العاصمة الكبيرة سماعه.

ثم انتقلت هذه العادة بإطلاق مدفع رمضان إلى الكثير من محافظات مصر؛ لأنها تضفي البهجة على هذا الشهر الكريم، ويخصص لكل مدفع مجموعةٌ من صف الضباط الأكفاء؛ حتى لا تتقدم أو تتأخر الأوقات، ويكون ذلك تحت إشراف الجهات الأمنية.

الدوال العربية والإسلامية

بدأت فكرة مدفع رمضان تنتشر من مصر إلى الدول العربية والإسلامية؛ إذ انتشرت في أقطار الشام بداية بالقدس ودمشق ومدن الشام الأخرى، ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت؛ حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح؛ وذلك عام 1907م، ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط، وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب إفريقيا، مثل تشاد والنيجر ومالي ودول وسط وشرق آسيا؛ حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في إندونسيا سنة 1944.

مكة المكرمة

استُخدم مدفع الإفطار في مكة المكرمة كغيرها من المدن السعودية؛ إذ اعتاد السعوديون عامة، وأهالي العاصمة المقدسة خاصة، وجود مدفع رمضان الذي يكون إلى جانب الأذان، مؤذنًا بالإفطار تارة، وبالإمساك وقت السحور تارة أخرى.

فالمدفع الرمضاني الذي ينقل التلفزيون السعودي يوميًّا وعلى الهواء مباشرة لحظة إطلاقه، عُرف عنه ظهوره في غرة الشهر الفضيل، بالإضافة إلى إطلاقه في الأعياد إيذانًا بدخول العيدين السنويين.

وظل المدفع يعمل في مكة طيلة 50 عامًا ماضية، قبل أن يتوقف العام الماضي، وجرت العادة في العاصمة المقدسة مكة المكرمة أن تطلق المدافع الصوتية؛ وذلك مع دخول وقت صلاة المغرب إيذانًا بالإفطار، كما يتأهب مدفع رمضان بمكة المكرمة لإطلاق أولى سبع قذائف صوتية؛ إعلانًا لدخول شهر رمضان المبارك، ثم يبدأ مزاولة مهامه الرمضانية بغرفته المخصصة له في مقر إدارة المهمات والواجبات بمكة المكرمة.

ويتم سنويًّا تجهيز المدفع بالذخيرة اللازمة "قذائفه الصوتية" التي يتم استخدامها طوال شهر رمضان المبارك وحتى أول أيام عيد الفطر؛ حيث يطلق طلقة عند دخول وقت الإفطار، وأخرى عند دخول وقت السحور، وطلقتان للإعلان عن الإمساك يوميًّا.

أما عند دخول عيد الفطر المبارك؛ فتدوي طلقاته الصوتية ابتهاجًا بالعيد، ويتم نقله إلى غرفته بمقر المهمات بعد أن يكمل إنجاز مهمته السنوية.

ويبلغ مجموع الطلقات التي يطلقها منذ دخول شهر رمضان المبارك حتى الإعلان عن دخول عيد الفطر المبارك، 150 طلقة تقريبًا.

ويخصص عدد من رجال الأمن للعناية به وتجهيزه وتهيئته وصيانته وتنظيفه منذ وقت مبكر وطيلة الشهر الكريم، وإطلاق الذخيرة الصوتية عند الإفطار وقبل السحور وعند الإمساك قبل صلاة الفجر.

ويعتبر مدفع رمضان في مكة المكرمة آلة يتم نقلها بواسطة مركبة من مقر إدارة المهمات والواجبات إلى مكانه الذي خُصص له بجبل من جبال مكة المكرمة المتميز بارتفاعه وخلوّه من السكان وقُربه من المسجد الحرام، وأطلق على الجبل "جبل أبو المدافع".

وكان في مكة المكرمة عدة مدافع في مواقع مختلفة في عدد من أحياء مكة المكرمة، ثم توقفت كلها منذ سنوات؛ إلا مدفعًا واحدًا هو الذي يتم استخدامه فقط (قبل أن يتوقف العام الماضي)؛ وذلك بسبب توافر وسائل الإعلان المختلفة ووسائل الاتصال المتعددة والمتنوعة للإعلان عن دخول الشهر الكريم والإفطار والإمساك؛ مما جعل الحاجة إلى استخدام المدفع للإعلان عن ذلك غير ضرورية؛ وإنما يتم استخدامه كرمز من الرموز والطقوس الرمضانية الموروثة في عدد من الدول الإسلامية والعربية.

الكويت

لا يزال مدفع رمضان في الكويت، منذ أن أُطلقت أولى ذخائره في البلاد عام 1907، يحتفظ بوظيفته ورونقه خلال شهر رمضان المبارك، ليحيي في كل عام تقليدًا تراثيًّا قديمًا اندثر في معظم بلدان العالم الإسلامي؛ بسبب عوامل التطور والحداثة.

وتحوّلت لحظة إطلاق المدفع الرمضاني الشهير، الموجود في قصر نايف، في العاصمة الكويتية، إلى أشبه باحتفال تراثي يبث عبر برنامج تلفزيوني على الهواء مباشرة، ويحرص جمهور من الكويتيين على المشاركة فيه.

وبدأ الكويتيون في استخدام المدفع؛ لمعرفة وقتيْ الإفطار والإمساك، منذ عام 1907، في عهد الشيخ مبارك الصباح (حكم البلاد من 1986 إلى 1915).

ويقول المؤرخ الكويتي عادل السعدون، في كتابه "موسوعة الأوائل الكويتية": إن "علي بن عقاب بن علي الخزرجي، هو أول من أطلق مدفع رمضان في الكويت، وقد تعلم استخدامه من العثمانيين".

ويضيف "السعدون" في كتابه، إنه "في عهد الشيخ مبارك الصباح، عُهِد إلى "ابن عقاب" بإطلاق المدفع وقتيْ الفطور والسحور؛ حيث كان يطلق طلقتين في كل وقت، ثم أصبحت طلقة واحدة خلال فترة حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح (حكم من 1921 حتى 1950)، وفي المناسبات كالأعياد تطلق سبع طلقات، وعند زيارة الحكام والضيوف الكبار تطلق 21 طلقة ترحيبية".

وكان المدفع الرمضاني، موجودًا في موقع يسمى "سيف الطوب"، بجوار قصر "السيف"، في الكويت العاصمة، قبل أن ينتقل عام 1953 إلى قصر "نايف"، بعد أن تسلم الأمن العام الكويتي المسؤولية عنه عام 1951.

الإمارات

لقد عرف الإماراتيون تقليد مدفع الإفطار، في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، وكانوا يسمونه بـ"الراوية"؛ لارتباطه بشرب الماء، واستمر هذا التقليد حتى اليوم.

وكان أول مدفع في إمارة الشارقة؛ إذ تصاحبه الآن فعاليات مرتبطة به، في بث مباشر عبر شاشة الشارقة، ويجتمع عدد كبير من المشاركين في تظاهرة مجتمعية، تنقل صورهم مباشرة إلى أهاليهم وذويهم؛ فيتحول التقليد إلى احتفالية بمشاركة الجميع.

وبرغم التطور العمراني الذي تشهده إمارة دبي، والذي يحول دون سماع صوت دوي مدفع رمضان بشكل واضح؛ تحرص الإمارة على إحياء تقليدها السنوي، الذي يزيد على 50 عامًا، في تنبيه الصائمين بموعد الإفطار؛ وذلك من خلال أربعة مدافع تتوزع في مناطق مختلفة منها؛ معلنة تميز شهر الصيام الذي يختلف عن بقية أشهر السنة.

وفي أبو ظبي أيضًا، يعود تقليد مدفع رمضان كل عام مع بداية الشهر الفضيل، على الحفاظ على العادات والتقاليد المتوارثة والتمسك بالموروث الاجتماعي الذي تَرَسّخ في ذاكرة المجتمع.

البحرين

ما زال المدفع يحتفظ بكونه أيقونة شهر الصيام لدى البحرينيين، ويجذب الكثيرين حوله مع قدوم الشهر الفضيل في كل عام؛ برغم ما عرفته الحياة من تغييرات على كل المستويات، أدت إلى اندثار الكثير من العادات والتقاليد القديمة.

فقد عُرف مدفع الإفطار في مملكة البحرين، منذ ثلاثينات القرن الماضي، وقبل أن يعلن عن اكتشاف النفط أو عن تأسيس المملكة.

وعادة ما يقوم أفراد من الأمن بإطلاق القذيفة لحظة مغيب الشمس، لإعلان حلول موعد الإفطار.

ولم يقتصر دور المدفع على الإعلان عن موعد الإفطار؛ ولكنه يطلق قذيفته أيضًا ليعلن عن موعد دخول شهر رمضان عند ثبوت الرؤية، وكذلك عند ثبوت رؤية هلال شوال؛ معلنًا عن حلول عيد الفطر، ويطلق أيضًا قذائفه عند حلول عيد الأضحى، ويكون عدد قذائف العيدين 12 قذيفة، لكل منهما.

ففي وقت الغروب وقرب موعد أذان المغرب؛ يتجمع العشرات من المواطنين والمقيمين برفقة ذويهم لمشاهدة مدفع الإفطار، وهو يطلق قذيفته.

ولا يذكر عام محدد يمكن القول إن مدفع الإفطار ظَهَر فيه بالبحرين؛ غير أن البعض من المصادر تقول إنه يعود إلى ما قبل عصر النفط، في ثلاثينيات القرن الماضي، وتستمر هذه العادة القديمة إلى هذا اليوم.

وتُوكَل مهمة الإشراف على مدفع الإفطار والإمساك وضبط التوقيت لأحد شيوخ الدين الذين يحددون موعد غروب الشمس؛ وفق توقيت الساعة؛ مقارنة بغروب الشمس الفعلي. وتتعدد أماكن إطلاق مدفع الإفطار في البحرين؛ حيث يتواجد حاليًا في مختلف المحافظات.

وتشير بعض المصادر إلى أن شمال المنامة، كان الموقع المخصص لمدفع الإفطار في العاصمة قديمًا، ومن ثم انتقل إلى الأرض المقابلة لسوق المنامة المركزي بعد ردم جزء من البحر لإنشاء السوق، وبقي مكان المدفع في هذا الموضع من المنامة لعدة عقود.

المدفع يغيب من جديد

بدأ مدفع الإفطار يغيب عن كثير من البلدان العربية والإسلامية لأسباب متعددة؛ منها تسارع الحياة العصرية، وتطور وسائل التقنية والإعلام، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي؛ مما أدى إلى القضاء على الموروثات الشعبية ومعظم طقوس رمضان القديمة، إضافة إلى عدة عوامل أخرى؛ أبرزها انتشار الإرهاب في عدة دول مثل تونس وليبيا وسوريا والعراق واليمن، التي -أوقفت أغلب مدنها إن لم تكن كلها- عادة إطلاق مدفع الإفطار؛ إعلانًا عن رؤية هلال رمضان وموعد الإفطار والإمساك طيلة الشهر الفضيل.

الحداثة وتطور وسائل الاتصال

ففي مكة المكرمة، افتقد الأهالي المدفع بعد أن اعتادوا على سماع صوته طوال خمسين عامًا خلَت إيذانًا للصائمين بالإفطار، وبعد أن تعلق الكبار والصغار منهم بذلك الصوت الذي ظهر قبل المكبرات الصوتية؛ لدرجة أن الكثير من الصائمين يمتنعون عن الإفطار حتى سماع صوت المدفع الذي يرتبط ظهوره بهلال الشهر.

كما اندثرت هذه العادة من بقية مدن السعودية ما عدا المدينة المنورة؛ إذ صدرت موافقة المقام السامي بإعادة استخدام المدفع الصوتي في المدينة المنورة، بدءًا من شهر رمضان المبارك من العام الماضي 1436هـ؛ وذلك لما يملكه المدفع الصوتي من إرث تاريخي تناقلته الأجيال في المدينة المنورة جيل بعد جيل.

وفي سلطنة عمان، اندثرت عادة إطلاق مدفع رمضان، وبقيت آثاره ومجسماته وأعداد منه تشاهد في المتاحف والمناطق السياحية والعامة.

الإرهاب يوقف مدفع رمضان

في تونس بدأت ظاهرة مدفع رمضان تختفي منذ حادثة صفاقس؛ إثر انفجار مدفع رمضان، وتسببه في وفاة مهندس وجرح جندييْن تونسييْن خلال رمضان 2010م، وانقطعت هذه العادة التي كان يتجمع حولها البعض من الأولياء بصحبة أبنائهم لحضور عملية إطلاق المدفع.

وازداد انتشار غياب المدفع عن المدن التونسية بازدياد ظاهرة الإرهاب التي رفعت من مخاوف السلطات من استغلالها لإحداث تفجيرات، وحضر المدفع في القيروان وغاب عن بقية المحافظات ومدينة تونس العاصمة.

كما أن وزارة الداخلية التونسية قد اتخذت قرارًا بمنع استعمال المدفع أثناء الإفطار خلال شهر رمضان منذ سنة 2014؛ ليشمل جميع محافظات التونسية، وقد اتخذته السلطات المعنية نتيجة الظروف الأمنية الخاصة التي تعيشها تونس، ثم تراجعت معلنة أنه بإمكان أي مدينة بها مدفع، استعماله خلال شهر رمضان.

وفي العراق وسوريا واليمن يختلط صوت مدفع رمضان بأصوات الانفجارات ومدافع الهاون؛ حتى أصبح الصائم لا يفرّق بينهما؛ برغم تعلق المواطنين بهذه العادة التي ارتبطت بموعد الإفطار في رمضان.

وقد استعاضت بغداد عن مدفع رمضان ببث تسجيل لإطلاق قذيفة من مدفع على شاشة التلفاز.

وفي اليمن، كما في سوريا، يتمنى الصائمون أن يسمعوا صوت مدفع رمضان، بعد أن أنهكتهم الحرب التي تحرمهم حياة هادئة في الأجواء الرمضانية.

مم يتكون؟

مدفع الإفطار أول ما استُخدم في الإعلان عن الإفطار والإمساك في رمضان، كان مدفعًا حربيًّا -كما ذكرنا في الروايات التي بيّنت أول استخدام له في رمضان- والمدفع هو اسم يطلق على أي قطعة مدفعية يستخدم فيها البارود أو أي مادة متفجرة أخرى لدفع القذائف، وتختلف المدافع في عيارها ومداها وسهولة حركتها ومعدل الإطلاق النيراني وزاوية الإطلاق وقوة النيران، واستخدم العسكريون المدافع في ميادين الحرب سواء في البحر أو البر أو الجو، وهو عبارة عن أنبوب معدني يقذف كتلة متفجرة تُدعى قذيفة.

ويتكون المدفع من سلك المشعل، وحجر بطارية، وسلك حديدي لاستخدامه في إطلاق القذيفة.

وظل المدفع الرمضاني يعمل بالذخيرة الحية في القاهرة حتى 1859 ميلادية.

إلى أن ظهر جيل جديد من المدافع التي تعمل بالذخيرة "الفشنك" (غير الحقيقة)، وتم الاستغناء عن الذخيرة الحية.

أما مدفع مكة فكان يطلق ذخائر صوتية ناجمة عن عملية انفجار البارود واحتراقه داخل فوهة المدفع؛ إذ ينطلق الصوت ليُسمع في كافة أرجاء مكة المكرمة ويصدر دخانًا متصاعدًا نتيجة لاحتراق البارود بعد إطلاق الذخيرة، ثم استبدل في السنوات الأخيرة بمدفع جديد "شبه آلي"، كما أن القذيفة التي يتم إطلاقها جاهزة وليس على الشخص الذي يقوم بإطلاقها إلا وضعها في المكان المخصص لها، ومن ثم يضغط الزر المخصص لإطلاق الصوت؛ بعكس المدفع السابق الذي كان يعمل يدويًّا؛ حيث يتم ملء فوهة المدفع بالبارود، ومن ثم يتم كبسه يدويًّا، بعد ذلك يتم إطلاق القذيفة عبر سحب حبل للخلف بشدة، ومن ثم ينطلق الصوت؛ وذلك قبل أن يتوقف عن العمل في السنوات الأخيرة.

ما حكمه؟

مدفع الإفطار لم يُستخدم في العصور المفضلة، ولم يُعرف في العالم الإسلامي إلا في عام 865 للهجرة وما بعده.

ولكن لا يوجد مانع شرعي أو محذور من استخدام المدفع في تنبيه الصائمين؛ بل يوجد مصلحة محضة لاستخدامه؛ لا سيما إذا دعت الحاجة إليه؛ ككبر البلد، وتباعد المساجد، فقد لا يسمع الأذان مَن كانت منازلهم بعيدة عن المساجد.

وقد سئل الشيخ عبدالكريم الخضير هذا السؤال: ما حكم المدافع التي تطلق عند وقت الإفطار؟

فأجاب حفظه الله: "هذه دعت إليها الحاجة، ولا مفسدة، قد يقول قائل: كانت الحاجة داعية في عصره -عليه الصلاة والسلام- فلم توجد؛ فهي داخلة في حيز البدع فيما قرره أهل العلم؛ نقول: الوضع يختلف تمامًا، كان المجتمع صغيرًا جدًّا في عصره عليه الصلاة والسلام، ويرون الشمس ويرون الفجر طلوعًا وغيابًا؛ أما الآن فمن يرى الصبح ومن يرى طلوع الشمس ومن يرى غروب الشمس؟ لا بد من شيء ينبه الناس إلى ذلك، وهذا مصلحة محضة ولا مفسدة فيه بوجه من الوجوه، والشرع جاء بتحصيل المصالح.. فبالنسبة للمدافع التي تطلق عند وقت اللزوم أو وقت الإفطار؛ فهذه مصلحة محضة، والناس بحاجة إليها".