في ذكرى رحيل بيرم التونسي.. ما وراء طفولة شاعر العامية البائسة؟

تقارير وحوارات

بيرم التونسي
بيرم التونسي


عاش طيلة حياته يعاني العرق والقلق، حتى بات أشهر شعراء العامية المصرية، وأخشى على الفصحى منه عميد الأدب العربي الحديث طه حسين، وبرغم قدرته العجيبة على نظم قصائد عاطفية من الدرجة الأولى، إلا أنه كان مُبدعا في نظم قصائد هجاء سياسية ثائرة، أثرت على حياة الشاعر بيرم التونسي، وجعلته يعيش منفيا قدرًا كبيرًا من حياته.
 
للشاعر الكبير الراحل بيرم التونسي، العديد من المحطات البائسة في حياته وفي ذكرى رحيله الـ 57، إذ رحل في 5 يناير 1961، عن عمر ناهز حينها 67 عاما، بحى السيدة زينب بالقاهرة، نستعرض أهمها فيما يلي.

في الإسكندرية وفي ٣ مارس ١٨٩٣ ولد بيرم التونسي واكتسب لقبه من جده، لأبيه الذي كان تونسياً، وعاش طفولة بائسة في حي "السيالة" بالأنفوشي والتحق بكُتّاب الشيخ جاد الله، حينما أتم الرابعة من عمره، كان الكُتاب يقع في حي زاوية خطاب الذي يتوسط بين حي الأنفوشي وحي الميدان الذي كان يقع فيه مصنع والده، فكان يخرج من الكُتاب إلى المصنع ليقضي باقي اليوم بعد الدراسة.

طفولة بائسة
وكانت عقدة بيرم أنه ضعيف في الحساب، لا يعرف كتابة السبعة من الثمانية، لذا لم ينج من وطأة الفلقة في يوم من الأيام، ولم يعد يطيق الطفل قسوة الشيخ جاد عليه، فذهب لأبيه ذات يوم ليرجوه أن يرحمه من قسوة الشيخ ولكن الأب لم يأبه، وأجبره علي الذهاب للكُتاب، وكانت النتيجة عدم استيعاب الطفل لأي معلومات يقولها الشيخ، وبالتالي زيادة معاقبته، وعندئذ لم يجد الأب أي فائدة من تعليم الطفل الذي كان يطمع في رؤيته يوما ما فقيها في العلم، فاضطر لإخراجه من الكُتَّاب، ويجلسه مع أولاد عمه في دكان الحرير الذي يمتلكه، ويحكي بيرم في مذكراته عن تلك الفترة من حياته أنه لم يستفد من الكتُاب إلا في الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة فقط، وحاول والد بيرم أن يعود إلى محاولة جديدة لتعليمه، فأرسله إلى مسجد المرسي أبو العباس، حيث المعهد الديني، الذي كان يتردد عليه أغلب أبناء تجار الحي، وأقبل بيرم على ما كان يلقى في هذا المعهد من دروس في نهم وشغف، ولكنه لم يكمل دراسته في هذا المعهد حيث جاء موت أبيه ليوقفه عن دروسه.

معاناته مع زوجة أبيه الثانية وزوج أمه
وفي العام الذي خرج فيه بيرم من الكُتاب، فُوجئ بحادثين، الحادث الأول هو مولد أخته وموتها بعد هذا الميلاد بثلاثة أيام، والحادث الثاني جاء عن طريق المصادفة، حينما اكتشفت أمه أن زوجها تزوج عليها سرًا من فنانة كانت تتردد على دكانه، وكان لهاتين الحادثتين أثر كبير على نفس الطفل حيث أصبح طفلًا حزينًا، لا يقبل اللعب مع الأطفال، وكان يكتفي بمراقبتهم وقت اللعب، وزاد من ذلك الحزن وتلك التعاسة المبكرة موت الأب الذي لم يترك للأم والأخت والابن غير المنزل الذي يعيشون فيه، حيث استولت زوجة أبيه علي ثروته لحظة موته، والتي كانت خمسة ألاف جنيه ذهبًا، واستولى أبناء عمه على تجارة أبيه، ونتيجة لذلك انقطع بيرم عن الدراسة وهو في الثانية عشرة من عمره، واضطر للالتحاق كصبي في محل بقالة، حيث أصبح رجل البيت، إلا أنه لم يستمر في هذا العمل حيث طُرد منه، ولم ينته الأمر عند هذا الحد من التعاسة حيث تزوجت أمه، والتحق بيرم بالعمل مع زوج أمه في عمله الشاق وكان يعمل بصناعة هوادج الجمال. ثم توفيت أمه عام 1910.

"بائع الفجل" بداية مشواره
كاد بيرم أن يقنع تمامًا بعمله الجديد، ويمضي في الكفاح من أجله إلى نهاية المشوار، لولا أنه فوجئ ذات يوم بالمجلس البلدي في الإسكندرية، وهو يحجز على بيته الجديد، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد عن سنوات لا يعلم عنها شيئًا، وكأن الدنيا أرادت بهذا الحدث أن تعلن عن مولد فنان، فقد اغتاظ بيرم، وقرر أن يرفع راية العصيان ضد المجلس البلدي بقصيدة يجعله فيها"مسخرة" في أفواه الناس، وكتب قصيدة "بائع الفجل"، وبعدها انفتحت أمامه أبواب الفن فانطلق فى طريقها ودخلها من أوسع الأبواب، اتجه بيرم إلى القصائد الزجلية أى أنه اختار الكتابة بلغة الشعب؛ وذلك بهدف أن تصل قصائده إلى كل فئات الشعب، ويتعرّف بيرم بـ"سيد درويش" ويكتب له أول قصيدة وطنية.

رحلة نفيه
لينتقل لمحطة جديدة من حياته، داخل قاهرة المعز، ويؤلف في هذه الفترة أوبريت جديدا بالاتفاق مع "سيد درويش".، ويواصل نشاطه في صحيفته فيصدر في العدد 13 قصيدة بعنوان "البامية الملوكى والقرع السلطاني" وفيها ما يفيد أن وريث العرش الجديد- وهو الملك فاروق- وُلد بعد أربعة أشهر فقط من الزواج! وعلى إثر هذه القصيدة أمر السلطان بإغلاق الصحيفة فورًا، فأصدر بيرم جريدة أخرى سماها "الخازوق"، وواصل هجومه فيها على الأسرة المالكة ولم يكن حظها بأحسن من حظ المسلة، وتم نفيه.

وأُبعد بيرم إلى أرض أجداده تونس التي لم يلقَ فيها ترحيبًا، وتمَّ وضعه تحت المراقبة منذ وصوله خوفًا من إثارته للشغب، وبسبب التضييق عليه سافر إلى فرنسا التي فشل في البقاء والعمل فيها، فتدبر طريقه للرجوع إلى مصر متسللًا.

عاش حياة من الهروب والخوف قبل نفيه بمصر
وفيها عاود الهجوم على السلطة بقصائده اللاذعة وألقى القبض عليه ونفى إلى فرنسا وهناك عمل فى شركة للصناعات الكيماوية ولكنه يُفصل من عمله ويواجه الجوع والتشرد وفى ١٩٣٢ يتم ترحيله إلى تونس وحينما كان يستقل الباخرة التي مرت على بور سعيد، ساعده أحد الركاب في النزول منها إلى مدينة بورسعيد ويبدأ بيرم في مصر حياة من الهروب والخوف التي كان يعيشها خشية أن يكتشف أحد أمره فيتم نفيه من مصر مرة أخرى، ويذهب إلى جريدة الأهرام، ويقابل صديقًا من المعجبين به ويعطيه خطابًا مهمًا.

جمال عبدالناصر يمنحه جائزة الدولة التقديرية
ويطلب بيرم في هذا الخطاب من كامل الشناوي أن ينشره له.. ويتصل كامل الشناوي بأنطون الجميل رئيس تحرير الأهرام، ويروى له قصة هذا الخطاب فيفاجأ برئيس التحرير نفسه وهو يقول له إن محمد محمود رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشى وزير الداخلية، وأحمد حسنين رئيس الديوان، من أشد المعجبين ببيرم، وبعد ساعتين استدعى أنطون الجميل كامل الشناوي وقال له: مبروك انشر الزجل.. وقدم هذا الزجل كامل الشناوى بقوله: إنهم تلقوا هذا الزجل من مجهول وهو بخط بيرم التونسي، وطلب فى هذا التقديم العفو عن صاحب الزجل خاصة وأن زجله ملئ بالاستعطاف، وما إن نشر هذا الزجل حتى أصدر وزير الداخلية أمرًا بتجاهل وجود بيرم في مصر. ويقدم التماساً إلى القصر فيتم العفو عنه، حتى وحصل بيرم على الجنسية المصرية في 1954. وفي ١٩٦٠منحه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر جائزة الدولة التقديرية.