حسام زيدان يكتب : وفي الدفاتر أشياء لا تشترى

مقالات الرأي

بوابة الفجر


المشهد، نهار خارجي، بيتين عريقين، عائلتين من ذوي الشأن والثقل في الحي، بينهما علاقات ضخمة ومصالح مشتركة، العائلة الأكبر والأعمق جذورًا قدمت مساعدة اقتصادية للثانية في فترات، وردت العائلة الثانية الجميل في فترات أخرى.

المشهد الثاني قام أحد بيوتات الحي بالاعتداء على العائلة الجارة، فقامت العائلة الكبرى بإرسال أبنائها والدفاع عن بيوت وأعراض هذه العائلة ورد الجميع إلى حدوده الأولى.

هذا هو المشهد بإجماله، ولكن عكر صفوه أمر صغير نسبيًا ولكنه مؤثر، أحد أبناء العائلة الأصغر، تطاول على العائلة الكبرى، وتناسى أو لم يستذكر دروسه جيدًا ولم يقرأ ما جرى في غابر الزمن قبل أن يوجد هو على ظهر هذه الدنيا.

بالطبع أدركنا المشاهد وأبطالها، وما هو الداعي لهذه لمقدمة لهذا المقال، المشهد يلخص الموقف في منتهى المنطقية، فمصر ضاربة بأعمق جذورها في العروبة، فأم العرب هي هاجر المصرية، وبالتالي فنحن أخوال العرب، والخال والد كما يقول المثل.

العرب الأنباط أحد الأصول المكونة للشعب المصري، وآثارهم وكتاباتهم تملأ سيناء، فنحن يوم أن نتحرك دفاعًا عن القضية العربية في أي وقت، وفي أي بلد، فنحن مدفوعين بانتمائنا لأصل من أصول هذا الشعب العريق ولدماء تجري في عروقنا.

لما تحركت مصر يومًا للدفاع عن الكويت الشقيقة ضد اعتداء شقيقة أخرى، وهي العراق، فلم يكن هذا سوى غيرة على عروبتنا قبل أي شئ آخر، وليس أفضل ممن يفض الاشتباك بين الإخوة سوى أخ لهم، وليس شبه من اليوم إلا الأمس، عندما بعث شارل الخامس لمعاوية بن أبي سفيان -في زمن الفتنة- يقول له آتيك بجيش يعينك على عدوك، -وهو يقصد علي بن أبي طالب-، فرد عليه معاوية لو لم تصمت لجئتك أنا وأخي في جيش أوله عندك وآخره عندنا.

هكذا تتعامل مصر دائمًا، مصر صاحبة أول جيش نظامي في التاريخ، والذي قاده عدة قواد من زمن الملك رمسيس الثاني ومرورًا بأحمس ثم صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز الذي صد سيل المغول، والذي قال عنه مؤرخو العالم باتفاق، لولا جيش مصر لاجتاح المغول العالم، والذي صد الحملة الصليبلية السابعة بقيادة لويس التاسع، والذي صد الحملة الفرنسية ثم الإنجليزية، والذي خاض حرب 48 ثم 56 ثم حرب اليمن ثم 67 ثم حرب الاستنزاف المجيدة، ثم حرب التحرير المجيدة، العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 73، والتي ردت للأمة العربية كرامتها، وشاركتنا فيها عدد من الدول العربية، وقبلها دفاع مصر ودورها في ثورة الجزائر، ثم في العصر الحديث حرب الكويت، وفتح أبواب مصر للاجئين من العراق وسوريا وفلسطين قدر ما نحتمل، ولم نكن في يوم إلا لهم نعم الإخوة سواء شعبًا أو حكومة.

هذه هي مصر يوم أن تفتح دفاترها، مصر التي شاركت في بناء الأمة العربية بكد وبتعب وبجهد وبعلم أبنائها، ولا يقل لي أحد لقد أخذتم أجوركم، فهنا أنت تهين المعلم والمهندس والطبيب، فمهما بلغ الأجر لا يساوي قيمة العلم، فقط هو يأخذ أجر الاحتباس، أجر الغربة والسفر، أما علمه فهو لا يقدر بمال، ولو أنه استغنى بعلمه، ومنع نشره لظللت أنت حيثما كنت، ولتنازلت عن الكثير كي تستقدم هذا العلم من الغرب.

هذه السيدة، التي هي في عمر الدولتين صبية، يجب أن تفيق وتدرك عما تتحدث، فليست الكويت بالجاحدة أو الناكرة، وليست مصر بالمتفضلة التي تمن على إخوتها، وإن كانت مصر تمر بكبوة في عصر من عصورها، فقد مرت الكويت بكبوات، وإن كانت الكويت تمر بأزمة فقد مرت مصر بأزمات، ولكن أن ينال أحد من كرامة البلدين فمرفوض بشكل قاطع حاسم لا نقاش فيه أو جدال.

ما دفعني لكتابة المقال هو أحبابي من الكويت الشقيقة، فلي أصدقاء وزملاء جاؤوا من بلادهم لينالوا برفقتنا درجتي الماجستير ثم الدكتوراة، وقد حز في نفوسهم ما قالته مواطنتهم، وقبل أن يسطروا حرفًا هاتفونا يعتذروا لنا عما بدر من هذه النائبة، ولهم أقول الكويت شقيقة، عزيزة، ومصر كبيرة متجذرة في عمق الحضارة والتاريخ والعروبة، ولا أدل على ذلك من موقف فريد حدث يوم الكشف الأثري الأخير في منطقة سقارة.

فلقد جاء سفير الكويت بناء على دعوة من وزير الآثار، ضمن وفد من سفراء العالم ليشهدوا الإعلان عن الكشف، وأعلن السفير الكويتي انبهاره بالحضارة المصرية، وبدأ فورًا في نقاش بروتوكول تعاون بين الآثار والكويت لنقل خبرات الأثريين في الحفائر، والمرممين في الترميم، والمؤرخين في تأريخ القطع الأثرية.

بمعنى أننا بصدد مرحلة جديدة لنقل الخبرات والعلم ستبدأ، فهل هؤلاء المرممين والمكتشفين المصريين الذين تكونت لديهم الخبرات عبر السنين، علمهم يقدر بمال؟، هذه البعثات عندما تنتقل للكويت ناقلة علمها، هل سيعايرنا الجيل القادم من الكويتين بأننا قبضنا ثمن العلم؟، هل للعلم ثمن أيها السادة؟، أناشد وزارة الآثار ببذل كل الجهد في معاونة إخواننا الأثريين الكويتيين، فالشعب الكويتي يدرك دائمًا معنى العلم وقيمته وأثره.

أما أمثال النائبة المبجلة فهى لا تفهم سوى لغة المال وفقط، ولا تدرك أن في الحياة أشياء لا تشترى، ولكنها توهب عن طيب خاطر لإخواننا في العروبة والدم والدين، وستظل علاقات مصر والكويت على خير ما يرام لا تؤثر فيها زوابع الفناجين، ولا نعرات القبلية التي تطل علينا بين الحين والآخر.