د. أحمد أبو رحيل يكتب: ضحايا لقمة العيش

مقالات الرأي



نحن كثيراً مانسمع عن ضحايا القطارات، وضحايا السفن، وضحايا الاهمال، وضحايا الجهل، وضحايا الفقر، وضحايا الفساد، وضحايا الارهاب.... وغيرهم الكثير من الضحايا.

ولكن الآن نحاول أن نطرح مسمى جديداً قد يكون أعم وأشمل،أوإذ لم يكن جديداً فإننا نحاول أن نعيده إلى الأذهان مرة اخرى،ونعرف الناس به بل ونوضحه للمسئولين،ونضعه على مرئى المثقفين والقراء فى محاولة وضع سياسة ورعاية لهؤلاء الضحايا،تحميهم من مخاطر الحياة وتوفر لهم الحد الادنى من المعيشة الكريمة.

هذا المسمى ياسادة هو مصطلح "ضحايا لقمة العيش"
هذا المصطلح هو مصطلح هام ويجب أن يحظى باهتمام فى أدبيات السياسة والاجتماع،وأن نضعه أمام واضعى السياسات ومنفذيها فى بلادنا .

"ضحايا لقمة العيش" ياسادة هم من يهاجرون عن أماكن اقامتهم ،ويتغربون عن أسرهم من أجل قوت يومى حلال "ضحايا لقمة العيش" ياسادة هم من يقطعون الكيلو مترات من أجل الحصول على عمل شريف وقد لا يكون مناسب.

"ضحايا لقمة العيش" ياسادة هم من يتركون أولادهم فلذات أكبادهم بالأيام والشهور وأحياناً بالسنين،ضحايا لقمة العيش ياسادة هم من يتركون أبويهم فى أشد أنواع العوز والاحتياج والعطف والحنان وهم فى سن الشيخوخة.
"ضحايا لقمة العيش" ياسادة هم من يعيشون مواطنين من الدرجة الثانية إذا كانوا خارج حدود دولتهم ،ومواطنين بلا سند وبلا مأوى إذا كانوا داخل حدود دولتهم حيث إنهم بعيداّ عن اسرهم واهليتهم ومعارفهم، حيث يفقدون عزوتهم وقوتهم ووقوفهم بجانبهم وقت الشدة او وقت الفرح .

والحقيقة الأليمة بل واللاذعة الألم هى إننا جميعا ضحايا ولكن كلاً منا يختلف فى السبب ،منا من هو ضحية العلم والدراسة،ومنا من هو ضحية المنصب والجاه، ومنا من هوضحية الشهرة والوجاهة،ومنا من هو ضحية المال والعمل، كل هؤلاء هم ضحايا ،على العلم أن من ينظر إليهم من بعيد يشهد لهم بالنيان والنجاح ،ولكن فى حقيقة الأمر هم ضحايا لايختلفوا كثيراً عن ضحيا المرض والجهل والفقر ...

ولكن الشئ المختلف أن بعض الاشخاص قد يكونوا ضحايا لأشياء يرغبون فيها ويسعون إليها ،وهنا لايشعرون بأنهم ضحايا ،ولكن إذا ما سألتهم عن مابداخلهم سيجيبون بأنهم ضحايا..

وفى حقيقة الأمر "أنا" فى هذه المقالة أخص بالذكر عمال اليومية والرواتب الصغيرة والاشخاص الذين يعملون فى أكثر من عمل يومى لسد حاجات أسرهم ومنعهم من العوز والاحتياج،ولا أقصد بالضبط عمالة الخارج لأنهم دائماً يفضلون الخارج  من أجل الحصول على راتب اعلى وحياة افضل ومسكن ملائم ،خاصة إذا كانوا من حاصلى الشهادات العليا فى العلوم المختلفة، ونتيجة لذلك فهم قد لايشعروا بفارق كبير بين بلادهم وخارجها ، مع أن هذا لايمنع أن هناك عمال فى الخارج لايجدون الراحة التامة والعيشة المرضية ..

على كلاً "أنا" هنا اقصد العمال المصريين الذين لايجدون وقتاً لكى يستمتعوا بحياتهم مع أولادهم وأقاربهم وأصدقائهم ،فغالباً ما يعملون فى أصعب الظروف والأوقات وفى العطلات والأجازات، وقد تصل مدة العمل الى 12 ساعة يومياً وهو وقت منافى لكل قوانين العمل، ومنافى للحد الادنى من توفيرالمعيشة الكريمة ،هؤلاء العمال ليس لديهم وقت لمتابعة سير الحياة اليومية من اخبار سياسية او رياضية او ثقافية او فنية ،ولا أى شئ من مناحى الحياة، فهم لايستفيدون حتى من التنزه فى الحدائق العامة .

فأى حياة يحياها هؤلاء ؟؟!!
 فهؤلاء الشباب العمال هم ضحايا لقمة عيشهم فلايستفيدون من خدمات وزارة الشباب والرياضة من ندوات ،ورحلات ،ومعسكرات ،ودورات التى تقدمها حالياً وتولى الدولة بها اهتماماً شديداً فى وقتنا الحالى،ولا يستفيدوا هؤلاء الشباب من خدمات قصور الثقافة من تصحيح المفاهيم ونشر الوعى والفكر السوى الصحيح ،حتى الطلاب العاملين لايستفيدوا من خدمات الجامعة الصيفية  فهم ضحايا لقمة عيشهم .

وفى الحقيقة وفى واقع الامر لايسيتفيد من خدمات الدولة إلا أبناء الاسر الغنية التى لديها وقت لشغل اوقات فراغهم.

اما هؤلاء الضحايا ليس لديهم وقت حتى لمعرفة حقوقهم ووجباتهم تجاه الدولة ،فتضيع الكثير من حقوقهم بسبب عدم وعيهم سواء فى المستشفيات او فى الجامعات او فى اقسام الشرطة وغيرها من المصالح الحكومية الاخرى.
والحقيقة كانت تراودنى فكرة كتابة هذه المقالة منذ مدة عندما دار حديث بينى وبين أحد الأشخاص الذى عرفت فيما بعد انه يعمل فى مجال تركيب الرخام والسراميك ،حيث التقيت بهوالصدفة جمعتنا ودار بينى وبينه حديثاً، حيث رأيت الحزن فى عينيه ،وعندما سألته عن سبب هذا الحزن قال لى وإيه اللى يفرح؟ !!!

والحاجة اللى بنام فيها بنصبح فيها،والأيام بقت تشبه بعضها والدنيا صعبة والعيشة غلا ،فطلبت منه أن  يوقف الشغل الخاص به يومين ويذهب إلى مركز الشباب التابع له وأن يقوم بالحجز فى إحدى أفواج الرحلات التى تنظمها وزارة الشباب والرياضة فى هذا الوقت  حتى يستفيد منها ويشعر ولو بجزء بسيط من اهتمام الدولة به خاصة إنه متعلم ويجيد لعب كرة القدم ،فقال لى ياأستاذ احنا ماعندناش وقت، بنشتغل 12 ساعة وبنرجع البيت يدوب ننام عشان نصحى للشغل تانى،  والوقت اللى مافيهوش شغل بنبقى حاملين هم اكل العيال وشايفين الدنيا سودة ، ثم سكت برهة من الوقت ثم رد قائلاً وفى نفسه تنهيدة وجع وحزن ((احنا ضحايا من نوع تانى)) "ضحايا لقمة العيش".

وفى الحقيقة وقتها عجزت عن الرد حيث تأثرت بكلامه نتيجة لملامح وجهه الحزينة المقنعة لأى شخص وفكرت فى هذا الاكلام بعواطفى وليس بعقلى فلم أجد الرد وقتها ،ولكن فيما بعد وأنا أتذكر كلام هذا الشخص وتعاملت بعقلى معه وكيفية الرد عليه لكى أجد مبرراً حتى لنفسى، فتذكرت إنه لا حيلة فى الرزق ،وان رزق الانسان مقسم وكل شئ منتهى من الله ومعلوم عند الله، والانسان ما عليه إلا أن يسعى ويستكشف فقط ،وأن هذا الشخص يجب ،أن يكون مؤمناً اكثر من ذلك ،ولكن تذكرت أيضاً إننا ضحايا افكارنا حتى وإن كانت خاطئة ولكننا فى الحقيقة نؤمن بها ونتصرف بناءاً عنها ،والواقع إنه ضحية تفكيره قبل أن يكون ضحية لقمة العيش 
وتركت الموضوع وقفلته مع نفسى ...

ولكن ذات يوم وأنا تصفح مواقع الأخبار لمتابعتها ،إذ بخبر يفيد بحادث ركاب ميكروباص يحمل عمال يمتهنون مهنة الصيد من قرية تسمى شكشوك التابعة لمحافظة الفيوم وهى محافظتى التى اسكن بها، أثناء ذهابهم إلى عملهم فى محافظة اسوان ،ووقتها توقفت وتذكرت مصطلح( ضحايا لقمة العيش) الذى كان يحاول أن يقنعنى به هذا الشخص.

ووقتها أيقنت بالفعل أن هناك ضحايا لقمة العيش الذى يجب أن تهتم الدولة بهم وبأسرهم وتوليهم رعاية واهتماماً فى كافة مناحى الحياة ،وأن تضغهم فى أولوياتها، وأيقنت وقتها أيضاً أن التجربة خير دليل ،وأن المنظرين والسياسين بعيدً كل البعد عن الواقع،وتذكرت مقولة الشاعر الكبير "إيليا ابو ماضى" فى مقولته( كل مافى الحياة من فلسفة لايعزى فاقداًعما فقد).

وفى النهاية أتسائل ألا يستحق ضحايا لقمة العيش معاش كضحايا الإرهاب الذى تولى الدولة بهم اهتماما عظيماً فى الوقت الحالى نتيجة لجهودهم العظيمة ،حيث إنه فى رأى أن ضحايا لقمة العيش لايقلون وطنية عن ضحايا الارهاب،وإن كان ضحايا الارهاب يستمتعون بانتصاراتهم اثناء عملهم ويصبحوا شرفاًلاسرهم وتوثق المنشئات الرسمية بأسمائهم تخليدا لهم بعد موتهم ،اما ضحايا لقمة العيش فهم يعيشون شكلاً من أشكال العبودية.

حيث إنه فى الحقيقة حينما تنفق دخلك بكامله فقط من اجل الطعام ومكان للنوم ،فى هذه الحالة لايمكن اعتبار أن العمل فرصة للتطوير الاجتماعى ،ولكن مجرد وسيلة للبقاء على قيد الحياة ،وفى الحقيقة هذا يسمى عبودية !!..

واخيراً أرجو من السادة المسئولين أن يضعوا ضحايا لقمة العيش سواء احياء أم أموات ،أمام اعينهم وفى خططهم 
حفظ الله مصر ،حفظ الله العمال،أثاب الله ضحايا لقمة العيش..