عادل حمودة يكتب: "طبخة القرن" على طريقة كتب التدبير المنزلي

مقالات الرأي



دولة فلسطينية منزوعة السلاح عاصمتها أبو ديس تقبل بسيطرة إسرائيل على نهر الأردن والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وقبر المسيح

أبو مازن يرفض التفاوض ولكن مدير مخابراته يحضر لقاء سريا لقيادات أمنية عربية وإسرائيلية فى العقبة ومرشح لخلافته

إغراء الفلسطينيين بقبول الصفقة بمحطات كهرباء وميناء ومشروعات صناعية فى غزة ترفع المعاناة عنهم


عندما صلى الرئيس أنور السادات ركعتين فى المسجد الأقصى ودخن البايب مسترخيا فى شرفة فى فندق الملك داوود تصور أن الجيتو اليهودى سيفتح أبوابه ليخرج إليه النبى موسى حاملا سيناء والجولان والضفة الغربية على طبق من كريستال.

واستردت مصر سيناء بمعركة سياسية شرسة ولكنها فى الوقت نفسه خرجت من حسابات الحرب الساخنة وبتفتيت العراق وتدمير سوريا وتقسيم ليبيا بجانب الطعنات المتبادلة بين الفصائل الفلسطينية المختلفة سبحت القضية فى منطقة انعدام الوزن وفقدت فى الفضاء وأصبح من الصعب زراعة السلام فى عقلية إسرائيلية متشددة شديدة الملوحة.

وكلما ضعف العرب قيراطا تجبرت إسرائيل فدانا وكلما انفرطت حبات مسبحتهم قويت شوكتها وزادت سطوتها وفرضت شروطها.

والأهم أن العرب اقتنعوا بأن قوة إسرائيل أشد وأصعب من أن تقاوم بل أكثر من ذلك اعتبروها حليفا فى صراعات إقليمية أو مساندا فى مواجهة تنظيمات إرهابية وفى الوقت نفسه آمنوا بأن الحل الذى ستسعى لفرضه هو نوع من القضاء والقدر لا يملكون إلا الدعاء باللطف فيه.

وشعرت كل دولة عربية بأن ما فيها يكفيها دون أن تستوعب أن الحروب الطائفية والعرقية والإرهابية التى تستنفد جهدها صناعة إسرائيلية هدفها فى النهاية أن تقبل الأمة بشراب الخروع الذى رفضوا تناول ثماره.

وبعد أن كانت إسرائيل تابعة للولايات المتحدة وأداة فى يدها انقلبت الآية لتصبح الولايات المتحدة خادمة لها منفذة لمشيئتها محققة لكل أحلامها وبدا ذلك واضحا فى تصرفات وقرارات الإدارة الأمريكية الحالية.

لم يتردد ترامب فى نقل سفارة بلاده إلى القدس تأكيدا على أنها عاصمة موحدة وأبدية للدولة العبرية وعربون فاضح على صفقة القرن.

إن كلمة الصفقة تستخدم عادة فى البورصات والمناقصات وتجارة الخردة وتهريب المخدرات ولكن المؤكد أنها مصطلح مشين فى قاموس السياسة لا يفرض نفسه إلا على الاتفاقيات السرية المشبوهة التى تطبخ فى الخفاء إلا أنه على ما يبدو مصطلح يناسب رئيسا مثل ترامب لا تتجاوز خبراته حدود المضاربة على العقارات واستثمار أمواله فى كازينوهات القمار حيث كل شىء مباح من البلف إلى العهر ومن الربا إلى الرياء والكتاب الوحيد الذى يفخر بتأليفه عنوانه : فن الصفقة .

واختار ترامب وسيطا لعقد الصفقة صهره جاريد كوشنر وهو مثله ينتمى لفئة السماسرة الذين يكسبون من البائع والمشترى دون أن يمسوا حافظة نقودهم ولكنه وسيط منحاز بحكم يهوديته المتعصبة لشعبه وحكومته المختارة فى إسرائيل وإن لم يحمل جنسيتها.

ولا شك أن كوشنر أقوى من ترامب ويسيطر عليه من نقطة ضعفه ابنته مارى إيفانكا التى رفض أن يتزوجها رغم حبه الشديد لها إلا إذا نبذت مسيحيتها وانتمت إلى يهوديته.

ولو كان كوشنر تصرف بقسوة مع من يهواها ويذوب فى سحرها فكيف سيتعامل معنا وهو لا يؤمن بديننا ولا يستسيغ طعامنا ولا يعترف بحقوقنا؟.

ويدعم كوشنر مناخ من الهوس الدينى فى بلاده تنشره جماعات المسيحية الصهيونية التى صفقت لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لشدة إيمانها بضرورة عودة الشعب اليهودى إلى كامل أرضه الموعودة فى فلسطين تمهيدا للعودة الثانية للمسيح ليؤسس مملكة الألف عام.

إن مؤسسات الحكم المتصارعة فى الولايات المتحدة تتفق فى أمر واحد.. سهولة إيذاء العرب.. فهم طيبون عاطفيون متسامحون.. يفرون بسرعة ويهمدون بسرعة وكأنهم قبائل من مياه غازية .. وردود فعلهم كانت دائما كلمات حماسية.. سطحية.. وبمرور الوقت فقدتها على ما يبدو.. أما إيذاء إسرائيل فسلك كهربائى مكشوف يصعق من يلمسه دون إنذار.

والمفاجأة أن التفكير فى الصفقة سبق وصول ترامب إلى البيت الأبيض بل ربما كان شرط دعم اللوبى اليهودى له فى الانتخابات الرئاسية أن ينفذ الصفقة أما إذا تراجع عنها بعد أن يحكم فإن فضيحة روسيا جيت على طريقة ووترجيت ستكون فى انتظاره.

فى كتابه «نار وغضب» يرصد مؤلفه مايكل وولف اجتماعا فى 3 يناير 2017 (قبل أن يحلف ترامب اليمين الدستورية ) بين ستيف بانون (أقوى رجال ترامب وقتها) وروجرز إيلز (أحد ملاك شبكة فوكس نيوز الداعمة لترامب) كشف فيه بانون عن طبيعة الصفقة: سننقل السفارة الأمريكية إلى القدس ونعيد غزة إلى الإدارة المصرية (تنجح أو تغرق بها) ونضم أرضا من الضفة الغربية إلى الأردن لتستوعب الفلسطينيين الذين سيصبحون مواطنين فيها .

وسأل إيلز عن موقف الرئيس ترامب فأجاب بانون: موافق طبعا.

وتسرعت واشنطن بنقل سفارتها إلى القدس مما أغضب الفلسطينيين فقاطعوا نائب الرئيس مايكل بنس وقاطعوا مهمة كوشنر وجيسون جرينبلات (المبعوث الأمريكى للسلام فى الشرق الأوسط) التى تضمنت مباحثات فى مصر والسعودية والأردن وقطر وإسرائيل ولكن المقاطعة الفلسطينية لم تمتد إلى مدير مخابراتها ماجد فرج الذى شارك فى لقاء عقد بالعقبة لقيادات أمنية فى دول معنية بالقضية أو بالصفقة وإن ظل صامتًا طوال اللقاء ولم يبد رأيه فيما يسمع.

وحسب ما نشر موقع المجلة الفرنسية إنتلجنسن أونلاين فإن ماجد فرج مرشح قوى لخلافة أبو مازن ويحظى بثقة الإدارة الأمريكية.

وربما يفسر ذلك عدم مبالاة كوشنر من رفض أبو مازن لمناقشة الصفقة وكان تعليقه أنها ستنفذ ستنفذ ولو لم يشارك فيها الرئيس الفلسطينى فهل هناك رجال حوله سينفذونها ويقبضون الثمن بوضعهم فى السلطة؟.

وتجمع الصحف الإسرائيلية على أن الصفقة اصطدمت بمواقف مصر والأردن والسلطة الفلسطينية واعتبروها طبخة يصعب هضمها فليست القضايا المزمنة تحل على طريقة التدبير المنزلى.

حسب مصادر المحلل الإسرائيلى البارز تسيبى بارائيل فإن مصر تصر على حل الدولتين طبقا لحدود يونيو عام 1967 وأن تكون القدس الشرقية عاصمة فلسطين وليست أبو ديس التى ستعيدها إسرائيل مع أربعة أحياء عربية شرقى القدس وشمالها مما يعنى أن المدينة القديمة ستكون بين يدى إسرائيل بجانب سيطرتها الكاملة على وادى الأردن بجانب أن الدولة الفلسطينية ستكون منزوعة السلاح دون جيش ودون أسلحة ثقيلة.

وفى الوقت نفسه ينزعج العاهل الأردنى الملك عبد الله الثانى من إلغاء رعاية بلاده على الأماكن المقدسة وسيطرة إسرائيل على وادى الأردن وعبر عن ذلك بوضوح فى لقاء سرى مع نتانياهو.

وبينما يشعر العاهل السعودى سلمان بن عبد العزيز بقلق من الصفقة ولكن يبدو ولى عهده متحمسا للتفاهم حولها.

ويجب ملاحظة أن كوشنر رغم دوره المؤثر ليست له صفة رسمية بينما قبل جرينبلات بدور المحلل أو الكفيل مما يعنى نوعا من السياسة يفرضها ترامب لم تعرفها الولايات المتحدة من قبل ويمكن وصفها بالدبلوماسية العائلية.

وقد استهلكت الولايات المتحدة القضية بالتقسيط أو بالتنقيط حتى وصلت إلى السفح متجهة إلى القاع.

منذ كامب ديفيد المصرية (عام 1978) برعاية جيمى كارتر إلى كامب ديفيد الفلسطينية (عام ألفين) برعاية بيل كلينتون كان المفاوضون الأمريكيون يرفضون الحديث عن التاريخ فشطبوه من حساباتهم وركزوا على الجغرافيا ولكنهم الآن أحرقوا الخرائط وبدأوا الحديث عن دفاتر الشيكات لتصبح الصفقة اسما على مسمى.

تركز الصفقة على خمسة مشروعات صناعية فى غزة تستوعب أعدادا من العاطلين هناك لتخرجهم من التنظيمات المسلحة بجانب محطة تنتج الكهرباء من الطاقة الشمسية وبناء مطار تسيطر عليه حماس وميناء تتولى بناءه قبرص ويفتح الباب لشركات النفط الأجنبية لاستخراج الغاز الطبيعى.

ويسعى كوشنر جاهدا لاكتساب الدول العربية التى زارها بجانب الصفقة ولكنها لم تقبل بما يعرضه وهو ما جعل البعض ينصحه بتكتم السرية حتى ينتهى من التصور النهائى لما يريد وحتى لا يستخدم ما ينشر عن الصفقة فى حشد الشعوب العربية ضدها.

ولعل الملاحظة الخطرة التى حملها معه كوشنر عائدا إلى واشنطن: إن الصفقة التى يروج لها ليست شأنا فرديا يمكن لرجال فى السلطة العربية أن يقبلوا بها على هواهم أو تحل بالطريقة التى تحل بها المشاكل العائلية.

إن المشكلة العربية الإسرائيلية موجودة تحت المياه الجوفية تحت جلد العرب جميعا ولا سبيل لإيقاف الإحساس بها إلا بنزع جلودهم .

ولكن هل سيأخذ كوشنر هذه الملاحظة فى حساباته أم أن شعوره بأنه الأقوى سيجعله يمضى فيما يدبر مهما كان الثمن السياسى والأمنى الذى قد يدفعه كل من يشارك فى الصفقة قبولا أو صمتا.