د. نصار عبدالله يكتب: رحيل المتعبد لله بحب الوطن "2"

مقالات الرأي



نواصل فى هذا الأسبوع مابدأناه قبل حلول رمضان المبارك من الحديث عن خالد محيى الدين الذى لم نجد وصفا يجمل حياته كلها فى عبارة واحدة سوى أنه المتعبد لله بحب الوطن، وهو ما فطن إليه مبكرا كما أشرنا فى مقال الأسبوع الماضى نتيجة لاقترابه من أتباع الطريقة الصوفية النقشبندية ومتابعته لما كانوا يقومون به من عون لسائر عباد الله فى مختلف المجالات دون أن يخطر ببالهم يوما أن يسألوا أحدا أجرا، عندئذ خطر بباله أنه يمكن أن يخدم كل أبناء الوطن لو أنه أتيحت له الفرصة والتحق كضابط فى جيش هذا الوطن، وقد أتيحت له الفرصة بالفعل فى عام 1938 عندما كانت الأجواء العالمية العامة تتجه إلى توسيع الجيش المصرى وزيادة عدده استعدادا لاحتمالات قيام الحرب العالمية الثانية، وهكذا فتحت الكلية الحربية أبوابها لأول مرة للحاصلين على شهادة الثقافة العامة بعد أن كانت تقتصر قبل ذلك على قبول الحاصلين على التوجيهية وأهم من ذلك أنها فتحت أبوابها لأول مرة لأبناء الطبقة المتوسطة، وهكذا التحق خالد محيى الدين فى ذلك العام بصفوف الكلية الحربية حيث فرضت عليه هو وزملاؤه دراسة كل المواد التى يدرسها أقرانهم فى المرحلة التوجيهية وامتحنوا فيها قبل أن يسمح لهم باستكمال الدراسة العسكرية، هكذا يقف خالد لأول مرة فى طابور بالكلية وهو لم يتجاوز السادسة عشرة إلا ببضع شهور، وهناك يلتقى بأسماء كثيرة كان لها فيما بعد دور كبير فى إعادة تشكيل ملامح الوطن: مجدى حسنين، ولطفى واكد، وصلاح هدايت وقد كان هؤلاء الثلاثة من دفعته، ثم حسن إبراهيم الذى كان فى ذلك الوقت أمباشى وكذلك (الأمباشى) صلاح سالم، أما كمال الدين حسين فقد كان شاويشا! وعبداللطيف بغدادى وحسن إبراهيم كانا فى النهائى، وكانا فى نفس الوقت يحضران الدراسة مع زملائهما فى الكلية ثم يذهبان للتدرب فى الطيران وبالإضافة إلى تلك الأسماء كان هناك زكريا محيى الدين الذى يدرس للطلاب فى النهائى وكان هناك من بين المدرسين يوسف صديق وأحمد عبدالعزيز الذى كان يدرس مادة التاريخ العسكرى والتى أضفى عليها روحا وطنية دافقة، وعندما تخرج خالد فى الكلية عام 1940 وهو فى الثامنة عشرة من عمره عمل فى الآلاى الأول دبابات (سلاح الفرسان) لكنه سرعان ماصدم بعد تخرجه صدمة شديدة حركت فى نفسه - كما يحكى لنا - كل ما تراكم فى وجدانه من مشاعر وطنية، ففى ذات صباح ذهب إلى الآلاى ليجد عددا من الضباط الإنجليز يفحصون الدبابات !، وعندما سأل عما يجرى كانت الإجابة التى حزت فى نفسه كأنها سكين قاتل: «الإنجليز سيأخذون دباباتنا!)...كان الجيش الإنجليزى قد تلقى هزائم ساحقة فى «دنكرك» على يد الألمان، وفقد الكثير من سلاحه، ووجدوا المصريين فريسة سهلة، فأخذوا معظم دباباتهم! وعلى سبيل المثال فقد كان بالآلاى الأول أربع كتائب دبابات أخذوا منها دبابات ثلاث كتائب، وترك هذا لدى الضباط المصريين إحساسا بالمرارة لا يوصف وقدرا من الشعور بالمهانة يصعب تحديد مداه، وبعد أن كانت عبارة: الآلاى الأول المدرع تدعو إلى الفخر والزهو أصبحت كما يقول خالد ذات طعم مرير فى الفم...غير أن المهانة الأكبر كانت يوم 4 فبراير 1942 عندما حاصر الإنجليز قصر عابدين بالدبابات، وطلبوا منه تكليف مصطفى النحاس بتشكيل الوزارة!، لم يكن الضباط الوطنيون ومن بينهم خالد يحبون الملك أو يحترمونه، بل على العكس تماما كانت صدورهم تجيش بالغليان ضده وضد بطانته الفاسدة.. لكنه فى النهاية رمز للوطن والقائد الأعلى للجيش، ومن ثم فإن محاصرة قصره هو إهانة بالغة للوطن والجيش معا، وفى أعقاب هذه الواقعة عقد الضباط الوطنيون اجتماعا فى نادى الضباط كان من بين الحاضرين فيه أحمد عبدالعزيز الذى وقف ليقول إن ضابط الحرس الملكى أحمد حسنى صالح قد أضاع فرصة تاريخية، لأنه كان يتحتم عليه أن يضرب الضابط الإنجليزى بالرصاص، فإن قتلوه كان شهيدا قادرا على أن يقدم لمصر رمزا لرفض الاحتلال ومقاومته.. وقال ضابط آخر: إن ضابط الحرس الملكى طلب إذنا من الملك بضرب النار، لكن الملك رفض، وأصدر تعليمات مشددة بعدم استخدام القوة، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان هناك حادث آخر ذو تأثير كبير على خالد محيى الدين ألا وهو اعتقال الضابطين: أنور السادات وحسن عزت، ولقد رحل السادات إلى ميس المدفعية، أما حسن عزت فقد بقى فى ميس الفرسان، حيث أتيح لخالد أن يستمع إليه وهو يتحدث بمحبة دافقة عن مصر كوطن عظيم بإمكانه أن يصبح قوة عظمى.