عبد الحفيظ سعد يكتب: عبده داغر.. كل الطرب عند العرب أصله القرآن

مقالات الرأي



حروف القرآن علمتنى اكتشاف الألحان وترجمتها على الآلات الموسيقية

حكايات "بيتهوفن العرب" مع الموسيقى وآيات الذكر

"المشايخ" مكتشفو النغم ومدرسة التلاوة خرجت جميع الموسيقيين والملحنين الحقيقيين

قصة اكتشاف ملوك الإنشاد الشيخ النقشبندى وعمران


فى مصر.. ستظل لقصة القرآن والموسيقى فصول ممتدة.. تحمل معانى عميقة.. وتمتاز بطابع خاص.. حكاية فصولها بدأت منذ ما يزيد على قرن من الزمن.. دارت بين مآتم وأفراح وليالى وسهرات.. فى ضواحى القاهرة القديمة وبيوت ومصاطب قراها فى أرياف الصعيد والدلتا عاش أبطالها تفاصيلها.. تضم كثيراً من الأسرار والحكايات والشخصيات.. أحد هذه الشخصيات والذى عاش كثيرا من هذه التفاصيل.. يأتى الموسيقار المصرى العالمى عبده داغر، والذى ذاع صيته، فى الخارج قبل أن يعرف الكثير عنه فى مصر..

وكان السر الذى يحمله «داغر»، أنه أحد القلائل الذى ربط بين القرآن والموسيقى بكل لغاتها.. رغم أن العربية هى لغة القرآن.. فى حكايات عبده داغر، يكشف عن جزء من تفاصيل هذا السحر بين القرآن والموسيقى، عندما يشير إلى أن مخارج ألفاظ آيات الذكر الحكيم، كانت مصدر النغم لكل العازفين والموسيقيين (وهو واحد منهم)، وهوما جعله يرى نفسه كموسيقى بأنه تلميذ قارئى القرآن الأوائل الذين ظهروا فى مصر فى مطلع القرن العشرين..

حكايات عبد داغر التى يسردها لنا، تعبر عن تجربته الممتدة لعشرات السنين، بدأت من زمن كانت تفوح من مصر رائحة مختلفة.. حيث للموهبة مكان وللإبداع من يحتضن، ومنه خرجت نهضة مصر الموسيقية ومعها مختلف الفنون، كأحد أزهار عصر النهضة المصرية، وامتازت الموسيقى فى ذلك العصر أن كان لها مزاج ونكهة خاصة، لأنها ولدت مصرية فى الصميم..

يسرد عبده داغر، تفاصيل حكايات عن الموسيقى والقرآن، عبر حكايات ومعاناة فى رحلة الطرب، منذ طفولته فى مدينة طنطا.. ورغم أنه لم يعان من أثقال وتدريب موهبته على الموسيقى، بل على العكس تماما كان الطريق ممهدا أمامه.. فوالده مصطفى داغر، ورث عن جده محلاً لبيع الآلات الموسيقية.. خاصة أن محل بيع الأدوات الموسيقية الذى ورثه والد داغر، تطور فيما بعد ليضم معهداً على التدريب على الموسيقى فى طنطا، والتى كانت تعد عاصمة الطرب فى القرن الـ19، فمنها كان عبده الحامولى، وأيضا عبد الحى حلمى، ومحمد فوزى..

ويحكى عبده داغر أن جده، هو من دعا أبوالعلا محمد ليتعرف على صوت أم كلثوم عقب سماع صوتها فى قرى المنصورة. ومن طنطا أيضا يوجد أهم قراء للقرآن وعلى رأسهم عطية السماء الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ خليل الحصرى، وأيضا عبدالفتاح الشعشاعى.

وسط هذه الحالة نشأ عبده داغر ما بين طرب موسيقى وطرب قرآنى، ولذلك كان انجذابه للموسيقى منذ الصغر، لكن والده لم يروق له أن يأخذ ابنه الكبير «عبده» نفس المهنة، خاصة أنه كان ينظر إليها فى حينها على أنها مهنة غير مستحبة.

ومن هنا دار صراع بين رغبة الأب وتمرد الابن، لكن داغر الصغير أصر على طموحه فى الموسيقى، وهو التمرد الذى لازمه طوال حياته، وجلب له المتاعب، فرغم موهبة عبده داغر فى الموسيقى والتى وصلت به للعالمية لدرجة أن تم وضع تمثال له فى حديقة الخالدين بألمانيا، بجوار تماثيل لبتهوفن وموتسارت وباخ وهندل، كما وصف فنه فى الغرب بأنه «موسيقار من أمة القرآن تتلبسه أرواح الموسيقيين العظام».

ولكن حكايات عبده داغر مع الموسيقى، والطرب تتجاوز فكرة اسمه وتكريمه إلى قضية لا يمل الحديث عنها، وهى قصة الموسيقى والقرآن، فيدافع دائما عن الموسيقى العربية، وأنه فن له أصل ومنبع، وهو القرآن الكريم، معتبرا أن كل الألحان التى خرجت مصدرها هى التلاوة القرآنية.

يحكى داغر فى الحوار الممتد معه، قائلا: «القرآن الكريم، هو اللى خلق المزيكا فى الكون كله الكون كله فيه حضرة وفيه أولياء، وكان فيه أنبياء حاسّين بهذا كله». لكن داغر يتجاوز المسحة الصوفية عن الحديث عن النغم القرآنى وربط بالموسيقى، لإعطاء تصور عملى يربط به فكرة القرآن بالموسيقى، مستطردا: «تعالى أقرب حاجة الملحن بيلحن كيف؟ يتأمل ويستوعب قارئ القرآن كيف يقرأ، هذا مد وهذا كسر ويلحن على هذا الأساس.. اتحدى أن يكون هناك لحن حقيقى وكان له مصدر غير القرآن، بداية من الحامولى لسيد درويش لعبدالوهاب لأم كلثوم أو السنباطى.. كل الملحنين أخذت من مصدر واحد وهو تلاوة القرآن.

عندما عملت منهج موسيقى، وجدت أن أعظم العازفين فى العالم كلهم يهود وأصل يهود العالم أصلا عرب، وكان وجهة نظرى أن الملحنين أخذوا كذلك من القرآن لأن أصولهم شرقية، وهو ما يختلف عن الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية الخاصة ببتهوفن وباخ وموتسارت، وهؤلاء اللى وضعوا الموسيقى الكلاسيكى، وكان مصدرها الترانيم الكنسية، لذلك أنى دائما أرفض كلمة موسيقى شرقية كلمة «مزيكا شرقي» خطأ، يقول داغر لأن «الشرق مكانه يبدأ من تركيا وبلغاريا وروسيا كل ده شرقى، إنما احنا هنا عربى والمزيكا بتاعتنا عربي».

ومن هنا نجد أن الموسيقى العربية مشايخ وقرآن، عملية نقل المد والكسر وطريقة التجويد والقراءة ينتج عنها اللحن أو الموسيقى الربانية المتواجدة فى القرآن، لأن حروف القرآن ألحان فى ذاتها، المشايخ، بطريقة التجويد والقراءة المصرية كشفوا عن النغم المتواجد فى القرآن، وجاء الملحنون بعدهم سمعوا وترجموا ما سمعوا لموسيقى.

ما يراه عبده داغر فى الربط بين الموسيقى والقرآن يدلل عليه، بأن من وضعوا أسس وقوالب الموسيقى العربية شيوخ من الموسيقيين الأوائل بداية من عبده الحامولى وسلامة حجازى وزكريا أحمد ومن بعدهم سيد درويش، أصلهم كانوا أولاد فلاحين مصريين، ولم يتعلموا طوال حياتهم أو يدرسوا فى الخارج، ولم يلتحقوا بمعاهد وأكاديميات الموسيقى، ولم يكن لديهم اطلاع على النوت أو السلم الموسيقى.

يحكى داغر بطريقتهم الفكاهية «بالعربى كده لا يوجد أفندى واحد من الملحنين»، كلهم كانوا مشايخ زكريا أحمد وصالح عبد الحى وأبوالعلا محمد ومحمد القصبجى ويونس القاضى وحامد مرسى وصولا للشيخ إمام عيسى وسيد مكاوى، كل هؤلاء حملوا لقب شيوخ، لبدايتهم التى ارتبطت بتجويد القرآن والقراءة.

يذهب عبده داغر إلى أبعد من ذلك فى الربط بين الموسيقى والقرآن، قائلا: أزيدكم من الشعر بيت كل المطربين، من نقدر أن نصفهم مطربين بجد كان أصولهم مشايخ، محمد فوزى، وهو بلدياتى من طنطا وكان يتدرب فى بدايته على الموسيقى عند والدى مصطفى داغر أبوه شيخ أزهرى ويقرأ القرآن، بليع حمدى كذلك أبوه شيخ أزهرى، أم كلثوم أسطورة الغناء العربى، والدها شيخ أزهرى وقارئ للقرآن، وسر قوة إدائها لأنها بدأت بتلاوة القرآن.

لذلك ينظر «داغر» لنفسه أنه خريج هذه المدرسة من الشيوخ، يقول: بداية عملى بوضع الألحان الموسيقية، كنت أنظر واستمع الشيخ ماذا يقول، ومخارج ألفاظه فين والمد جاء منين.

كنت أمر على شيوخ كثر، وآخذ ما يقولونه، وأضعه فى الكمنجة، وأنا صغير كنت استمع لمصطفى إسماعيل والشيخ عبدالفتاح الشعشاعى وأبوالعينين شعيشع، وعبد العظيم زاهر، ومنصور الشامى الدمنهورى، وكامل البهتيمى، مازالت أذنى تحمل أنغام قراءة هؤلاء الشيوخ، وأرى أن لهم الفضل علىّ فى أى عمل موسيقى قمت بوضعه..

ويرى «داغر» أن لغة القرآن هى السر وراء ما يقولوه هؤلاء الشيوخ، وهى تمنع وجود أى نشاز فى الصوت، معتبرا أن حظ جيله وجود أعظم قراء قرآن فى العالم كله، وأنهم لن يتكرروا ولن يأتى أحد مثلهم.. معتبرا أن وجود المنشدين الكبار مثل الشيخ على محمود والشيخ طه الفشنى ونصر الدين طوبار. كانوا بالنسبة لنا هم نقلة الصوت من بين القرآن والأغانى، باعتبار أن فنون التواشيح والمديح وسيطة بين النغم القرآنى والموسيقى.

ومن قصص «داغر» مع الطرب، حكايته مع أبزر المنشدين، ويبرز نفسه أنه أول من اكتشف عملاق الإنشاد سيد النقشبندى فى سنة 1955، وقت عمله مع المطربة «هنيات شعبان»، والتى كانت تغنى بطريقة أم كلثوم ولكنها لم تنتشر مثلها فى منطقة قلين بالشرقية، التى ينتمى إليها الشيخ النقشبندى.

ويقول «داغر» عقب وصلة مع هنيات شعبان، جاء الشيخ النقشبندى وطلب منى أن أسمع صوته، ووجدت المساحة الصوتية لديه ضخمة، رغم أنه لم يدرس، ونصحته أن يذهب إلى طنطا، حتى يتدرب فى الإنشاد أكثر، وسكن فى شقة بالقرب من السيد البدوى، وفى أحد الحفلات قابل والد أنور السادات والذى أعجب بصوته، وقدمه لابنه السادات والذى لم يكن وصل وقتها لرئاسة مصر، ومنها تعرف على بليغ حمدى، وبدأ انتشار النقشبندى.

ولداغر قصة مع اكتشاف المنشد محمد عمران عندما تعرف عليه فى الحسين عام 1970، وتلازم الاثنان لفترات طويلة، حتى جمع داغر بين الشيخ عمران ومحمد عبدالوهاب، والذى وصف صوت الشيخ عمران بأنه الصوت الذى ليس له مثيل، وأنه لو غنى لما وقف أحد أمامه.

ويقول «داغر» إن المقرئين والمغنين والموسيقيين اعتادوا أن يجلسوا معا، فى الزمن الماضى. واعتقد أنهم كانوا يدركون أنهم ينهلون من نفس المصدر وهو النغم القرآنى.

يذهب «داغر» لاعتبار أن الألحان الشهيرة لعبدالوهاب كان مصدرها قرآنى، فيقول عبد الوهاب تزرى من باب الشعرية، كل بيجرى وراء المشايخ، هو صحيح موهبة خاصة واستثنائية لكنه استطاع أن يترجم ما يسمعه من شيوخ القراء ويحوله لألحان موسيقية.. ونفس الأمر أم كلثوم نفس الحكاية ما ساعدها فى طريقة إجادتها للإداء بهذا الشكل القرآن الكريم، فهى ابنه شيخ، لأن التأليف أصله القرآن.

عندما بدأت أعمل موسيقى، واسترجع كلمات القرآن كان شعرى بيقف، فى إحدى المرات كان هناك موسيقى أمريكى من أصل يونانى، وجدته يقول لى «الموسيقى الخاصة بيكم ليس من الأرض، وأنها مرتبطة بسحر الشرق، وأنها قادمة من السماء مباشرة فوق»، ضحكت وقلت له سبق ليك أن سمعت القرآن بصوت محمد رفعت أو مصطفى إسماعيل أو أبو العينين شعيشع، فقال لى من هؤلاء، فأجبته هؤلاء ساحرو الموسيقى.

يعتبر «داغر» أن الموسيقى فى الكون كله، لغة واحدة وليست اثنتين، لكن الاختلاف فى اللكنة وطريقة النطق، «هذا يتكلم عربى و الآخر إنجليزى وثالث روسى، أو تركى أو ألماني»، لكن الاختلاف فى « اللكنة»، وطريقة النطق، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «اللهجة العامية»، وهذا ما يخلق طرق نطق مختلفة للحروف ومخارج الحروف، ويخلق نغماً مختلفاً.

ويشير هنا إلى أن النغم يتولد من تقسيم القرآن والحروف، ويشرح «الملحّن يمسك العود ويقول الحرف ده مد الحرف ده كسر ويحرك أنامله، من هنا يخرج اللحن من بين أصابعه.. لكن هذا لا يقوم به أى شخص بل لابد من عبقرية فى الترتيب والتنغيم، فصحيح أن القرآن نازل ملحّن ومنغّم «ربنا منزّل القرآن هكذا»، لكن ذلك لا يتم إلا عبر الموهبة والإثقال بالدراسة.

وعن تجربته الشخصية، كيف استخرج اللحن من آيات القرآن، يشرح عبده داغر أنه فى البداية أذنه التى كانت تنجذب، ولكنه كان لا يفهم كيف يترجم ما يدور فى أذنه للحن، وكانت بدايته وهو طفل صغير، وأثناء تواجده فى طنطا كان جاره المسيحى، متعاطف معه نتيجة قسوة والده معه وحرمانه من أن يمارس هوايته فى الموسيقى، ومنح الجار المسيحى داغر الصغير، وقتها فرصة ذهبية فى أن يشاهد عازف الكمان العالمى «ديفيد أويستراخ»، والذى كان يحيى حفل الكريسماس لإحدى الجاليات الأجنبية فى طنطا عقب الحرب العالمية الثانية، خاصة أنه فى ذلك الوقت هارب من جحيم الحرب بأوروبا.. ويحكى عبده داغر أنه فوجئ بالعزف الغريب لـ»أويستراخ»، وطريقة أدائه على الكمنجة، ووجود تكنيك فى الأداء، أن التعامل مع الآلة الموسيقية ليس بالعشوائية التى كان يراها فى السابق، وهو ما دفعه أن يضع لنفسه تكنيكاً خاصاً فى العزف، ويخلق لنفسه نموذجاً مختلفاً فى الأداء الموسيقى.