عبد الناصر وأنا فى خيمة سياسية ساخنة.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (3)

العدد الأسبوعي

عادل حمودة
عادل حمودة


خاصمت الصحافة الحرية فجاءت عاصفة الهزيمة حزينة مدوية

تعلمت من أساتذتى فى كلية الاقتصاد أن التغيير لا يعنى التفجير والأشياء الجميلة تحتاج فترات حمل طويلة

لم يكن حلم المشاركة فى حكم مصر يثير السخرية وإنما كان حلما يسهل تحقيقه بشروط ليست صعبة

قلت فى حوار تليفزيونى إننى لا أقرأ ما يكتب أسامة سرايا فمنع مقالاتى فى الأهرام

هيكل قال لى: الكتّاب مثل نجوم السينما والكرة.. الجمهور هو الذى يحدد استمرارهم على المسرح أو طردهم بالبيض الفاسد

عبد الناصر يشن هجوما على الحراسات وتخويف الناس والمعارضة الهزيلة فى مجلس الأمة ويطالب بمعارضة فى نظام مفتوح لكن ظل ما قال سريا لم نسمع عنه طوال نصف قرن


يوم نجاتى من السجن فى قضية شيخ الأزهر جاءت ابنتى سلمى بمجموعة من الأقلام الملونة ووضعتها على مكتبى فى صمت.. إنها تعرف نقطة ضعفى.. أقلام الأحمر والأزرق والأصفر التى تختصر طفولتى البسيطة العفوية التى حمدت الله أنها خلت من الضرب والقمع والإهانة والعقد النفسية.

ووضعت ابنتى الأخرى مى أمامى أوراقا صفراء مسطرة تعرف أننى أقف دائما على حافتها ولا أستطيع مقاومتها وهمست وهى تربت على ظهرى: أكتب لتنسج للناس قماشا شعبيا يرتدونه وتصنع لهم خبزا ساخنا يأكلونه أكتب ليتحول صوت الغضب إلى صوت ربابة.

وبينما كانت فتاتى الصغيرة تدعونى للكتابة طالبتنى صحيفة الأهرام العريقة بالرحيل عن صفحاتها فورا.

فى اليوم نفسه وجدت خطابا مسجلا بعلم الوصول بتوقيع سعيد ماهر (مدير شئون العاملين فى الأهرام) يتشرف فيه بإفادتى بأن مدة عملى انتهت ببلوغى سن الستين وأننى أصبحت من أرباب المعاشات.

ولولا الحياء لطلب الرجل المهذب منى أن أسلم قلمى عهدة إلى إدارة خيل الحكومة لإطلاق النار عليه بحجة الشيخوخة القانونية التى لا يبلغها عادة الكتّاب المؤيدون لكل نظام على اختلاف العصور ومهما طال بهم العمر.

كنت قد قضيت فى الأهرام عشر سنوات بعد أن انتزعت من روز اليوسف كى يجرى تأديبى وتهذيبى وإصلاحى بعد أن ارتكبت الجريمة التى لا تغتفر: جريمة الحرية.

وبدخولى الأهرام وضعت مقالتى تحت رقابة مشددة.. يقرأها مسئول الديسك سامى متولى.. ويراجعها مدير التحرير عبد الوهاب مطاوع.. ولم ينقص سوى الاستعانة بأجهزة الكشف عن المفرقعات خشية أن تكون السطور مفخخة.. ولم يسمح لى إلا بتناول السياسات الحكومية وكانت كلمة نقد واحدة كفيلة بمنع مقالى الأسبوعى الذى كنت أنشره تحت عنوان صباح السبت.

وعندما تولى أسامة سرايا رئاسة التحرير منعنى من الكتابة عقابا على ما قلت عنه فى حوار تليفزيونى: إننى لا أقرأ ما يكتب ولا أفهم ما يقول.

لكن ذلك لم يمنع أن أتساءل فى اليوم الأول لعامى الستين: هل حان الوقت لتسليم مفاتيحى؟

لقد عشت كاتبا متمردا.. وأسعدنى وأخجلنى وصف أحمد رجب فى حضور صديقنا الثالث زاهى حواس لكلماتى بأنها طلقات بازوكا.. كاتب يأخذ صفرا فى الحساب.. ولم يفكر يوما فى الحصول على بوليصة تأمين سياسية على مقالاته أو حياته.. ويكره أن يقف أحد أو يجلس على أصابعه وهو يكتب.. فهل حان الوقت للانسحاب قبل أن يكون كاتبا محنطا؟

يومها سألت محمد حسنين هيكل: هل حان وقت الاعتزال أو الانصراف على حد تعبيره؟

أجاب فيما يشبه المفاجأة: إننا مثل ممثلى السينما ولاعبى الكرة.. الجمهور هو الذى يمنحنا شهادات الصلاحية وهو الذى يفرض علينا توقيت الرحيل ولو لم نستجب لمشيئته ألقى علينا الطوب والطماطم والبيض الفاسد والكاتب الذكى مثل النجم الموهوب يجب أن يعرف متى يختفى عن العيون.

فى ذلك اليوم كنت قد أكملت أربعين عاما فى الصحافة.. رأيت خلالها مصر وهى تصرخ على سرير الولادة فى انتظار ميلاد التغيير والتحديث والتطوير ولكن رأس الطفل لم ينزل بعد.. حشرت فى الرحم وظلت تهدد حياة الأم ولم تفلح فى إنقاذها كل الجراحات السياسية والدستورية والقيصرية بل وربما الثورية أيضا.

فى سنوات البداية كانت الصحافة تبدو تحت رقابة السلطة عانسا لا تريد أن تتزوج أحدًا ولا يريد أحد أن يتزوجها.. كانت صحافة فى المنفى رغم أنها تحرر وتطبع فى أرض الوطن.. لم ينفها أحد.. ولكنها هى التى نفت نفسها.. فقد خاصمت الحرية.. فخاصمتها القوى الشعبية.

فى تلك السنوات البعيدة اختصرت هزيمة يونيو وطنا بأكمله ثقافيًا وقوميًا وحضاريًا وفكريا وشخصيا وعاطفيا ليصبح وطنا فى حجم قرص الأسبرين.. أو فى حجم حبة القمح.. أو فى حجم الزنزانة الانفرادية.. وعندما يصغر وطن إلى هذا الحجم الضئيل فإن أضعف كائن يمكنه التهامه.

لم يكن فى نيتى وقتها الاقتراب من الصحافة، رغم تجاربى الساذجة فى مجلات الحائط أيام الدراسة الإعدادية والثانوية.. كانت الصحافة لا تشبهنا.. ولا تحمل ملامحنا.. ولا لون عيوننا.. ولا نبرة صوتنا.. ولا نبض شرايينا.. ولم تكن ناطقا رسميا بلسان أفراحنا أو أحزاننا.. بل إننى فى ذلك الوقت شاركت فى مظاهرة هاجمت هيكل بعد أن وصف ثورة الطلاب التى اشتعلت فجأة فى الجامعات (فبراير ونوفمبر 1968) بأنها نوع من التعبير عن الكبت الجنسى سيهدأ بضعف الهرمونات.. ولم يكن ليخطر على بالى أننى سأقترب من هيكل فيما بعد.

كان فى نيتى أن أحترف السياسة.. ووضحت النية عندما اخترت وأنا طالب فى مدرسة إسماعيل القبانى الثانوية لحضور دورات منظمة الشباب الاشتراكى.. التنظيم الذى أوكل إليه جمال عبدالناصر مهمة حماية الثورة.. ووصف المنتمين إليه بأنهم جيل على موعد مع القدر.

وذات مساء وجدنا عبد الناصر بقامته الطويلة وابتسامته الساحرة ونبرة صوته المميزة يدخل علينا خيمتنا فى معسكر إعداد القادة ليشترك فى نقاش عن الثورة المضادة التى أكلت فيما بعد الثورة القائمة ومصمصتها وألقت بعظامها إلى كلاب السكة فى شوارع واشنطن وتل أبيب.

رحت أتأمل عبد الناصر وهو ينصت ويبتسم ويتحدث بصيغة الجمع التى قلدناها فيما بعد: والله بنبنى والله بنحارب.. والله سننتصر.

ونصحنا بالابتعاد عن السجائر والإكثار من عصير الطماطم ولم أكن أعرف أن الطماطم تشرب عصيرا وفى اليوم التالى اعتبرت إدارة المعسكر النصيحة توجيها سياسيا وقدمت إلينا عصير الطماطم دون أن تنسى خلطه بزيت الكافور المهدئ.

وكانت نصيحة عبد الناصر الثالثة ضرورة توفير ساعات يومية للقراءة وكانت نصيحته الأخيرة عدم العبث بالصحة ولم نكن نعلم أنه مصاب بالسكر فقد كان مرضه سرا من أسرار الدولة العليا يعاقب من يكشفه أو يقترب منه.

لكن عبد الناصر لم يعمل بالنصائح التى وجهها إلينا فقد مات قبل أن يكمل عامه الثالث والخمسين مما جعل البعض يشكك فى أنه قتل وراجت شائعة وصلت إلى حد الحقيقة أن عميلا للموساد هو الدكتور على العطفى اغتاله بالسم فى جلسات التدليك وقد نفيت القصة بعد تحقيقها فى كتابى عبد الناصر أسرار المرض والاغتيال ربطت فيه لأول مرة بين التغيرات الصحية والقرارات السياسية.

بلغة منظمة الشباب طلبت نقطة نظام لسؤال عبد الناصر سؤالا مختلفا: كيف تربى بناتك وأولادك؟.. وبصراحة كان هدفى لفت نظره.. وتسجيل واقعة أتباهى بها بين أصدقائى وزملائى فى حى العباسية الذى تربيت فيه ولكننى لم أحظ بذلك الشرف فقد جرى تحذيرى من قيادة صارمة فى المعسكر ألا أتحدث عمَّا حدث خارج المعسكر.

جاءت إجابة عبد الناصر بسيطة مثله: أربى أولادى وبناتى بنفس الطريقة التى تربيت بها فى بيتك.. بيتنا مثل بيتك.. لا فرق سوى أننى أتحمل مسئولية كل البيوت.

وقد تأكدت من صدق إجابته فيما بعد عندما اقتربت من ابنيه خالد وعبد الحميد وابنته هدى وزوجها حاتم صادق وأتاحت لى هذه الصداقة العائلية الاطلاع على كثير من الحكايات والأوراق الشخصية التى تركت لهم وتؤكد أن عبد الناصر عاش متواضعا ومات فقيرا.

شجعتنى منظمة الشباب بدوراتها الثلاث على وضع مستقبلى على طريق السياسة.. فكرت أن أكون سفيرا.. وزيرا.. رئيسا لحكومة.. إن مثل هذه الطموحات التى أثارت السخرية فى سنوات حكم مبارك كانت مشروعة.. لكنها أصبحت منبوذة عندما راحت جماعة توريث جمال مبارك الحكم تختار وزراء مليارديرات جاء بعضهم من شركات متعددة الجنسيات يجيدون الإنجليزية بلكنة وهوية أمريكية ويحفظون عن ظهر قلب أجندات البيت الأبيض وصندوق النقد الدولى ووكالة المخابرات المركزية.

فى تلك الأيام البعيدة كانت شروط اختيار المسئولين الكبار تتوافر فينا مثلما توافرت فى شخصيات لمعت وقتها مثل عزيز صدقى ومصطفى خليل وصدقى سليمان وغيرهم.. انتماء إلى طبقة وسطى نشطة وواعية ومستوعبة كل ما حولها من تغيير.. إيمان بالثورة وحرص على استمرارها.. خلو السجل العائلى من فساد جنائى أو سياسى.. مستوى من التعليم المميز حققته لى دراسة متفوقة فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وثقة هائلة فى وطن نراه عريضا عميقا يحتاج إلى فرسان لا إلى غلمان.

فى وقت الثورة الليبرالية التى فجرها سعد زغلول (عام 1919) وامتد نفوذها إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية كان الطريق إلى الحكم يبدأ بكلية الحقوق وفى وقت الثورة الاجتماعية التى فجرها عبد الناصر (عام 1952) أصبح الطريق إلى الحكم يبدأ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فلنذهب إليها ولنتعلم من أساتذتها على اختلاف مذاهبهم وخبراتهم.. من عمرو محيى الدين اليسارى إلى عبد الحميد الغزالى الإخوانى وبينهما زكى شافعى وأحمد الغندور ومصطفى السعيد ورفعت المحجوب وبطرس غالى وعبد المالك عودة ونادية مكارى.. وكلهم درست على أيديهم.. وتعلمت منهم.. وتأثرت بهم.. وبعضهم أصبحت فيما بعد صديقا مقربا له.

لكن.. ما استوعبته خارج قاعات المحاضرات كان أعمق وأهم.. أفهمونى أن الأشياء الجميلة تحتاج فترات حمل طويلة والتغيير لا يعنى التفجير وقطع الشرايين بحجة أنها أصبحت خردة والتحديث يمكن أن نقوم به دون أن نرتكب جريمة قتل ضد التاريخ وضد الذوق العام والرأى العام.

كان حلم الحكم حلما مشروعا ولكنه أصبح فيما بعد حلما مسروقا.

حدث فى رمضان 1998 أن تحدثت فى برنامج إذاعى خفيف عن حلمى القديم فى أن أكون رئيسا للحكومة لكن ما أن انتهى البرنامج حتى وجدت تليفونا من وزير الإعلام وقتها صفوت الشريف يسألنى: هل أسأت لرئيس الحكومة فيما قلت؟ وكانت إجابتى بالنفى مضيفا: لم آت بسيرته وفهمت أن رئيس الحكومة وجد من يقول له إننى أسخر من منصبه.

على أن شيئا نزل فجأة فوق رءوسنا وكسر ظهورنا وحرق قلوبنا وقطع طرقنا وحطم أحلامنا.. شىء لم يكن فى الحسبان أجبرنى على تغيير طموحى وتبديل مسارى.. شىء جعل أمنية الحكم غير مغرية وغير مستحبة ونبتت لها مسامير وأشواك وأصبحت كابوسا.

فى 22 فبراير 1968 (يوم الطالب العالمى) خرجت من جامعة القاهرة تظاهرات ضد الأحكام الهزيلة التى صدرت ضد قادة الهزيمة التى أوقعتنا فيها إسرائيل فى ساعات قليلة واحتلت بعدها سيناء والجولان والضفة الغربية ودخلت جيوشها لتصلى جماعة فى القدس قبل أن تعلنها عاصمة موحدة وأبدية لدولتها العبرية.

كانت تلك التظاهرات الأولى من نوعها منذ ثورة يوليو والضربة الموجعة التى نالت من عبد الناصر خاصة أنها جاءت من الذين رباهم بنفسه ولكن فى الحقيقة لم تكن تلك التظاهرات ضده وإنما سعت إلى مساندته لمنحه مبررات قوية لتصفية مراكز القوى فى الجيش وإعادة النظر فى الحريات والمعتقلات والمحاكمات العسكرية والقبض العشوائى على الأبرياء والتخلص من الخطف والتعذيب والاختفاء القسرى وحكم الأجهزة الخفية.

بدأت التظاهرات فى جامعة القاهرة وسرعان ما امتدت إلى جامعة الإسكندرية وعندما تجددت فى نوفمبر التالى كانت جامعة الإسكندرية فى الصدارة.

وربما لا يصدق أحد أن عبد الناصر نفسه هو سر نجاح تلك التظاهرات فقد تدربنا فى معسكرات المنظمة عليها لكن بهدف التحرك ضد الثورة المضادة ولكننا استفدنا منها فى تصحيح مسار الثورة نفسها.

كانت قيادات التظاهرات قد قسمت نفسها إلى مجموعات.. لا تظهر مجموعة على السطح إلا إذا قبض على المجموعة التى سبقتها فى القيادة ولم تكن أجهزة الأمن القوية تعرف رموز الحركة فلم يكونوا من أعداء النظام وإنما كانوا من أنصاره.

وتعاطف الشعب مع الطلاب ومن جانبه أمر عبد الناصر بالإفراج عن المعتقلين منهم وسارع بإصدار بيان 30 مارس معترفا فيه بالقصور واعدا بالحريات ولكن ذلك لم يحدث فى ظل شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة رغم أن الهزيمة كانت سياسية قبل أن تكون عسكرية.

وفى ظل حالة الصمت الإعلامى الموضوع تحت سيطرة رقابية صارمة لم يقدر لنا أن نعرف حقيقة ما جرى من مصادر مصرية نثق فيها تماما إلا بعد نصف قرن من الهزيمة.

فى يوليو 2017 حصلت على محاضر الجلسات السرية التى عقدها جمال عبدالناصر مع رؤساء وملوك عرب (هوارى بومدين الجزائر وحسين الأردن ونور الدين الاتاسى سوريا ومحمد أحمد محجوب السودان) بجانب محاضر جلسات سرية أخرى عقدها عبدالناصر مع اللجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء.

وقد انفردت بنشرها قبل أن تضعها الدكتورة هدى عبد الناصر على الموقع الإلكترونى لوالدها لتصبح مباحة ومتاحة أمام الجميع.

كان بومدين قد سأل عبد الناصر عما حدث فتلقى أغرب إجابة منه: والله لا نعرف ما الذى حدث لكنه استطرد مضيفا: لكننا نستطيع حصر أسباب الهزيمة فى عدة أخطاء وقعنا فيها منها أننا اخترنا القيادات العسكرية بناء على تقارير الأمن لا بناء على الخبرة كما أننا تبجحنا بالكلام عن قدرتنا فى الإطاحة بإسرائيل وأمريكا معا حتى صدقنا أنفسنا بجانب سبب آخر هو أننا كنا تحت قيادة لم تكن مؤهلة للحرب ولا تسعى إليها بل لم تتوقعها.

وكان رأى عبد الناصر أن اليهود سيتركون سيناء لأنها تورتة من الرمال تمرح فيها الفئران والثعابين أما الأهم فهو الضفة الغربية التى على الملك حسين أن يقدم إلى أمريكا ما تشاء لاستعادتها فكل يوم يمر على احتلالها يغرى اليهود أكثر بضمها هى والقدس.

وفى اجتماع شديد الأهمية مع مجلس الوزراء فى 2 أغسطس 1967 بقصر القبة تكلم عبدالناصر بصراحة يصعب تصديقها ومما قال: نظام الحكم المقفول أدى إلى الهزيمة.. كنت متصورًا أن الناس تطلع تضربنا بالجزمة لأن اللى عملناه ما يستهلش غير الجزمة.. البلد فيه عصابات استغلت الحراسات لصالحها وهددت باعتقال الأبرياء وجعلت الوزراء يطيحون فى الشعب.. الشعب خايف ولا أحد يجرؤ على الكلام فى الصحف والوزارات وفى مجلس الأمة.. الحديث عن سيادة القانون مجرد ثرثرة لأن البلد مافيهش قانون.. تقارير الأجهزة الأمنية مصادرها أشخاص غاضبون لهم مصلحة خاصة فى الإطاحة بمن تكتب عنهم التقارير.. المعارضة فى البرلمان هزيلة وجبانة ولا تستطيع الاقتراب من أخطاء الكبار.. فشلنا فى الديمقراطية وفشلنا فى الديكتاتورية وفشلنا فى أساليب الحكم الشخصية والحل مجتمع مفتوح يتكلم ويرتفع فيه صوت الناس بحرية.. القوى المتصارعة كثيرة ويمكن أن يقفز جاهل إلى الحكم من بعدنا إذا لم نضع نظاما جديدا متينا يضمن حماية المصريين من المغامرين.

لكن كل هذه الجرأة فى تناول ما حدث وفى تصور المستقبل ظلت سرية لم نسمع عنها إلا بعد فوات الأوان ولو صارح بها عبد الناصر الشعب وشاركهم فى صياغة المستقبل لتجنبنا كثيرًا من المتاعب التى وجدنا فيها أنفسنا.

بل أكثر من ذلك لم نتذوق طعم الحرية التى جاء بها بيان 30 مارس فما أن هدأت الجامعات حتى قرر عبد الناصر إخراج منظمة الشباب منها وحرم السياسة على طلابها وقصر نشاطهم غير الدراسى على الرحلات والحفلات.

هنا وقعت الخطيئة الكبرى.. فالسياسة التى خرجت من المدرجات تسللت إلى المساجد.. ونشطت التيارات الدينية التى كانت نائمة فى الكهوف ونجحت فى تجنيد الطلاب عقب كل صلاة.. وفسرت الهزيمة على أنها غضب من الله الذى نسيناه فتركنا وحدنا فى صحراء سيناء القاحلة.


العدد القادم:

■ شعرت باليأس من نظام الهزيمة بعد أن أطلق النار على الطلاب

■ قابلت نبى اليسار الجديد فى فرنسا فاتهمه صلاح حافظ بأنه عميل للمخابرات الأمريكية