د. نصار عبدالله يكتب: مدبولي وبلطية وسوهاج

مقالات الرأي



كان الحاج محمد مدبولى (رحمه الله) قرب نهاية الخمسينيات من القرن الماضى واحدا من أشهر بائعى الصحف فى مصر، قبل أن يصبح بعد ذلك واحدا من أشهرهم على مستوى العالم العربى بالكامل!!، وبعدها يتحول من مجرد بائع للصحف إلى ناشر شهير، يتفوق فى حساسيته ووعيه، ومدى سرعته لتلبية احتياجات القارئ المصرى والعربى،... يتفوق فى ذلك كله على أكبر دور النشر التابعة للقطاعين: العام والخاص بما فى ذلك دار النشر الحكومية الكبرى التى أنشأتها الدولة فى منتصف الستينيات تحت اسم: «المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر» ثم أصبحت لاحقا: «الهيئة العامة للكتاب»!... من الغريب جدا، بل مما هو بالغ الغرابة أن الحاج محمد لم يكن يجيد الكتابة، فأقصى ما كان يستطيع كتابته هو أن ينقش حروف اسمه بصعوبة بالغة، وأما بالنسبة للقراءة فقد كان يستطيع التعرف على أشكال بعض الحروف والكلمات!!، ومع هذا فقد كان يعرف أسماء جميع الصحف والكتب الموجودة فى مكتبته، بل وأسماء المؤلفين والناشرين وتواريخ النشر أيضا وهو فى ذلك لم يكن يعتمد أساسا على قراءة العناوين، ولا على أى بيان مدون عليها، ولكنه كان يعتمد بشكل أساس على ذاكرته التى انطبع فيها شكل الغلاف ولونه وطريقة الإخراج، وما هو أكثر غرابة أن هذه الذاكرة البصرية الغريبة والاستثنائية لم تقتصر على الكتب العربية وحدها بل امتدت أيضا إلى ما هو مطبوع باللغات الأجنبية، فقد كان يستطيع أن يلتقط من بين صفوف الكتب كتابا بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو أى لغة من اللغات التى لا يعرف حرفا واحدا من حروفها.. مدبولى هو فى الأصل واحد من أبناء قرية تسمى «الرياينة» محافظة سوهاج، تلك المحافظة التى هاجر الكثيرون من أبنائها إلى القاهرة بحثا عن الرزق، لكنه كان يتميز عنهم بعشقه الشديد لما هو مطبوع رغم عجزه عن القراءة والكتابة، وهذا العشق بالإضافة إلى ذكائه الاستثنائى هو الذى أدى إلى نجاحه الباهر كبائع للصحف ثم كواحد من أصحاب دور النشر الكبرى، وقد تعاصر مع محمد مدبولى فى سوهاج بائع صحف آخر هو أحمد أبوزيد الذى اشتهر باسم أحمد بلطية والذى لم يكن أيضا يعرف القراءة والكتابة شأنه فى هذا شأن محمد مدبولى وشأنه أيضا لم يكن يقل عشقا لما هو مطبوع!!ـ لكن أبازيد فضل أن يبقى فى بلده سوهاج، حيث نال أيضا قدرا كبيرا من الشهرة كبائع صحف ولكن على مستوى سوهاج وحدها!!، ولقد ورث الأبناء فيما بعد مهنة الآباء فأصبح أبناء مدبولى أصحاب دار مدبولى للنشر والتوزيع، أما محمود أحمد أبوزيد (ابن أحمد أبوزيد) والذى اشتهر بنفس لقب والده: «بلطية»، فإنه ما زال إلى الآن يراوده حلمان، أولهما حلم شخصى هو أن يرخص له بإقامة «كشك» لبيع الصحف، مجرد كشك بدلا من الفرش على الرصيف، وهو الحلم الذى داخ السبع دوخات من أجل تحقيقه دون أن يجد آذنا مصغية من محافظ سوهاج أو من رئيس مجلس المدينة، أما الحلم الثانى فهو حلم عام يتمثل فى إنشاء نقابة ترعى مصالح بائعى الصحف، وفى رأيه أن بائع الصحيفة هو الضلع الثالث فى منظومة لا تكتمل مهنة الصحافة إلا بها، ألا وهى: الإدارة التحرير بائع الصحيفة، هذه المنظومة تتوجه إلى السلطة العليا، أو بالأحرى إلى السلطة التى ينبغى أن تكون هى العليا، ألا وهى سلطة القارئ، ومع هذا فإن بائع الصحيفة ليس مجرد وسيط سلبى بين إدارة التوزيع والقارئ، ولكنه وسيط إيجابى فهو يسهم بطريقة عرضه للصحيفة والترويج لها يسهم فى توسيع قاعدة القراء أو تضييقها، وهو ما يصب فى النهاية فى تشكيل الرأى العام وصياغته!.. وفى رأى محمود بلطية أن هذا الضلع الثالث ما زال إلى الآن محروما مما هو جدير به من الالتفات إليه كأنما هو متطفل على الصحافة، وليس واحدا من أركانها الثلاثة، الكثيرون من بائعى الصحف الذين ظلوا يمارسون هذه المهنة فى أماكنهم منذ عشرات السنين، يتعرضون بين الحين والحين لحملات مداهمة مفاجأة، وتحرير محاضر شتى بحجج مختلفة، أشهرها إشغال الطريق، وكأن الجهات المسئولة، بعد ثلاثين أو أربعين عاما من شغل رصيف ما، قد اكتشفت هذا العام فقط أنه يشغله شخص لا مهنة له بدليل أنه بائع صحف! وذلك بدلا من السعى إلى تقنين أوضاعهم إذا كان فيها ما يحتاج إلى تقنين، ونتيجة لذلك فقد ظل عدد باعة الصحف فى سوهاج يتناقص عاما بعد عام، وبعد أن كان عددهم منذ عشرة أعوام قد تجاوز الخمسين بائعا وصل عددهم مؤخرا إلى خمسة فقط فى العاصمة: سوهاج، بالإضافة إلى عشرة آخرين فى مراكز محافظة يتجاوز تعدادها أربعة ملايين ونصف المليون أى بواقع بائع واحد لكل 330000 مواطن !