د. نصار عبدالله يكتب: سطور من: «تغريدة البجعة»

مقالات الرأي



كان يشاركنا المسكن أستاذ أول رياضيات اسمه يحيى.. سبقنا بعشر سنوات داخل المملكة.. يتفنن فى جمع المال واكتنازه.. يغيّر عملات.. يقرض ديونا بفوائد ربوية بشعة.. يتاجر فى الممنوعات، والتليفون المحمول واللاب توب.. كان كتلة من العفن المقيت والمدبر، مغلول اليد يوم القيامة. ودائما ما كان يزين لنا كالشيطان الإقامة والتحمل ويحذرنا من العودة لبلاد: «يهج منها أهلها» على حد قوله.. كنت أتعجب منه كثيرا.. فقد حصل على الأرض التى تمناها فى قريته بزمام دمياط، واشترى الطاحونة التى رغب فى امتلاكها. وأقام البيت الذى حلم به.. وأنجب البنين والبنات الذين لم يروه إلا لماما.. وتقوس ظهره، وضعف بصره، وانطلق كرشه إلى الأمام، وتوحشت دهونه فغزت كل جسمه»!.. إلى متى سيبقى هنا؟.. أجابنى غير مازح وقسمات وجهه تحمل كثيرا من العزم والتصميم، بأنه لن يغادر السعودية أبدا حتى لا يبقى فيها غيره والملك فهد!.. الملك فهد بيده ريالان يقف بهما فوق جبل «أحد»بعد أن يعلن إفلاس المملكة.. حينئذ فقط سيصعد إليه يحيى ويقتسم معه الريالين، ثم يرحل!!.. (الملك فهد توفاه الله، وتولى بعده الملك عبدالله، ومازال يحيى هناك، يتضخم ويتوحش. قابضا بيمناه على ريالاته، ويسراه تقلب صفحات المصحف، وعيناه مصوبتان نحو قمة جبل أحد!!)..أخيرا تواجهنا أنا وعصام، وقررنا الرحيل هذه المرة صوب الإمارات العربية، جنة العرب، كما يطلقون عليها، وتحرك عصام لإنهاء أوراقنا، والحصول على مستحقاتنا، ونجح بسرعة خيالية، ونجح أيضا فى الحصول على عمل لى بالإمارات.. حملنا أمتعتنا، وخرجنا من المنطقة الشرقية تصاحبنا ريح السموم. فى طريق العودة انطلقنا بسرعة كبيرة.. وفجأة توقف الطريق بنا.. فتحنا نوافذ سيارتنا كالباقين، رحنا نتبادل زجاجات المياه والتفاح متسائلين عن السبب.. توافدت سيارات كثيرة.. كان ثمة حادث أمامنا على الطريق.. لا يفصلنا عنه إلا عشرات السيارات.. أخرج عصام تفاحتين، وأعطانى واحدة، وهو يقول برتابة: أكيد هندى رمى نفسه تحت عربية، كان كثيرا ما يحدث ذلك هناك.. يلقى الهنود والباكستانيون المساكين بأنفسهم أسفل السيارات، فيلقون حتفهم مقابل أن يحصل أهلهم على قيمة الدية البالغة أربعين ألف ريال، لكن الانتظار الطويل جعلنا نترك السيارة ونسير على أقدامنا تجاه الحادثة. كانت نتوءات وسفوح الجبال على جانبى الطريق مليئة بمئات القرود مختلفة الأشكال والأحجام. وكانت هناك قرود أسفل الجبال، فى وضع الاستعداد وبأيديهم حجارة مصوبة على السيارات!.. كانت السيارات التى بمقربة من الحادث مهشمة الزجاج منبعجة الصاج، وبعض ركابها ينزفون على جانبى الطريق، وبعض أفراد الحرس قد وقفوا متشابكى الأيادى يمنعوننا من التقدم أكثر نحو الأمام.. فى وسط الحلقة وقف رئيس البلدية، وبجواره كبير الشرطة بزيه الرسمى، يشيران إلى القرود أن تهدأ..تقدم زعيم القرود منهما، فشد رئيس البلدية على يده!، وكذل كبير الشرطة وهو يومئ نحو جندى يحمل سباطة موز ضخمة، وإلى جواره وقف جندى آخر، وعند قدميه صندوق كبير مملوء بالبقسماط!!.. توافدت أعداد من القرود، وكان رئيس البلدية يعزيهم، وكبير الشرطة يشد على أيديهم!!، ويومئ لجنوده كى يناولوهم بعض الموز والبقسماط!!.. غادر كل قرد مكمنه بالجبال ليأخذ غنيمته ثم يعود لكى يأكلها فى مكانه.. حمل جنديان جثة القرد الذى أطاحت به سيارة وأرقدوها بسلام أسفل الجبل وهم يتابعون القرود بخوف!!.. السطور السابقة من رواية: «تغريدة البجعة» للكاتب الروائى الراحل «مكاوى سعيد».. والسؤال الذى ربما سيطرح نفسه على الكثيرين من الذين قرأوا هذه الرواية، وهم يتوقفون عند المشهد السابق الدرامى السابق.. هو هل هناك وجه للتوازى أو التضاهى بين فاجعة القرود الذين دهست واحدا منهم سيارة سعودية مسرعة، وبين فواجع المغتربين الذين تركوا بلادهم، وراحوا يلتمسون الرزق فى صحراء المملكة؟