منال لاشين تكتب: ليلة إعدام الجنيه

مقالات الرأي



■ خسر الموظفون نحو 52.8 مليار جنيه من دخولهم الحقيقية فى لحظة واحدة

■ ليلة الخميس الأسود زاد الدين العام بـ227 مليار جنيه دفعة واحدة

فاتورة خسائر المجتمع 370 مليار جنيه


النكتة تبكى بدلا من أن تضحك ولكننى قلت فى سرى الحمد لله أن الناس لسه قادرة تنكت وتضحك. النكتة تقول إن الجنيه هو المصرى الوحيد الذى استجاب لدعوات النزول فى يوم 11 -11. وقد ظهرت النكتة فور كسر الدولار لسقف الـ15 جنيها ليلة تعويم أو تحرير أو بالأحرى إعدام الجنيه. لأن ما فعلته الدولة ببساطة وعلى بلاطة هى أنها رفعت حمايتها عن الجنيه وتركته وهو فى منتهى الضعف ليعوم أو ليغرق. وضعف الجنيه ليس لعيب منه أو عطب فيه. ولكن ضعف الجنيه وكارثته فى أداء اقتصادى خاطئ ومتخبط ومشلول. فالعملة تعكس وتكشف وتكثف أداء الاقتصاد. والعملة هى مجرد صورة للاقتصاد فى المرآة. فإذا رأيت الهزال والصفراء يظهر فى وجه الجنيه فإن الأمر لا يعدو إلا تعبيرا عن جسد اقتصادى مريض. ولذلك فإن قرار التعويم فى ذلك التوقيت وعلى هذا السعر كان فى حقيقة الأمر إعداما مؤقتا للجنيه. لأنك حين تترك مريضا بمرض عضال دون أن تمنحه الدواء فأنت لا تفعل سوى أن تتركه لمصيره أو تتركه للمجهول وإن شاء الله لم يصل الأمر إلى الوفاة.

فعلى الرغم من أننى ضد تحرير أو تعويم الجنيه، وضد كل التبريرات بأنه الطريق الوحيد للإصلاح. فقد كان هناك طرق لنسير فيها اقتصاديا منذ 30 يونيو. ولكننا اخترنا طريق نهايته الحتمية تعويم الجنيه.. رغم موقفى فإننى لن أتحدث عن الطريق الآخر، لأن الحديث عن الطريق الآخر يعد الآن بكاء على اللبن المسكوب. اعتقد أننا أمام الأزمة يجب أن نرصد الآثار السلبية والإيجابية لقرار التعويم. ومستقبل مصر الاقتصادى على المدى المتوسط. لأن النظر إلى الربع ساعة الأولى للتعويم أو حتى الشهر الأول سيكون مدعاة للاكتئاب أو التشاؤم. ولذلك فمن باب الموضوعية ورغم رفضى للتعويم فلن أكتفى برصد الساعات الأولى. بل سأقدم لكم خطط الإنقاذ على المدى القصير والمتوسط. أو بالأحرى الرهان الذى راهنت عليه الدولة وهى تتخذ قرار التعويم.


1- فاتورة الإعدام

الخميس الأسود ليس وصفا أدبيا ولا رأيا سياسيا. ولكنه ببساطة تعبير دارج فى كل البورصات والاقتصاديات العالمية. تعبير يتم استخدامه لحظة انهيار البورصات وتكبد الأسواق والأفراد خسائر لا يمكن بحال من الأحوال تمريرها أو قبولها، ولذلك استحق يوم الخميس الماضى يوم إعلان تحرير الجنيه أو بالأحرى إعدامه لقب الخميس الأسود الذى شهد أكبر خسائر شهدتها مصر ليس فى الجنيه وحسب، وإنما للأفراد والمؤسسات والموازنة العامة للدولة.

ليلة الخميس الأسود قررت الدولة وأعلن محافظ البنك المركزى طارق عامر تحرير الجنيه.

فى الربع ساعة الأولى للقرار رفع المركزى سعر الدولار من 8.88 جنيه إلى 13 جنيها بنسبة نحو 33%.. وهذا الرقم كان مجرد رقم استرشادى مؤقت جدا. سرعان ما تخلت عنه البنوك فى ظل سياسة تحرير سعر العملة. ولكن حتى فى ظل رقم الـ13. فإن الخسائر كانت فادحة. وعندما تقرأ حجم الخسائر ستدرك أن كلمة فادحة لا تعبر عن الوضع الحقيقى والخسائر لليلة إعدام الجنيه.

بعض الخسائر تتصل بطبقة الدخول الثابتة فى مصر وعلى رأسها الموظفون فقد خسر الموظفون نحو 52.8 مليار جنيه فى لحظة واحدة. لأن اعتماد مصر على الاستيراد جعل كل مواطن يخسر نحو 30% من دخله الحقيقى. والدخل الحقيقى هو مقدار ما يشتريه دخلك المالى من سلع وخدمات. ولذلك فإن تسعير الدولار مؤقتا بـ13 جنيها فى لحظة فقد نحو 6 ملايين مواطن 30% من دخلهم الحقيقى نتيجة للاعتماد على المستورد سواء المستورد بالكامل أو المنتج المحلى المعتمد على مكونات مستوردة.

المثير أن الترويج لقرار التعويم أو الإعدام كان لإعادة الثقة فى الاقتصاد وخفض الموازنة، ولكن ليلة إعدام الجنيه شهدت أعباء خرافية وغير مسبوقة على الاقتصاد المصرى. وتكبلت الموازنة خسائر تنذر بل تؤكد زيادة العجز وليس انخفاضه.

الدين الخارجى المصرى يقدر بـ56 مليار دولار، وذلك بالإضافة إلى ديون المؤسسات الحكومية والتى لا تدخل فى هذا الرقم. وعند احتساب الدين العام الإجمالى يتم تحويل الدين الخارجى إلى العملة المصرية. وليلة الخميس الأسود زاد الدين العام بـ227 مليار جنيه دفعة واحدة. وذلك عند احتساب الدولار بـ13 جنيها وقد تجاوز السعر فى البنوك بعد أقل من أسبوع هذا الرقم كثيرا.

وزارة الكهرباء خسرت 50 مليار جنيه نظرا لتغيير سعر الدولار أو زيادته بالنسبة لديون الشركات التابعة لها.

تكلفة دعم المواد البترولية زادت بـ35 مليار جنيه وذلك على الرغم من زيادة أسعار كل المواد البترولية.

أما الهيئة العامة للبترول فقد دفعت ثمنا فادحا للتعويم وزيادة سعر الدولار. فديون الشركاء الأجانب أو المستثمرين الأجانب فى الحقول بلغت 1.6 مليار دولار. تحولت هذه المديونية إلى الجنيه لدى حساب المديونية العامة للهيئة وقد زادت هذه المديونية إلى 7.2 مليار جنيه.

إذن إجمالى ما تكبده المجتمع ليلة إعدام الجنيه 371 مليار جنيه. هذا الرقم لم تدخل فيه زيادة فاتورة الواردات على السلع الأساسية التى ستتحملها الموازنة العامة للدولة وهو رقم هائل ويتم الآن حسابه بالنسبة للسلع الأساسية كالقمح وزيت التموين والسكر الذى لا تزال الحكومة تدعمه (وذلك على الرغم من رفع سعره فى التموين) وأدوية التأمين الصحى وكلها سلع أساسية تتحمل الدولة نسبة فيها.

ولأننا دخلنا فى دوامة التعويم فإن إعدام الجنيه كان يتطلب رفع سعر الفائدة على الودائع. وعلى الرغم من أن القرار يؤثر إيجابيا على الطبقة الوسطى أو بالأحرى فئاتها القادرة على الادخار. فإن زيادة الفائدة تستلزم رفع الفائدة على شهادات وأذون الخزانة التى تصدرها وزارة المالية. وهذا العبء يضاف إلى أعباء الموازنة الأخرى. وبالمثل سيؤدى رفع الفائدة على قروض الاستثمار إلى زيادة الأعباء على رجال الأعمال والمستثمرين. والصناع منهم تكبدوا خسائر فى زيادة سعر النقل إثر زيادة أسعار النقل.


2- حلول ورهانات

إذا كانت هذه الخسائر أو الفاتورة ليلة الإعدام أو بالأحرى فى اللحظة الأولى للتحرير عند سعر 13 جنيها. فإن هذه الفاتورة مرشحة للزيادة عند وصول الدولار أو أخواته من العملات إلى الأرقام الحالية.

ولكن فى حالات التعويم يحدث انهيار كبير للعملة نتيجة لتخبط أسواق الصرف والعملات من ناحية. والأهم والأخطر هو أن الاقتصاد فى هذه الحالة يحتاج وقتا أطول للوصول إلى نقطة التوازن.

والاقتصاد هو كلمة السر فى الخروج من المشهد الأسود الحالى. وتحريك الاقتصاد هو الرهان الحقيقى للدولة لحظة اتخاذ قرار التعويم. فكل هذه الخسائر والفاتورة لم تكن خافية على الحكومة، ولكننا غامرنا باتخاذ القرار اعتمادا على خطة تنشيط الاقتصاد.

ولذلك لم تكن مجرد مصادفة أن تصدر قرارات المجلس الأعلى للاستثمار الخاصة بحوافز للمستثمرين قبل التعويم بثلاثة أيام. بل إن البعض اعتبر قرارات المجلس مقدمة لقرار التعويم. لأن رهان الحكومة أن تبدأ عجلة الاقتصاد فى الدوران بعد توقيع اتفاق الصندوق. خطة تنشيط الاقتصاد تبدأ بمزيد من القروض بمختلف الأنواع قروض مباشرة، إصدار سندات. ولكنها لا تتوقف بالطبع عن الاقتراض - ولكن بحسب - فإن توحيد سعر الصرف سيؤدى إلى عودة المستثمرين لمصر من ناحية، ووجود وفرة من الدولارات ستضمن لهم الخروج بأرباحهم. بالإضافة إلى حل هذه العقدة. قدمت الدولة حوافز وإعفاءات ضريبية للمستثمرين فى الصعيد والمليون فدان والعاصمة الإدارية، بل إن الدولة قدمت أوكازيونا على سعر الأراضى بنسبة 25% فى بعض المشروعات لمدة ثلاثة أشهر. وتعتقد الحكومة أو تتمنى أن تعود السياحة الروسية والبريطانية والأجنبية إلى معدلاتها قبل نهاية العام. هذه الإجراءات إن حدثت بالسرعة والكثافة المطلوبة. فمن الممكن استيعاب الآثار السلبية العنيفة الأولية للتعويم. خاصة مع اقتراب وصول مصر للاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعى.. فمن المتوقع ارتفاع الاحتياطى بالمركزى إلى 25 مليار دولار من القروض، ولكنه سيتضاعف فى العام القادم من الاستثمارات والسياحة.

وفى هذه الحالة سيبقى أمام أصحاب الدخول المتغيرة فرصة للاستفادة من الانتعاش الاقتصادى. وفى هذه الحالة ستكون لدى الحكومة فرصة أن تعوض أصحاب الدخول الثابتة. ولذلك فإن الرهان الاقتصادى يتطلب وقتا. لا يجب أن نحرق أعصابنا بانتظار أن تتحسن الأحوال خلال شهر أو اثنين. الأحوال ستتحسن إن شاء الله ولكن على مدى زمنى أكبر. لبدء دوران العجلة واستقرار سعر الدولار نحتاج من 3 إلى 6 أشهر. لبدء التحسن الاقتصادى نحتاج من عام إلى عامين.

خلال هذه الفترة ليس أمامنا جميعا سوى العمل بجد وحق حقيقى مهما كان نوع العمل الذى نقوم به. والابتعاد تماما عن أى سلعة مستوردة. اختر المنتج المحلى، وكلما ارتفع نسبة المكون المحلى بالسلعة كان ذلك اختيارا أفضل لأنه سيحتفظ لك بدخلك الحقيقى.

رغم الإحباط والقلق اشتغل وابتعد عن المستورد وعن التجارة فى الدولار. افعل ذلك ليس من أجل عيون المسئولين كبارهم وصغارهم. بل لأجلك أنت قبل أولادك. تحمل هذه المرة لأن الخيار الآخر أصعب من التحدث عنه. فهو خيار لا قدر الله لا أريد الكتابة عنه ولا حتى التفكير فيه.