عبد الحفيظ سعد يكتب: قصة فيلم سينمائى مصرى يخوض مغامرة «الهجرة غير الشرعية»

مقالات الرأي



البر الثانى.. عندما تعجز السينما عن تجاوز تراجيديا الواقع


تجسد صور القتلى، ومشاهد البؤس القادمة من «مركب رشيد» الغارق، مأساة الواقع، بكل ما فيه من فقر وقهر، وأمل مفقود.. تدفع صاحبه أن يغامر ليس بعزوته ووطنه وأهله وأرضه فقط، بل بجسده، وما تبقى له من نبض قلب وضحكة من يحب، وذكريات بكل ما فيها.. يتركها هنا على «البر الأول»..

يحمل روحه.. ويركب البحر على مركب متهالك، أشد بؤسا وقسوة من حياته فى «البر الأول».. يعرف أنه ليس فى يد أمينة، كل ما فيه غادر، البحر ونواته ومطاردة خفر السواحل، و»المافيا» التى تسوقه، وتتعامل معه كسلعة تباع وتشترى.. يعرف المهاجر كل ذلك لكنه يغامر على أمل الحصول على حياة جديدة فى «البر الثانى»..

هذا هو الملخص الواقعى لرحلة عذاب، ما نطلق عليه «الهجرة غير الشرعية».. لكن ماذا عن الخيال؟

«الخيال» كنز المبدعين، يسعى دائما للمبالغة فى رصد الواقع، حتى يتمكن من الوصول لعقل ووجدان المشاهد، يغالى فى الكوميديا، لنحصل على الضحكة، ويزايد من تجسيد التراجيديا، ليدغدغ مشاعرنا..

لكن لا يوجد ما هو أشد قسوة، من مأساة مواجهة البحر ومصارعة الأمواج والتعرض للموت غرقا.. تبدو الصورة هنا أكثر صعوبة، رغم أنها لا تحتاج لتراجيديا أو حبكة الصراع..

تحتاج السينما هنا لما يصور الواقع فقط.. ويسجل المعاناة الحقيقية لناس عاديين من لحم ودم، بلا أى ضمانات أو فيزا المرور، أو جواز سفر أو أية شهادات إثبات شخصية.. اختاروا الطريق غير القانونى (غير الشرعى) للوصول للبر الثانى..

ومن هنا كان الخيار الصعب لعمل فيلم «البر الثانى» الفيلم السينمائى الأول مصريا، وربما عربيا الذى يجسد معاناة «الهجرة غير الشرعية»، والذى تم الانتهاء من تصويره مؤخرا، بصورة واقعية وبإنتاج ضخم، بالنسبة لأرقام السينما لدينا (تجاوز 25 مليون جنيه)، وترجع ضخامة الإنتاج ليس لأجور الممثلين أو صناع العمل، بقدر ما كان سعيه أن تجسيد المعاناة الحقيقية فى قلب البحر.. والقيام برحلة واقعية لهجرة غير شرعية، باستخدام مركب متهالك للعبور من شواطئ مصر، إلى هناك فى البر الثانى فى أوروبا..

الفيلم المرشح المرجح أن يعرض على شاشات السينما فى موسم إجازة منتصف العام فى يناير المقبل، تأخر إنتاجه 6 سنوات، منذ أن تحمس لتنفيذه المخرج على إدريس، بعد أن وضعت له مؤلفة الفيلم زينب عزيز الفكرة، بعد أن ظل البحث عن منتج يستوعب إنتاج عمله بهذه الضخامة، من حيث الديكورات، ومشاهد التصوير فى عرض البحر، فهو لم يصور أيا من مشاهده داخل بلاتوه استوديو، بل كانت كل مشاهده إما فى البحر أو على شواطئ أبوقير أو إسبانيا أو فى قرى رشيد أو حوارى القاهرة ونجوع الصعيد، وظل العمل حبيس الأدراج حتى تحمست له شركة إنتاج حديثة «كرياتيفو»، لعمل الفيلم، بالتصور الذى أراده صناع الفيلم.

هكذا سرد لى الفنان عمرو القاضى، أحد أبطال فيلم «البر الثانى»، الذى دفعنى للحديث معه عندما كنا سويا فى نهاية الأسبوع الماضى، عندما كنا نشاهد معنا حوارا تليفزيونيا مع أحد الناجين من حادث «مركب رشيد»، الذى ظهر وهو مقيد الذراع فى السرير الذى يرقد عليه فى المستشفى، بعد أن فقد فى البحر ابنه وزوجته.

لفت نظرى، وأنا أجلس مع «عمرو القاضى» الذى تجمعنى به صداقه ومعرفة إنسانية ومنشأ مشترك من الصعيد، أن دموعه كادت تفارق جفونه، عندما وجد الناجى ملقى على سرير المستشفى، وقبل أن أستفسر منه عن السبب، قال لي» أنا عشت ظروف الرجل ده وحاسس بمعاناته».

يستكمل القاضى «حقيقى الناس دول يعيشون مأساة جربتها بنفسى فى البحر، رغم أننا كنا نصور فيلما سينمائيا، لكن أردنا ونحن ننفذه أن يكون واقعياً، نجسد فيه معاناة البحر، والتعامل بشك حقيقى مع «مافيا الهجرة» فى مصر أو على البر الثانى فى أوروبا.

قصة الفيلم تحاكى مأساة حقيقية، مأخوذة من الواقع من نماذج أرادت العبور للبر الثانى، لم تختلف ظروفهم كثيرا عن الغرقى فى مركب رشيد، لهم نفس الظروف الاجتماعية والمادية، تضطرهم الظروف للبحث عن سفينة نجاة، لكنها كانت بالنسبة لهم مركب الموت»..

نموذج وشخصيات الفيلم تنتمى لكل مكان فى مصر من الصعيد لعشوائيات القاهرة، لفلاحين من الدلتا، وآخرين من مدن رشيد ودمياط وكفر الشيخ.

يشرح عمر القاضى، معاناة الهجرة الشرعية، عبر تجربته السينمائية الواقعية، دون الخوض فى تفاصيل أحداث الفيلم حتى لا يكشف أحداثه، «عشنا فى البحر أيام وليالى، لكى نرصد مأساة 10 أياماً، المدة التى يستغرقها المركب للعبور البحر للوصول لشواطئ أوروبا، تعرض بعضنا لإصابات ودوار البحر، كنا نخشى الموت رغم أننا كنا نمثل، ولدينا احتياطات للإنقاذ ولدينا أكل وشرب ما يكفى، فما بالنا بهؤلاء الذين يعيشون القصة حقيقة؟».

يكشف القاضى عن قصص أخرى عرفوها أثناء التحضير للفيلم، حول معاناة الراغبين فى الهجرة، فى أحيانا كثيرة، يتحول المهاجرون إلى غنيمة لمافيا أخرى غير مافيا الهجرة، وهو مافيا تجارة الأعضاء، يقول «عرفنا من القصص التى نجمعها أن هناك مافيا أخرى تقوم باستدراج الراغبين فى الهجرة، ليجدوا أنفسهم بدلا من شواطئ أوروبا، على شواطئ ليبيا، وهناك تنتزع أعضاؤهم البشرية، وهم أحياء، عبر عصابات متخصصة فى نقل الأعضاء لأثرياء فى الخليج أو المغرب العربى أو مصر.

ولا تنتهى المأساة حتى لمن تمكن من العبور للبر الثانى (أوروبا)، لكنه هناك على شواطئ أوروبا فى إيطاليا واليونان، يقع فريسة أخرى لأطراف المافيا التى تدير عملية التهريب، هؤلاء ليسوا أقل قسوة من المافيا على البر الأول، أو وسط البحر، يبتزون المهاجرين، يقوم بفعل ما هو أشد قسوة، يحتجزونهم، ويقوم بالتواصل مع أهلهم فى البر الأول، ويعرضون عليهم حياة أبنائهم مقابل أن يدفعوا فدية أو الموت.. أحيانا تضطر أسر أن تبيع كل ما تملك أو أن ترهن بيتها، حتى تفتدى ابنها فى البر الثانى..

إنها قصة معاناة وتراجيديا حقيقية، أكثر بؤسا وظلما لخيال المؤلف وهو ما يرويه الفيلم.

«البر الثانى» يشارك فى بطولته، الفنان محمد على، ومعه عمر القاضى، ومحمد مهران، وعبدالعزيز مخيون، وعفاف شعيب، وبيومى فؤاد، وحنان سليمان وخالد النجدى، مرشح أن يدخل فى المنافسة فى المسابقة الرسمية لمهرجان دبى السينما فى ديسمبر المقبل، ومرشح أيضا للعرض الخاص فى مهرجان برلين المقبل.